الصدمة التي أحدثها قرار الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جو بايدن بالعفو عن ابنه هانتر يوم الأحد الماضي، لتبرئته قبل صدور أحكام ضده الشهر الجاري بتهم تتعلق بالسلاح في «ديلاور» وإقرار بالذنب في التهرب الضريبي في كاليفورنيا لم تصب فقط الجهاز القضائي الأمريكي لكن أكثر المتأزمين منها هو شخص الرئيس المنتخب دونالد ترامب. ويبدو أن بايدن عازم على توريث ترامب تركة هائلة من التعقيدات لعرقلة مشروعه السياسي الذي يبدو أيضاً أنه يستهدف استئصال سطوة ما يُعرف في الأروقة السياسية الأمريكية ب «المؤسسة الحاكمة» في الولايات المتحدة المرتكزة على أجهزة «الدولة العميقة»، والإتيان بطاقم حكم جديد من خارج هذه «المؤسسة» التي يعتزم ترامب تفكيكها.
إرث التعقيدات التي يجتهد بايدن توريثها للرئيس المنتخب دونالد ترامب متنوعة، لكن أبرزها ما يتعلق بالحرب الأوكرانية، والحيلولة دون تمكين ترامب من الوفاء بعهوده التي أكدها طوال حملته الانتخابية بحل هذه الأزمة، خشية أن يكون هذا الحل على حساب أوكرانيا ولصالح روسيا التي سعى بايدن وحلف شمال الأطلسي للحيلولة دون انتصارها في أوكرانيا، باعتبار أن هذا الانتصار يمكن أن يطلق المشروع الروسي بالتأسيس لنظام عالمي بديل متعدد الأقطاب على حساب الزعامة الأمريكية المتفردة للنظام العالمي الحالي.
من أبرز ذلك الإرث السلبي الذي عمل بايدن على توريثه للرئيس ترامب باتخاذه قراراً، كانت تعمل أوكرانيا جاهدة من أجل صدوره، بتمكين الجيش الأوكراني من استخدام ما لديها من صواريخ أمريكية من طراز «أتاكمز» لضرب عمق الأراضي الروسية إضافة إلى طلب إدارة بايدن من الكونغرس الأمريكي تخصيص 24 مليار دولار إضافية لتزويد أوكرانيا بالأسلحة، وفقاً لما نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» (27-11-2024)، الأمر الذي دفع الصحيفة إلى التساؤل: هل ما تبقى من أيام من ولاية بايدن سيكون كافياً لتزويد أوكرانيا بكل تلك المليارات، مع العلم أنه مازال لدى السلطات الأمريكية أكثر من 6,5 مليار دولار أمريكي متبقية لسحب الأسلحة من مستودعات الجيش الأمريكي، أم أن الهدف هو توريث ترامب هذه المليارات وإلزامه بإنفاقها على تسليح أوكرانيا، وهو أمر يتعارض كلية مع مشروع ترامب لحل الصراع الأوكراني سياسياً ووقف الحرب بين أوكرانيا وروسيا؟
وكانت صحيفة «نيويورك تايمز» قد كشفت مساء الأحد (17-11-2024) أن الرئيس الأمريكي جو بايدن سمح للقوات الأوكرانية بتوجيه ضربات باستخدام صواريخ «أتاكمز» الأمريكية بعيدة المدى على أراضي روسيا الاتحادية. وبالفعل أعلنت السلطات الروسية أن أوكرانيا استخدمت هذا الصاروخ يوم الثلاثاء (19-11-2024) ضد منشأة في منطقة «بريانسك» الروسية، الأمر الذي أثار التساؤل حول مغزى وأهداف هذا القرار الأمريكي الذي شجع فرنسا وبريطانيا على اتخاذ قرارات مماثلة على خلفية أن روسيا دفعت بقوات من كوريا الشمالية للقتال ضمن قواتها المحاربة في أوكرانيا. وجاء ترحيب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالقرار الأمريكي ليؤكد هذا التوجه، حيث رحب الرئيس ماكرون، على هامش مشاركته في قمة مجموعة العشرين في مدينة ريودي جانيرو البرازيلية بقرار الولايات المتحدة السماح لأوكرانيا باستخدام أسلحة أمريكية بعيدة المدى لضرب أهداف في عمق الأراضي الروسية، وقال: «إن هذا التغيير في موقف واشنطن مناسب تماماً».
هذا القرار الأمريكي الصادر قبيل أسابيع معدودة من انتهاء ولاية الرئيس جو بايدن، الذي فجر موجة لم تنته من التهديدات الروسية بضرب قواعد عسكرية للدول الداعمة لأوكرانيا باستخدام مثل هذه الصواريخ لتهديد السيادة الروسية، واللجوء إلى استخدام أسلحة نووية بعد تغيير «العقيدة النووية» الروسية، سيورث لإدارة الرئيس الجديد دونالد ترامب الكثير من المصاعب، وربما يكون هذا هو المعنى المقصود، أي إجبار إدارة ترامب على الدخول في مواجهة عسكرية مع روسيا وليس حل الصراع الأوكراني سلمياً، ما دفع صحيفة «سبكتاتور» للتساؤل عن احتمال قيام ترامب بإلغاء هذا القرار الذي اتخذه الرئيس بايدن، وقالت «هناك فرصة كبيرة لأن يتراجع ترامب عن هذا القرار»، وأشارت إلى أن معسكر ترامب «اتهم بايدن بمحاولة (تصعيد الصراع)»، ونقلت عن «ستيفن تشونغ» مدير اتصالات فريق دونالد ترامب الانتقالي تعليقه على قرار سماح بايدن لأوكرانيا بضرب عمق روسيا أن «الرئيس الأمريكي المنتخب فقط يستطيع دفع طرفي الصراع في أوكرانيا إلى المفاوضات».
روسيا التي أكدت على لسان وزارة الدفاع بأن القوات الأوكرانية قصفت «منشآت» في منطقة كورسك الروسية الحدودية يومي 23 و25 نوفمبر/ تشرين الثاني الفائت، هددت بأن رفع القيود الأمريكية عن استخدام الصواريخ الغربية بعيدة المدى لاستهداف مناطق في العمق الروسي يعبر عن «مرحلة جديدة ونوعية في الصراع تعكس انخراطاً مباشراً للدول الغربية في العمليات العسكرية»، وبادرت بالرد على تلك التهديدات بقصف أوكرانيا لأول مرة بصارخ «أوربشنيك» (الفرط صوتي) لأول مرة كمؤشر روسي جاد على التصعيد ضد التصعيد الغربي، في إشارة مربكة للرئيس الأمريكي الجديد.
د. محمد السعيد إدريس