تواجه الإحصاءات المؤسَّسيَّة الرَّسميَّة حالةً من التَّباينات وعدم الثَّبات، خصوصًا ما يتعلق مِنْها بالمجالات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة سريعة التَّغيير، ما يُشير إلى وجود حلقةٍ مفقودة في مسارها، إمَّا لغياب التَّحديث المستمرِّ لها أو بسبب عدم وجود قواعد بيانات وطنيَّة مؤطَّرة محدَّثة تعمل على التَّقليل من هذا التَّباين أو سياسة العمل المتَّبعة في إصدار كِتاب الإحصاء السَّنوي للمركز الوطني للإحصاء والمعلومات والَّذي يتناول إحصاءات السَّنة الَّتي قَبله، الأمْرُ الَّذي باتَ يُشكِّل تحدِّيًا كبيرًا في الاسترشاد به للمؤشِّرات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، ناهيك عن وجود تغييب لبعضِ المؤشِّرات الَّتي يُمكِن تصنيفها في الاتِّجاه السَّالب مِثل: مؤشِّرات الفساد وخطِّ الفقر والجريمة وتسريح العُمانيِّين من القِطاع الخاصِّ، أو ما اتَّجه إِلَيْه الرَّصد الإحصائي في ملف الباحثين عن عملٍ من الاعتماد على المعدَّلات، بدلًا من الأرقام، وما شهده هذا الملف من تباينات كبيرة وفجوات تفصح عن وجود حلقة مفرغة في البيانات المقدَّمة للمشهد التَّنموي، يظهر ذلك في ما صرح به وزير العمل في بيانه بمجلس الشوى في فبراير 2023 بأنَّ أعداد الباحثين عن عمل في سلطنة عُمان في تزايد مستمرٍّ، حيث وصل إلى (85.444) وبعد أقلَّ من شهرين وفي المؤتمر الصحفي الَّذي نفَّذته وزارة العمل في إبريل من عام 2023 جاء حديث الوزير أنَّ عدد الباحثين عن عمل بنهاية الرُّبع الأوَّل من عام 2023 بلغ قرابة (110) آلاف مواطن مواطنة، وهكذا استمرَّ التَّباين في الأعداد إلى يومنا هذا، الأمْرُ الَّذي باتَ له تداعياته السلبيَّة على طريقة التَّعامل الرَّسمي مع هذا الملفات، ولعلَّ حالةَ العجز الَّتي تشهدها ملفات التَّوظيف والتَّشغيل والتَّسريح وعدم وضوح مسار العمل فيها إنَّما هو نتاج لهذا التَّضارب في البيانات وغياب المصداقيَّة في البيانات بأعداد الدَّاخلين والخارجين من القِطاع الخاصِّ أو أعداد الباحثين عن عمل والفرص الوظيفيَّة المتوافرة، ويشمل ذلك أيضًا أعداد الوافدين في القِطاعَيْنِ الحكومي والخاصِّ وغيرها، ممَّا كان سببًا في بطء القرارات المرتبطة بهذه الملفات، وكثرة الإجراءات أو التَّقسيمات التَّنظيميَّة الَّتي تمَّ تأسيسها (وزارة القوى العاملة، سجل هيئة القوى العاملة، المركز الوطني للتَّوظيف..إلخ)، وهو ما بدأ يُثير العديد من التَّساؤلات والهواجس حَوْلَ كفاءة بيانات الباحثين عن عمل ومستوى التَّحديث لها، على أنَّ هذا التَّحدي المتعلِّق بتباين الإحصاءات لم يقتصر على هذه الملفات، بل شملت كُلَّ الملفات الأخرى المرتبطة بالاستثمار الأجنبي والصِّناعات التَّحويليَّة ومساهمة الأنشطة غير النفطيَّة ومساهمة السياحة والمؤشِّرات المرتبطة بالأمن الاجتماعي ومؤشِّرات الغذاء والأمن الغذائي والصَّادرات والواردات من دوَل الجوار، وغير ذلك.
ونظرًا لِمَا تُمثِّله الإحصاءات من دَوْر محوري في التَّنمية المستدامة وتوجيه عمليَّات التَّطوير والتَّحديث وتعظيم أثَر البيانات باعتبارها قِيمةً مُضافة لخدمة القرار الوطني، يأتي طرحنا لهذا الموضوع من فرضيَّة ما قد يترتب على التَّباين في إحصاءات المؤسَّسات من تأثير سلبي على القرار الوطني وجاهزيَّته وقدرته على تحقيق الإنتاجيَّة والوصول إلى الغايات الوطنيَّة، فإنَّ التَّحدي الأكبر في تطبيق البرامج الوطنيَّة لِتَحقيقِ رؤية «عُمان 2040» والمستهدفات من الخطط الخمسيَّة التَّنمويَّة والاقتصاديَّة يرتبط بالدَّرجة الأولى بمدى كفاءة وجودة ومصداقيَّة وحداثة البيانات، وقدرتها على تحديد رقم واضح ومحدَّد بالتَّفصيل، كما ينطبق الأمْرُ على المشروعات التَّنمويَّة الَّتي يعتمدها مجلسُ المناقصات وما يظهر عِنْدَ الإعلان عن التَّكاليف الماليَّة للمشروع من تباين وغموض وازدواجيَّة في هذه الأرقام، سواء في تصريحات المسؤولين أو عِندَ الإعلان عَنْها في الصُّحف اليوميَّة قد تصلُ إلى المليون ريال عُماني، الأمْرُ الَّذي يدعو للتَّساؤل أين ذهبَ الباقي؟ وما هي القِيمة الفعليَّة للمشروع؟ وما يعنيه ذلك من الحاجة إلى تقنينٍ واضح في هذا المسار وسياسات وطنيَّة أكثر نضجًا واحترافيَّة وشفافيَّة ومصداقيَّة ووضوحًا، سواء في البيانات والإحصائيَّات أو في قِيمة المشاريع المستندة، أو في وجود قواعد بيانات محدَّثة تعتمد عَلَيْها الحكومة في قراراتها كُلَّما استدعى الأمْرُ ذلك، ولعلَّ ما أفصحتْ عَنْه التراكمات السَّابقة الَّتي صاحبت تطبيق منظومة الحماية الاجتماعيَّة من غياب وجود قواعد بيانات محدَّثة وجاهزة للاستخدام وافتقارها للتَّحديث الصَّحيح للبيانات والمصداقيَّة في صرفِ هذه المنافع للمستحقِّين، والصُّورة القاتمة الَّتي أدَّت إلى التَّعقيد في المعايير والتَّعجيز في المتطلَّبات، الأمْرُ الَّذي أفقدَ هذه المنظومة حيويَّتها ومكانتها واحتواءها للمواطن، ما يؤكِّد على أثَر هذه التَّباينات في الإحصائيَّات والبيانات وتداعياتها على القرار الوطني. وأن يتَّجهَ العمل في ظلِّ تدشين البرنامج الوطني للاقتصاد الرَّقمي، بالإسراع بإنشاء قاعدة بيانات رقميَّة وطنيَّة متكاملة تُلبِّي متطلَّبات المرحلة وتُجسِّد روح التَّكامل بَيْنَ القِطاعات وتكشفُ جوانب الخلَل والهَدر الَّتي ما زالت حاضرةً في الجهاز الإداري للدَّولة قواعد البيانات الوطنيَّة في أبعادها الاجتماعيَّة والمتغيِّرات الديمغرافيَّة المرتبطة بالسكَّان والحالة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والزواجيَّة والإسكانيَّة وغيرها كثير.
وبالتَّالي تضع هذه الإحصاءات الجميع، أفرادًا ومؤسَّسات أمام برامج عمل قادمة، ومحطَّات اختبار ومراجعة وتصحيح، بحيث تتمُّ دراستها وفقَ أُطُر منهجيَّة ولقاءات دَوريَّة مفتوحة، وزيادة المنصَّات الإعلاميَّة والحوارات الشَّبابيَّة، وجلسات النِّقاش المُتخصِّصة، الَّتي تستهدف تفسير هذه الإحصاءات وقراءة أعمق لمؤشِّرات الأداء وتصحيح جادٍّ لِمَا تُفصح عَنْه من ثغرات أو ما تتطلبه من معالجات، وتحليل هذه البيانات بشكلٍ يستوعبها المواطن، ويستطيع أن يُقرِّرَ طبيعة التحوُّل القادم في سلوكه بحسب طبيعة الموضوعات الَّتي تتناولها هذه الإحصاءات، وهو دَوْر ينبغي أن يوجّهَ إِلَيْه المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، عَبْرَ تَبنِّيه لاستراتيجيَّات عمل مقنَّنة، ومسارات تثقيفيَّة وتوعويَّة تتَّسم بالمرونة والحركة والحيويَّة، وتوجيه الأفراد والمؤسَّسات إلى القِيمة المرتجعة من هذه البيانات الإحصائيَّة، والقِيمة النَّوْعيَّة المضافة الَّتي تحملها على مستوى الفرد والأُسرة والمؤسَّسة والمُجتمع في مجال الاختصاص، بما يعكس الجهود والمبادرات والخطط والاستراتيجيَّات المُنفَّذة ونسبة النَّجاح والإخفاقات ـ إن وجدت ـ وربط المعالجات بالمتغيِّرات والظُّروف والعوامل المُجتمعيَّة الدَّاخليَّة والخارجيَّة.
أخيرًا، تطرح معطيات الفاقد في البيانات الإحصائيَّة والأرقام العدديَّة لتكلفةِ المشاريع الحكوميَّة والموازنات الإنمائيَّة وغيرها، الحاجة إلى وجود آليَّة وطنيَّة واضحة المعالم، مُحدَّدة الأدوات، مُحكمة الإجراءات في التَّعامل مع الإحصائيَّات والأرقام العدديَّة الَّتي تُقدِّمها الحكومة ويتعامل معها المركز الوطني للإحصاء والمعلومات في قِطاعات التَّنمية المختلفة، وإيجاد آليَّات واضحة مُلزمة في التَّعامل معها من قِبل المؤسَّسات والقِطاعات ذات العلاقة خصوصًا تلك المتعلِّقة بالمنظومة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والأمنيَّة (الجرائم والظَّواهر السلبيَّة) والأخلاقيَّة أو تلك المرتبطة بالاستقرار المعيشي وتحقيق الحياة الكريمة للمواطن العُماني، بما يُمكِن أن يطرحَ من تساؤلات حَوْلَ ماذا بعد نشر المركز لهذه الإحصائيَّات؟ وكيف يُمكِن توظيف هذه التَّقارير الإحصائيَّة والجهود المبذولة في سبيل خلق تحوُّل نَوْعي في عمل المؤسَّسات عَبْرَ وجود آليَّات عمل واستراتيجيَّات أداء وخطط تنفيذ وبرنامج متابعة لها؟ وأن يعالجَ المركز الحلقة المفقودة النَّاتجة عن التَّغييب الحاصل لمسار المتابعة لنواتج المسوحات والدِّراسات والتَّقييمات وعمليَّات الرَّصد الَّتي يُنفِّذها، ومدَى وصولها مكتملة ومفصَّلة مدعومةً بالشَّواهد والبدائل والسيناريوهات إلى الجهات المعنيَّة وجديَّة الأخيرة في الأخذ بها، ودَوْر المركز في تَبنِّي سياسات الدَّعم للمؤسَّسات في آليَّة التَّعامل مع هذه الإحصائيَّات والإجراء القادم المرتبط بها على مستوى تنفيذ الالتزامات فإنَّ من شأنِ هذا التَّوَجُّه أن يُعزِّزَ من الخيارات والفرص الَّتي تُتيح للمركز الوقوف على نواتج التَّطبيق القادمة، وأنَّ عملَه الَّذي قام به وجِدَ من الاهتمام والمتابعة ما يستحقُّه من الجهات المُختصَّة وفق أدوات واضحة للمتابعة ومؤشِّرات التَّحقُّق والتَّنفيذ، وفق أدوات واضحة للمتابعة ومؤشِّرات التَّحقُّق والتَّنفيذ، في ظلِّ اعتمادها على منهج إحصائي رصين يتَّسم بالشفافيَّة والوضوح مبنيًّا على تعدُّد أدوات التَّقصِّي والبحث والرَّصد في الحصول على المعرفة والمعلومة الصَّحيحة، والمتوزِّعة بَيْنَ النَّشرات الإحصائيَّة الشَّهريَّة والإحصائيات التخصصيَّة، والمسوحات الإلكترونيَّة الدَّوريَّة، واستطلاعات الرَّأي، وغيرها، ونقل هذه البوَّابة المعلوماتيَّة الواسعة عَبْرَ منصَّات التَّواصُل الاجتماعي لِتُشكِّلَ في مُجملها رصيدًا معرفيًّا وإنتاجًا فكريًّا يُوثِّق البيانات بطريقةٍ منهجيَّة ويفرغها وفق متغيِّرات واسعة ليستفيدَ مِنْها الباحثون والأكاديميون والطَّلبة والمؤسَّسات وتعتمد عَلَيْها القرارات الوطنيَّة في تصحيح وإدارة وضبط وإعادة إنتاج الواقع.
د.رجب بن علي العويسي