لن نتحدَّثَ عن الحدث الأهمِّ في الوطن العربي، وهو تغيير النِّظام في سوريا، لِنتركَ مجالًا من الزَّمن لمعرفةِ ما ستُفرزه الأحداث سلبًا وإيجابًا. إلَّا أنَّ الموضوع الَّذي يتجلَّى مع تقادُم الزَّمن هو قضيَّة الأمن القومي العربي، وكيف يُمكِن للعربِ استعادةُ عواملِ الوحدة وتقرير المصير؟ وما تداعيات المتغيِّرات والأحداث الرَّاهنة على المنطقة وعلى المقاوَمة؟ وهل يُمكِن للعربِ استعادةُ زمامِ المبادرة في ظلِّ هذه الأوضاع؟ وهل يستدركُ النِّظام الرَّسمي العربي ولو متأخرًا مسؤوليَّته القوميَّة ومدَى ارتباط القومي بالحالة الوطنيَّة؟ لا سِيَّما أنَّ العدوَّ هو نَفْسه، والمستهدف في هذا المشهد هو العرب أنْفْسهم طالَما أنَّ مشروع «إسرائيل» الكُبرى باقٍ، وطالَما أنَّ الفرزَ العسكري مع فصائل المقاوَمة لم يسجِّلْ نهايةً لأيٍّ من الطرفَيْنِ؛ وما زالتِ الذِّراع العسكريَّة الصهيونيَّة تضربُ دُونَ حدودٍ مُعيَّنة ولا توجدُ خطوطٌ حمراء، ولا يستنكفُ اليمين الصهيوني المتطرِّف من التَّلويح بمشروعِه علنًا، وعجلة الإرهاب الصهيونيَّة تَدُور في أكثر من اتِّجاه، والحديث هُنَا عن الهدف التَّالي بشكلٍ بلطجي رسمي واستثمار انهيار الدوَل للتوسُّع في احتلال الأراضي وتدمير كُلِّ مقدّرات الدوَل الَّتي يُمكِنها أن تكُونَ معزّزة لحالتها الوطنيَّة في المستقبل في مشهدٍ سوداوي قاتم يتطلبُ نهضةً عربيَّة حقيقيَّة كيفما تكُونُ شكلًا ومضمونًا قَبل فوات الأوان، وقَبل أن نجدَ ما نتحدَّث عَنْه قد وقعَ بالفعلِ بَيْنَ عشيَّة وضحاها.
المقاوَمة الفلسطينيَّة وقواعد إسنادها في لبنان واليمن والعراق ما زالتْ تحتفظُ ببعضِ قدراتها، وهناك جيلٌ قادم بدأ ينخرط في شرفِ النِّضال والمقاوَمة، وحتَّى لو فقدَتِ المقاوَمة في أرض الرّباط (فلسطين) بعضَ قدراتِها في الوضعِ الرَّاهن سوف يُهيئ الله سبحانه من بعدِهم قومًا أشدَّاء ذوي بأسٍ شديد يستكملون مشروع التَّحرير. وكما حدَث بعد انتفاضة الأقصى ورحيل عددٍ كبير من قيادات المقاوَمة، جاء جيلٌ آخر أشدُّ بأسًا وتبنَّى زمام المبادرة بالقتال في عُقر مستوطنات وقواعد العدوِّ (المُحتلَّة) وما زالتْ ثقافة المقاوَمة تفرضُ نَفْسَها على السَّاحة تَقُودُ أولئك الرِّجال على محور الهدف النِّهائي وهو مشروع التَّحرير، ورغم أنَّ هذه المقاوَمة بحاجةٍ إلى دعمٍ فعليٍّ وحاضنةٍ جماهيريَّة عربيَّة إسلاميَّة أوسع، لكن مع ذلك تبقَى المقاوَمة في فلسطين وجبهاتها الدَّاعمة هي الضَّوء الأكثر تجليًا ووضوحًا في مستقبل القضيَّة .
العدوُّ الصُّهيوني اليوم يفكِّر بإنهاء المقاوَمة في لبنان وتحقيق ما أمكنَ في كسرِ شوكة المقاوَمة في فلسطين، ولكنَّ هذه المقاوَمة ـ بطبيعة الحال ـ باقية لا يُمكِن تفكيكُها، ونتائج طوفان الأقصى ما زالتْ واضحةً للجميع بعد (430) يومًا من العدوان الَّذي دمَّر كُلَّ شيء في قِطاع غزَّة، لكنَّه لم يستطعْ ضربَ ثقافة المقاوَمة أو تحقيقَ هدفٍ واحد من أهداف العدوان، وما زالَ العدوُّ يتجرَّع الألَم وأزماتُه قائمةٌ سياسيًّا وعسكريًّا وأمنيًّا ومعيشيًّا، وانكشفَ دوليًّا أمام المُجتمع الدّولي، لا سِيَّما بعد إصدار مذكّرة القبض على مُجرِمَي الحرب في الكيان الصهيوني (النتن ياهو) ووزير الحرب جالانت، ورغم ذلك يُحاول العدوُّ الهروبَ للأمام في مناطقَ أُخرى وساحاتٍ عربيَّة جديدة. ولا يُستبعد أيضًا أن يصلَ بعيدًا عن دائرة الطَّوق والمواجهة، ولكن تمدُّداته العسكريَّة لا تعني أنَّه تخلَّصَ من هواجسِ الأمنِ والزَّوال أو يستطيع أن يُقدِّمَ ضماناتٍ لمستوطنِيه بالبقاء في ما يُسمَّى (إسرائيل) مطلقًا، وهي المسألة واضحة وجليَّة في قضيَّة الهجرة العكسيَّة وتداعياتها الديموغرافيَّة أيضًا.
الجانب الرَّسمي العربي ينبغي أن يدركَ اليوم أكثر من أيِّ وقتٍ مضَى حجمَ المخاطرِ المُحدِقة بالدَّولة الوطنيَّة أوَّلًا والنّطاق القومي الأوسع ثانيًا؛ وذلك نتيجةَ وجودِ مشروعٍ صهيوني مدعوم من قِبل قوى عالَميَّة كانتْ وما زالتْ تؤدِّي دَوْرًا كبيرًا في الوطن العربي. وهذا الرَّبط بَيْنَ الحالة العربيَّة والأطماع الصهيونيَّة لن ينتهيَ على الإطلاق طالَما وُجِدتْ هذه الغدَّة السَّرطانيَّة في قلبِ الوطن العربي. والسُّؤال هُنَا: كيف يُمكِن للنِّظام الرَّسمي العربي أن يدركَ خطورةَ المشهد بعدما تشظَّتْ كُلُّ القوى العربيَّة من العراق إلى المغرب العربي؟ وكيف يُمكِن استعادةُ زمامِ المبادرة في وحدة الموقف العربي طالَما أنَّ الحالةَ العربيَّة الرَّسميَّة بهذا المستوى المتراجع؟!
لا شكَّ أنَّ الهدفَ التَّالي للصهيونيَّة سيضعُ بالاعتبار اتِّجاهاتٍ عربيَّةً شرقيَّة وغربيَّة، فهناك الضفَّة الغربيَّة وما بعدَها، وهناك قِطاع غزَّة المُدمَّر وما بعده في اتِّجاهات العدوان الاستراتيجيَّة الَّتي لن تتوقَّفَ الآن، وهذه طبيعة غلاة الصهيونيَّة. إذن دوَلنا العربيَّة هُنَا مُهدَّدة والوقت الرَّاهن يُعدُّ هو الأنسَب لِتَحقيقِ اجتياحاتٍ وزيادةٍ في خريطة «إسرائيل» الكُبرى (من النِّيل إلى الفرات) إلَّا أنَّ العدوَّ لن يتحرَّكَ في أكثر من اتِّجاه، فهو الآن في اتِّفاق مع حزب الله، ولكنَّه سوف يتجاوز ويتمُّ اختراق هذا الاتِّفاق عمَّا قريب، وقد أمَّن جبهتَه من جهةِ الجولان. وبالتَّالي سوف يُقيِّم الأوضاع هل إنجاز المُهمَّة في لبنان أوَّلًا؟ أم تأجيل ذلك باعتبار أنَّ قدرات المقاوَمة وتمرُّسَها في القتال لدَى حزب الله وفصائل المقاوَمة أكثر صلابةً عمَّا هو الحال في بعض الجيوش العربيَّة النِّظاميَّة؟ وفي كُلِّ الأحوال ما هو مؤجلٌ اليوم سيتحقَّق غدًا في ظلِّ هذه الأوضاع العربيَّة السَّائدة الَّتي لا تُوحي بأنَّ النِّظام الرَّسمي العربي يُقدِّم معالجات تاريخيَّة لهذا الخللِ لِتَحقيقِ تغيير ضِمْن مشروع استراتيجي عربي تستوجبه المرحلة. ونسألُ الله أن تستدركَ الأُمَّة رسميًّا وشَعبيًّا هذا الواقع وتتبنَّى زمام المبادرة للحفاظِ على مقدّراتِ الأُمَّة، والحفاظ على أمنِ وسلامةِ وحدود الجغرافيا العربيَّة من المحيطِ إلى الخليج.
خميس بن عبيد القطيطي