تُمثِّل الثِّقة أحَد مُحدِّدات العلاقة التكامليَّة بَيْنَ الحكومة والمواطن، فمن جهة تقع على الحكومة وعَبْرَ مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة مسؤوليَّة وفائها بالتزاماتها الَّتي قطعَتها على نَفْسها نَحْوَ المواطن أمنه واستقراره وتعليمه وسلامته ومعيشته، وهي التزامات مبنيَّة على جملة من الموجِّهات والاستراتيجيَّات والأُطُر والمسارات المنبثقة من النِّظام الأساسي للدَّولة والتَّشريعات والقوانين النَّافذة، في سبيل بناء صورة تكامليَّة تنصهر فيها كُلُّ العناصر الوطنيَّة والعلاقات الوظيفيَّة لصالحِ الوطن.
ولمَّا كانتْ هذه الثِّقة قائمةً على جملة الممكنات والمهام والمسؤوليَّات بهدف جعل جسور التَّواصُل ممتدَّة وخيوط الارتقاء والتقارب قويَّة، ضامنة الحقوق وتعزيز الإنتاجيَّة والمحافظة على قواعد العمل الوطنيَّة وتوجيه البوصلة في إطارها الصَّحيح، فإنَّ بناء هذه الثِّقة وتعزيزها وتعظيم مسارها وخلْقَ الممكنات الَّتي تحافظ على وجودها وتعمل على استدامتها أولويَّة وطنيَّة وخيار استراتيجي للمرحلة يَضْمن الانطلاقة من المشتركات والهاجس الوطني والحسَّ المسؤول نَحْوَ الوطن وقِيَمه والولاء المتفرِّد لقيادته الحكيمة، والانصهار الكُلِّي في بوتقة الوطن العظيم، بحيث يضع الجميع في الاعتبار، وتقديم المصلحة الوطنيَّة العُليا على المصالح والغايات الشَّخصيَّة والاهتمامات الفرديَّة يؤسِّس اليوم لمرحلة متقدِّمة تصبح فيه مسألة ثقة المواطن في المنجز الوطني والأداء الحكومي محصلةً نهائيَّة لتكامل الجهود وإدراك القائمين على مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة لمسؤوليَّاتهم نَحْوَ ترسيخ ثقافة العمل الوطني القائم على الشَّراكة النَّاجزة من أجْلِ بناء الثِّقة؛ فإنَّ تحقيقَ التنافسيَّة المؤسَّسيَّة في البحث عن كُلِّ ما يؤدِّي إلى استشعار كرامة المواطن وقِيمته في الجهد المؤسَّسي واستحضاره في أجندة العمل الوطنيَّة، مرتبط بمعيار الثِّقة الَّتي تكسبه قيادات مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة للمواطن المستفيد من خدماتها، أو العامل في أروقتها وتحقيق مهامها واختصاصاتها، وتجسيد ذلك وفق المسار الوظيفي ومتطلبات الوظيفة العامَّة، الأمْرُ الَّذي يَضْمن تَبنِّي مبادراتها والاهتمام بخططها والوقوف مع مرئيَّاتها، واتِّساع المشاركة المُجتمعيَّة في برامجها ومبادراتها ونقل مساعيها التَّطويريَّة وجهودها إلى المُجتمع من خلال المواطن نَفْسه ـ الحلقة الأقوى في التَّغيير والإلهام الجمعي، وحصولها على استحقاق الاعتراف المُجتمعي والتَّقدير الاجتماعي، الَّذي يُعَبِّر عن انتمائه لها واعترافه بقدراتها وثنائه على إنجازها.
على أنَّ تحقيقَ معيار الثِّقة كأحَد مُحدِّدات التَّغيير وعلامات النُّضج المؤسَّسي وأحَد متطلَّبات بناء مسارات متوازنة في العمل الوطني المسؤول، ونقل الإدارة والخبرة إلى أرض الواقع تستدعي وجود منهجيَّات واضحة واستراتيجيَّات أداء دقيقة، وأنظمة وبرامج عمل تواصليَّة واتِّصاليَّة مُتعدِدة الاتِّجاهات، تعمل على تبسيط الإجراءات واختصار الآليَّات، ووضوح المهام والاختصاصات، والاهتمام بقياس كفاءة المنجز الوطني والقِيمة المُضافة للإنجاز عَبْرَ نماذج قياسيَّة ومعايير مقنَّنة، وبناء حوار مؤسَّسي مستدام قادر على خلقِ التَّكامليَّة وتعظيم الشَّراكة الَّتي تحافظ على حضور جميع العناصر وإشراكها في رسم ملامح التَّغيير وبناء سيناريوهات العمل، ما يؤكِّد على أهميَّة وجود مؤسَّسة للحوار الوطني تعمل على تقليل الفجوة والتَّراكمات وحالة التَّنازع والهدر في الاختصاصات والمهام، وتعظيم المنصَّات التَّواصليَّة والإعلاميَّة بالشَّكل الَّذي يَضْمن قدرته على حلحلة التَّحدِّيات والوقوف على المُشْكلات والتَّفكير الجمعي في إيجاد وإنتاج الحلول المشتركة، والاهتمام بقياس الرَّأي والرَّأي الآخر، وتعظيم مسألة الثَّبات في الإجراءات الوطنيَّة المُعزِّزة للأمن النَّفْسي والمعيشي والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والوظيفي للمواطن للحدِّ من تسارع الإجراءات التَّغييريَّة الَّتي أدَّتْ إلى اتِّخاذ قرارات ارتجاليَّة بوحدات الجهاز الإداري للدَّولة غير مدروسة النَّتائج والأثَر أو غير واضحة المسار والمرتجع النَّاتج عَنْها، وتقييم ومراجعة البرامج والمشاريع التَّنمويَّة والاقتصاديَّة المرتبطة بمستهدفات رؤية عُمان أو برامج ومبادرات المؤسَّسات، أو الَّتي تمَّ اتِّخاذها في فترات سابقة ولظروفٍ معيَّنة، خصوصًا ما يتعلق بالمسار الاقتصادي وخطَّة الاستدامة الماليَّة الَّتي وضعَتِ المواطن في خطِّ الاستهداف من خلال رفع الدَّعم عن الكهرباء والماء وتطبيق الضَّرائب، وارتفاع رسوم الخدمات الحكوميَّة، وإيجاد مختبر وطني لقياس الرَّأي العامِّ وتحليله وتَبنِّي سياسات وطنيَّة تُعظِّم من دَوْر البيانات والإحصاءات في القرار الوطني، وقياس مدَى وصول هذه الرِّسالة التَّواصليَّة والخطابيَّة وكفاءتها واكتمالها وقدرتها على التَّأثير في الواقع وتغيير القناعات وتصحيح الممارسات، وقياس مدَى أثَر الرِّسالة الإعلاميَّة المرتجعة، وإعادة تصحيح منظومة الجهاز الإداري للدَّولة في ظلِّ نتائج تقرير جهاز الرَّقابة الماليَّة والإداريَّة للدَّولة والصُّورة الَّتي يَجِبُ أن يكُونَ عَلَيْها في إطار تعظيم مسار النَّزاهة والرَّقابة وحمايَّة الحقوق والمال العامِّ، وتَبنِّي سياسات وطنيَّة أكثر إجرائيَّة تحافظ على سقف التَّوازنات الفكريَّة والنَّفْسيَّة والاقتصاديَّة في حياة المواطن وإدارة مشاعره في التَّعامل مع التَّحدِّيات الاقتصاديَّة والظُّروف المعيشيَّة، وإعادة توجيه الطلَّة الإعلاميَّة للمسؤول الحكومي في إطار تعزيز منحى الشَّفافيَّة والوضوح وكفاءة الخيارات والمقترحات العمليَّة والبدائل والمساحة المقدّمة في تقديم صورة تغييريَّة لِمَا يدَوْر في أروقة المؤسَّسات وموقع المواطن مِنْها، وإلى أيِّ مدى يُشكِّل المواطن محطَّة القوَّة في هذه الجهود، بحيث تكُونُ هذه الطلَّة كاشفة للمنجز المؤسَّسي وواقفة عِندَ الإخفاقات والتَّجاوزات، الأمْرُ الَّذي سيضع الحكومة أمام ثقة المواطن في أنَّ ما تُقدِّمه الحكومة ووحدات الجهاز الإداري للدَّولة، إنَّما يُعَبِّر عن طموح المواطن ويُحقِّق تطلُّعاته ويفي باحتياجات ويتقاسم المشترك مع المواطن من أجْلِ المصلحة الوطنيَّة العُليا، وتبسيط الإجراءات والحدِّ من سلسلة التَّطويل في الممارسة الإداريَّة الَّتي باتَتْ تشوِّه صورة المنجز الوطني والجهد المؤسَّسي، والعمل على تعظيم دَوْر المورد البَشَري الوطني وتعظيم أثَره في تحقيق أحلام المستقبل، وصناعة القدوات وإنتاج القدرات الوطنيَّة.
لقد شكَّلتْ هذه التَّراكمات عقدةً في طموح المواطن وتوليد البدائل وتنشيط حركة الوعي والعطاء والمبادرة والإنتاجيَّة لدَيْه، وأوجدتْ فيه بعض الفتور والتَّراجع، في الكثير من الثَّوابت والمشاعر الوطنيَّة، ما يؤكِّد اليوم في إطار تجديد الثِّقة على أهميَّة وضع المواطن في صورة ما يحصل في أجندة الحكومة وأروقة المؤسَّسات، وتجديد الصُّورة الذهنيَّة المُشرقة للمواطن حَوْلَ مستقبل رؤية «عُمان 2040»، الأمْرُ الَّذي يؤكِّد على أهميَّة رفع درجة الجاهزيَّة الوطنيَّة في التَّعامل مع احتياجات المواطنين المتغيِّرة والمُتسارعة من الخدمات وتعظيم إشراك المواطنين والقِطاع الخاصِّ في هذا الشَّأن للوصولِ إلى منجزٍ تنموي اقتصادي وسياحي واجتماعي منتج يشعر المواطن بأنَّه جزء من تشكيلته، وفتح خيارات أوسع في إنتاج المواطن اقتصاديًّا وتعظيم حضوره في البرامج الاستثماريَّة والعقود التَّشغيليَّة في تنفيذ المشاريع الصَّغيرة والمتوسِّطة وريادة الأعمال، الأمْرُ الَّذي سيضعف حجم التَّضييق والمنع على المواطن، وتبقى عمليَّة المحافظة على مشاعر المواطن في مستواها الإيجابي مرتبطةً بالحدِّ من التَّأثيرات السلبيَّة للالتزامات البنكيَّة والقروض الَّتي كدَّرت على حياة المواطن وأسهمَتْ في تقليل مستوى الحافز والثِّقة لدَيْه في ظلِّ تغييب مسار الإصلاح في الإجراءات البنكيَّة ومراجعة نسبة الفوائد والاستقِطاعات للمشاريع الاقتصاديَّة والمؤسَّسات الصَّغيرة والمتوسِّطة، وما يُمكِن أن يسهمَ به وقوف الحكومة مع مسألة الجمعيَّات التَّعاونيَّة عامَّة وإشهار جمعيَّة الغارمين وغيرها من فرص تحفظ مسار الثِّقة في الجهد الحكومي، بالإضافة إلى تعزيز الإعلام الوقائي الدَّاعم للمواطن والمناصر لحقوقِه، القادر على نقل صوته بكُلِّ شفافيَّة لجهاتِ الاختصاص، حاملًا هواجس الباحثين عن عمل والمُسرَّحِين من أعمالهم واضعًا مقترحات المواطنين واهتماماتهم وأولويَّاتهم طريقه في إيصال رسالته الجماهيريَّة مقدِّمًا الدَّعم الفكري والثَّقافي والمعلوماتي الَّتي يحافظ على كفاءة مسار الوعي وارتفاع سقفه في حياة المواطن.
أخيرًا، تبقَى الثِّقة معيارًا أصيلًا، للإصلاح والتَّحسين وقياس الأثَر النَّاتج من تقييم ومراجعة المبادرات والمشاريع والبرامج الوطنيَّة، وتوجيه الاستقرار الاقتصادي والفائض في الموازنة العامَّة للدَّولة نَحْوَ رفع دخل الفرد، ومع ذلك فهي ليسَتِ الصُّورة الوحيدة لبناء الثِّقة، بل تتَّخذ أنماطًا أخرى في إطار شراكة الجميع في المسؤوليَّة والإنجاز، وعَبْرَ علاقة متجذِّرة مرتكزها الثَّوابت والمواطنة والهُوِيَّة وحُب عُمان وجلالة السُّلطان، خيوطًا ممتدَّة تحفظ مسار الثِّقة ممدودًا كاستحقاقٍ وطني نابع من الشُّعور الجمعي بالمسؤوليَّة والالتزام بالتَّعهُّدات نَحْوَ الآخر، ومحطَّة لالتقاط الأنفاس في تغيير الصُّورة الذِّهنيَّة السلبيَّة الَّتي باتَ يسقطها المواطن على الجهد الحكومي في ظلِّ تشوّهات الواقع وتصدّر المشهد، كومة الممارسات الفرديَّة والقرارات الارتجاليَّة.
د.رجب بن علي العويسي