في (30) ديسمبر (2006)، صدمت مشاهد إعدام الرئيس العراقي “صدام حسين”، الرأي العام العربي بصورة تجاوزت حسابات جلاديه، وألقت بظلالها على حسابات القوى الدولية والإقليمية ومراكز النفوذ في بلد عربي مركزي، أخذ يتفكك وتعصف به حمامات الدم والحروب الطائفية .
ما زالت صور النهاية ماثلة في الذاكرة العامة، تستعصي على النسيان .
عند لحظات نهاية أخرى، افتقد الرئيس السوري “بشار الأسد” أي قدر من هيبة النهايات .
لم يتحمل مسئولية الدفاع عن عاصمة بلاده، وفر من المعركة، دون أن يطلق رصاصة واحدة، لم يتحدث إلى شعبه ولا شرح قضيته – إن كانت هناك قضية .
من موسكو، حاول أن يشرح موقفه بأثر رجعي في بيان مقتضب، دون أن يقول شيئاً يغير من الصورة المخجلة، التي بدا عليها عند لحظات النهاية .
ذهب “صدام” إلى الموت في كبرياء شامخاً أمام مشنقته ، أجبر خصومه على احترامه ، واكتسب شعبية ، لم تتوفر له طوال خمسة وثلاثين عاماً ، حكم فيها العراق .
طوال سنوات حكمه، بدا “صدام” مشغولا بصورته- الرجل القوي، الحازم، الذي يلحق دائماً الهزائم بخصومه السياسيين، يمسك بمقاليد السلطة بيد من حديد، وكانت تماثيله المنتشرة في أرجاء العراق، واحتفالات أعياد ميلاده، وصوره وهو يسبح في نهر دجلة، أو وهو يطلق الرصاص من بندقيته في الهواء أمام حشود جماهيرية، مقصودة لتؤكد معاني أرادها، غير أن كل تلك الصور استخدمها خصومه لتشويه صورته والطعن فيه، ووصمه بالاستبداد والاستغراق في لعنة الدم .
هناك قصة موحية للصورة التي أرادها “صدام” في تلك الأيام البعيدة من مطلع الثمانينيات في القرن الماضي، عندما اعترض على مشهد في فيلم “الليالي الطويلة” للمخرج المصري الراحل “توفيق صالح” عن عملية محاولة اغتيال الرئيس العراقي الأسبق “عبد الكريم قاسم” في شارع “الرشيد” ببغداد .
المشهد يصور انتزاع رصاصة من قدمه، في مخبأ سري حمله رفاقه إليه، وهو يتألم، وهذا شعور إنساني طبيعي، لكنه اعترض عليه، فهو لم يصرخ ألماً ، حتى داهمتنا صوره، وهو يواجه الموت في غرفة الإعدام .
يبدو أنه درب نفسه على ملاقاة الموت منذ أيام العمل السري في خلايا حزب البعث، وفي أيام الاغتيالات السياسية المتبادلة بين البعثيين والشيوعيين، وبعد تولي السلطة والانفراد بها .
ربما أراد جلادوه بتصوير مشاهد النهاية التنكيل به والاستهزاء بإنسانيته، بظن أنه سوف ينهار، ويركع
ضعيفاً أمام الرأي العام العربي، الذي منحه قدراً كبيراً من التأييد أثناء سنوات الحصار الطويلة، وفي بدايات العمليات العسكرية ضد العراق التي انتهت باحتلاله .
ذهب إلى مشنقته على قدميه ، صاعداً سلالم الموت بلا وجل أو تردد ، علت وجهه سماحة ، افتقدها طوال عمره ، أضفت الصور عليه سمت الشهداء والقديسين والرجال الكبار في تاريخ الإنسانية الذين تعرضوا لمحن مماثلة .
ساعدت صور “صدام حسين” في المحاكمات الهزلية على مسح صورته التي قيل ، إنها أعقبت خروجه من الحفرة ، والتي بدا فيها هزيلاً وضعيفاً .
بحسب شهادة رئيس الوزراء الروسي الراحل “يفجيني بريماكوف”، ضمنها مذكراته “الشرق الأوسط.. المعلوم والمخفي” ، وهو رجل استخبارات محنك تولى رئاسة الاستخبارات السوفيتية “الكي. جي. بي” لسنوات طويلة ، ويعد أستاذاً للرئيس الحالي “فلاديمير بوتين” ، فإن “صدام لم يُلق القبض عليه في حفرة ، وهو أشعث الشعر طليق اللحية… كانت تلك صور ملفقة ، أريد بها إهانته وتحطيم صورته للأبد ، غير أنه بدا في محاكمته قوياً وشجاعاً ، ورجاله على قدر كبير من التماسك ، ولا يخاطبونه بغير الرئيس ”.
كلاهما، “صدام” و”بشار” ينتسب إلى حزب البعث العربي الاشتراكي بجناحيه المتصارعين العراقي والسوري .
الأول ، صعد من صفوفه مناضلاً عادياً إلى مواقع القيادة ، اشتُهر عنه الجسارة والميل إلى العنف .
والثاني ، ورث قيادته مع وراثة رئاسة الدولة عن والده “ حافظ الأسد ”.
في لحظات النهاية ، بدا التوريث لعنة، أصابت عائلته وطائفته بأضرار يصعب وضع حد لها .
كان هو السطر الأول في سيناريوهات التوريث ، التي تمددت في العالم العربي ، حيث صعد إلى الرئاسة عقب وفاة والده في يونيو (2000)، جرى تعديل الدستور على عجل، حتى يمكنه تجاوز حاجز العمر، الذي لم يكن يبيح، أن يتولى الرئاسة من هو أقل من (35) عاماً .
بقوة الأمن حصل على دعم حزب البعث والمؤسسات الأخرى في البلد .
عند خط النهاية انهار كل شيء ، الجيش والأمن والبرلمان وحزب البعث نفسه ، الذي سارع بإدانته وتأييد القادمين الجدد !
استدعى احتلال العراق مشروع الشرق الأوسط الجديد ، أو إعادة رسم خرائط المنطقة وفق المصالح والحسابات التركية والأمريكية والإسرائيلية .
جرت محاولات لتقسيم البلد طائفياً وعرقياً إلى ثلاث دويلات سنية وشيعية وكردية ، لكنها لم تصل إلى غايتها الأخيرة .
كان حل الجيش العراقي وأجهزة الأمن ومؤسسات الدولة أول معول لتفكيك الدولة العراقية نفسها .
انتشرت التنظيمات المتطرفة، حتى أن تنظيم “داعش” سيطر على ثلثي البلاد.. وكاد أن يستولي على العاصمة بغداد .
في ظروف مختلفة ، يبدو الآن أن حل الجيش السوري وإلغاء التجنيد الإجباري خطوة مرعبة ، تفقد الجيش طابعه كبوتقة ، تنصهر فيها كافة مكونات المجتمع ، وتحيله إلى عصبة مسلحة من تحالف ميليشيات ، توصف أغلبها بالإرهابية .
ليس من المستبعد ، أن تنشأ حرب بينها على السلطة والنفوذ ، إذا ما رفضت بعض الفصائل المسلحة دعوة
“أبو محمد الجولاني” إلى حل نفسها .
إنه تكرار بصورة أسوأ ، لما ارتكبه النظام السابق في سيطرة طائفة بعينها على قيادات الجيش ومفاصله .
بعد إعدام “صدام” تردد سؤال واحد في أنحاء العالم العربي : من التالي ؟
أثبتت الحوادث المتدافعة صحة الاعتقاد العام، بأن النظم العربية جميعها استهلكت أدوارها ووجوهها ، وأصبح وجودها عبئاً استراتيجياً مخيفاً على حقوق المواطنين العرب ، في العدل والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان ، فأمن الحاكم فوق أمن المواطن ، وبقاء العروش فوق حقوق المواطنين .
إننا الآن أمام أوضاع مماثلة في المشرق العربي ، تستدعي مقاربات جديدة للأزمات الوجودية ، التي تكاد تعصف بالدول العربية كلها وجوداً وأدواراً .
الإصلاح السياسي والاجتماعي… أو إنها النهايات المحتمة .
عبد الله السناوي
مصر 360