واقع بدأت فيه قواعد السُّلوك الأُسري والضَّوابط الوالديَّة والضَّبط الاجتماعي تتَّجه إلى التَّلاشي وتبرز فيه عادة التَّنازل السَّهل عن المسؤوليَّات شيئًا فشيئًا، ويعترف بحقيقة مهمَّة وهي أنَّ الكيانات الإنسانيَّة عامَّة والأُسرية خاصَّة، ترتكز في تنظيم العلاقات بَيْنَ أفرادها وحركتهم اليوميَّة ومدخلات العمل ومخرجاته على مبادئ ومرتكزات وثوابت لا يُمكِن بأيِّ حال من الأحوال المساومة عَلَيْها، حتَّى وإن ظهر في المقابل مَن لا يرغب بالعيش في جلبابها أو يحاول أن يعيشَ خارج حدود الضَّوابط والقِيَم والمسؤوليَّات، ورغم ذلك ما كان لها أن تتخلى عن هذه المسؤوليَّة وإثبات حضورها لمجرَّد هذه الرَّغبات، إذ في نهاية الأمْرِ ستفقد هذه الكيانات موقعها ومكانتها، ولعلَّ ما يميِّز حياة الأُسرة هو أنَّ الموجِّهات الضبطيَّة وقواعد السُّلوك الَّتي جاءت لتنظيمها إنَّما هي ربانيَّة، وآيات القرآن الكريم وسِيرة النَّبي عَلَيْه الصَّلاة والسَّلام جاءت بتفاصيل دقيقة في تنظيم هذه العلاقات وتوجيهها وضبط السُّلوك الدَّاخلي وتحديد الأدوار والمسؤوليَّات، والَّتي جاءت للمحافظة على هذا الكيان الأُسري واستدامة كفاءتها وقدرتها على التَّعامل مع متغيِّرات الزَّمان والمكان لتبقَى راسخةً لا تتغير، وثوابت لا تتبدل، وأنَّ ما يدخلها من تغييرات يَجِبُ أن يكُونُ معبِّرًا عن هذا المسار لا يتجاوزه لِمَا في ذلك من خروج عن المسار واختلال وتصدُّع في الميزان الأُسري.
وفي ظلِّ المعطيات الكونيَّة وما باتَتْ تفرضه من مسارات أخرى تَقُومُ على فتحِ مساحة أكبر من الحُريَّة للأبناء في التَّصرُّف والتَّكيُّف مع متطلَّبات الواقع الجديد، فاليوم ليس الأمس واحتياجات الأبناء وطريقة تفكيرهم وسقف مطالبهم ليست كالسَّابق، إلَّا أنَّ خيوط التَّرابط بَيْنَ هذه المراحل في مسألة تربيَّة الأبناء وإعداد النَّشء تبقى حاضرة، تتطوَّر بتطوُّر الظُّروف ولكنَّه لا يلغي مسار التَّربية أو يتنازل عَنْه، ذلك أنَّ تربية الأبناء محسومة الأمْرِ، مصونة بقواعد الدِّين، وهي استحقاقات الأبناء وواجبات الآباء والأُمَّهات، فلا يُمكِن ترك هذا الجيل على حاله دُونَ ضبط بوصلة توجُّهه أو ترك مسألة التَّربية والتَّوجيه للمنصَّات الاجتماعيَّة، أو أن يتعاملَ مع القِيَم والأخلاق والسَّمت بمزاجه أو بالصُّورة الَّتي تقدِّمها له المنصَّات الاجتماعيَّة ومروِّجي الدِّعاية والإعلانات من محتوى أو ثقافة استهلاكيَّة، فمع الاعتراف بتغيُّر الأزمان والأحوال والظُّروف والأحداث إلَّا أنَّها أوجدتْ تعدديَّة في الأدوات والوسائل واتِّساع في الخيارات والبدائل المُحقّقة للممارسات المُثلى في حياة الأُسرة، المرتبطة بتربية النَّشء، لذلك ستظلُّ ملتزمة بقواسم ومشتركات في التَّربية الأُسرية، غير أنَّها لا تُلغي حقَّ التَّربية والرِّعاية الصَّحيحة للأبناء، بل يصبح التصبُّر على التَّربية والقدوة في الممارسة والحرص على تنشيط النَّفْس في بذل الجهد واستفراغ الوسع والمتابعة وعدم الاتكاليَّة أو التَّنازل عن بعض الأفكار والقناعات الشَّخصيَّة من أجْلِ الإصلاح، أو الانسحاب لمجرَّد ردَّات الفعل المنعكسة، والتزام مسار التدرُّج وفضيلة الانتظار في إحداث التَّأثير وإثبات الأثَر الإيجابي لذلك في حياة الأبناء ضرورة، لذلك فمسألة التَّربية غير متروكة للمزاج والاختيار فيها لا يُبنى على الرَّغبة بقدر ما هي موجِّهات إيمانيَّة تفتح في حياة الأبناء مسارات الإيجابيَّة والتَّفاؤل، والعيش السَّعيد والآمِن في ظلال قواعد النِّظام والضَّبطيَّة والأخلاق والالتزامات.
إنَّ حجم ما يحمله النَّشء من المعلَّبات الفكريَّة والمعلومات والسُّلوكيَّات، أو اكتسبه من أقرانه في المدرسة والحي والنَّادي والجامعة ومنصَّات التَّواصُل الاجتماعي وغيره، ما يزيد عن طاقة الوالدَيْنِ، فهو يأتي محمَّلًا كُلَّ يوم بأفكار غريبة ومعلومات عجيبة وسلوكيَّات لا تعرفها الأُسرة وقناعات فكريَّة صادمة أحيانًا أو غير واقعيَّة أو فيها من حُبِّ الاستقلاليَّة والخروج عن قواعد السَّمت العائلي، يأتي وهو مشبَّع بالكثير من الأحداث الَّتي حصلت أمام عَيْنه أو سمعها من أقرانه أو اطلع عَلَيْها عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة أو وصلت إِلَيْه بأشكال مختلفة، ولذلك فواقع الأمْرِ هناك صراع مستمرّ ورغبات متصادمة وقناعات متغايرة وهواجس باتت تطرح على الأُسرة الكثير من التَّفكير في معالجة هذه التَّباينات أو إن صحَّت تسميته بعناد الأبناء وتصرُّفاتهم وسلوكيَّاتهم وأفكارهم وقناعاتهم، والَّتي لم تَعُدْ حلولها من طرف واحد أو من الأُسرة، بل من المُجتمع بأكمله الَّذي عَلَيْه أن يقفَ على هذه الأفكار والممارسات وقفة تأمل يستوي في ذلك كلا الجنسين، حتَّى لا تصبحَ المسألة متَّجهة إلى المقارنات وتتَّسع هوَّة الخلاف والفِرقة والتَّصادم بَيْنَ الأسرة وأبنائها، وحتَّى لا تؤديَ مسألة الضَّغط والصُّراخ وغياب الحوار إلى التَّعقيد والتَّراكمات والصِّراعات والنِّقاشات الحادَّة، والتجاء الأبناء لأحضان المنصَّات الاجتماعيَّة والمغرِّرين بالنَّشء فيها، ليقعوا ضحيَّة الحسابات الوهميَّة والتَّجييش الإلكتروني؛ هواجس وتحدِّيات باتت تضع المُجتمع أمام التزام مسارات أكثر اتزانًا ومهنيَّة تحافظ على درجة التَّواصُل والحوار والتَّكامل مع الأبناء حاضرة، فإنَّ من شأن التَّفاعل المُجتمعي في إبقاء خيوط التَّواصُل والحوار والثِّقة مع الأبناء ممتدَّة سوف يولد نجاحات قادمة تقلِّل من خطر هذه الفجوة القيميَّة والأخلاقيَّة الَّتي يعيشها الأبناء في ظلِّ كومة تراكمات الواقع وسقطاته.
وتحقيقًا لذلك يَجِبُ أن تبنيى حياة الأُسرة على مسار واضح يميِّزها عن غيرها ويصنع لها استحقاقات تنافسيَّة تفوق ما باتَ يتصوَّره الأبناء حَوْلَ أبجديَّات هذه الحياة، فلا بُدَّ أن يكُونَ في حياة الأُسرة مسار تخطيطي وضبطي وتوجيهي واضح المعالم بعيدًا عن القسوة والغلظة، مسار يتَّجه نَحْوَ الشَّراكة والتَّمكين وتحمُّل المسؤوليَّات وتوزيع المهام وخلق المسؤوليَّة في حياة الأبناء ووضعهم في إطار التَّكليف والعمل معًا من أجْلِ الحفاظ على كيان الأُسرة والوقوف معها في أيِّ تحدِّيات داخليَّة أو خارجيَّة، وفق برنامج عمل يلتزم به الجميع ويعتمده الكُلُّ، لا مجال فيه للاستثناء إلَّا في أضيَق الحدود، ولا مساحة فيه للتَّنازلات، بل يصبح فتح آفاقٍ أبْعد للخيارات وإنتاج الحلول المجرَّبة والمؤثِّرة، الطَّريق الَّذي يحفظ سقف الإنجاز الأُسري عاليًا، فهو برنامج يتميَّز عن بقيَّة الكيانات الأخرى بتفرُّده ونُمو العلاقات بَيْنَ عناصره، يقوم على التَّواد والتَّراحم والتَّعاطف والاحترام والبِر والإحسان، فيمضي كُلُّ شيء فيه إلى استقرار، فمثلًا: مواعيد الطَّعام معروفة ومحدَّدة بمواقيت مَرِنة، إلَّا أنَّ حضور الأبناء فيها أمْرٌ لا يقبل النِّقاش ووجود الجميع على مائدة الطَّعام أمْرٌ لا تنازل فيها إلَّا مَن اتَّفق الجميع على السَّماح له بذلك، والتَّعامل مع الضَّيف من الأُسرة أو خارج الأُسرة وفق قواعد السَّمت الأُسري يَجِبُ أن يكُونَ حاضرًا بحسب طبيعة الضَّيف وجنسه وصِلة القرابة به، وأمر النِّظام والتَّرتيب والنِّظافة واستشعار الجميع لمسؤوليَّته وحدود ذلك حتَّى مع وجود عاملة المنزل أمْرٌ يَجِبُ أن يكُونَ ثقافة أُسريَّة، ومسألة الخروج من المنزل والدُّخول إِلَيْه وبشكلٍ خاصٍّ للشَّباب ليس حالة مزاجيَّة فالبيوت ليس فندقًا يخرج مِنْه متى شاء ويدخل إِلَيْه متى أراد في أوقات متأخرة من الليل، بل يَجِبُ أن تكُونَ البيوت محكومة بنظام واضح ومسار محدَّد وقواعد دقيقة عنوانها الالتزام والاستئذان وعدم التَّأخير وضبط المواعيد واحترام نظام العمل بالمنزل بالشَّكل الَّذي يحافظ على استقرار الأُسرة ويبرز حدود وضوابط المتابعة والرَّقابة.
أخيرًا، تبقى البيوت قواعد ونُظمًا وضوابط وأسرارًا تحكم هذه العلاقات وتنظِّمها وترتِّبها وتضبطها لِيقُومَ كُلُّ فرد بِدَوْره ومسؤوليَّاته الَّتي أمرَه الشَّارع الحكيم بها من غير إفراط ولا تفريط، لتنتظمَ المَسيرة وتسموَ السِّيرة، ويتفاعلَ البيت الدَّاخلي ويقوى في مواجهة تراكمات الحياة وقسوة العالَم، الأمْرُ الَّذي ينبغي أن يؤصلَ في حياة الأبناء هذه المسارات، فإنَّ من بَيْنِ الأمور الَّتي يَجِبُ أن يدركَها الأبناء أنَّ وجودهم في البيت محكوم بقوانين وأنظمة وقواعد ضبطيَّة للسُّلوك، وأنَّ هذه القواعد إنَّما جاءت لصالحهم والمحافظة عَلَيْهم ومساعدتهم في تجاوز تشوهات الحياة وظروفها، لذلك يَجِبُ على الجميع أن يضعَها في قالب أولويَّاته وبرنامج عمله، ويحافظَ على حضورها في ممارساته ذكرًا كان أم أنثى، فهي ليست حالة مزاجيَّة يلتزم بها أو يتركها متى ما أراد، كما لا يصح أن يضعَها في إطار المساومات والاجتهادات والنِّقاشات والتَّفسيرات القاصرة، ما دام يعيش في كنَف الأمان الأُسري والاحتواء العائلي والاحتضان الأبَوَي.
د.رجب بن علي العويسي