سيناء مسألة أمن قومى إذا سلخت فلا قومة لمصر بعدها.
إثر سقوط دمشق طُرح مجددًا سؤال سيناء ومصيرها. سيناريوهات التقسيم ورسم خرائط جديدة فى المشرق العربى واصلة إلى مصر ودول عربية أخرى لم تعد مستبعدة.
مرة بعد أخرى يصرح رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، أنه بصدد رسم خرائط شرق أوسط جديد متبنيًا التهجير القسرى أو الطوعى من غزة إلى سيناء ومن الضفة الغربية إلى الأردن.
إنه الآن أمام فرصة سانحة للتهجير والتوسع والضم. ألغى اتفاقية فض الاشتباك مع سوريا (1974)، واستولى على المنطقة العازلة وقمة جبل الشيخ الاستراتيجى، الذى يطل على دمشق وعمل على تجريدها من ترساناتها العسكرية ومراكزها العلمية بمئات الغارات.
إنها خطوات على الأرض تفصح عن سيناريوهات مقبلة لتقاسم النفوذ مع تركيا، التى هندست وقادت ما أطلق عليها عملية «ردع العدوان».
ومرة بعد أخرى يستعيد الرئيس التركى رجب طيب أردوغان إرث الإمبراطورية العثمانية فى سوريا، كأننا أمام مشروع ضم محتمل لمدنها الكبرى خاصة حلب، لكنه يعود ليؤكد أنه لا توجد مطامع لبلاده فيها!
التصريحات المتناقضة تؤكد المخاوف ولا تنفيها.
إرث التاريخ حاضر إثر سقوط دمشق. نشأت الفكرة العروبية بالمعنى الحديث كرد فعل تاريخى مباشر على سياسة «التتريك». هذه حقيقة لا يصح نسيانها أبدًا. كان أول من دعا إلى «البعث» زكى الأرسوزى ابن لواء الإسكندرون السليب، الذى نزع عن سوريا وضم إلى تركيا قبيل الحرب العالمية الثانية بصفقة مع فرنسا.
بتعبير لافت قال «أردوغان»: «حزب البعث أصبح من الماضى». بما هو مؤكد أنه انقضى فى سوريا دون مقاومة وحظر فى العراق خشية عودته للحكم، الفارق كبير بين الحالتين.
الفكرة العروبية أوسع وأعمق من أن يلخصها حزب، أو سلطة فى حقبة ما. العودة إلى «التتريك» يستدعى التعريب بالضرورة.
حسب تصريحات «أردوغان» فإن تركيا لا يمكنها القبول ببقاء المنظمات الإرهابية فى سوريا، قاصدًا على وجه الخصوص حزب «العمال الكردستانى» ونافيًا الصفة نفسها عن «هيئة تحرير الشام»، المنحدرة من تنظيم القاعدة!
ورقة الإرهاب تستخدم فى الحالة السورية بمقتضى مصالح واستراتيجيات لا وفق قواعد قانونية وأخلاقية. إنها فوضى فى المعايير وصلت ذروتها بوصف الإرهابيين بالثوار!
هذا خلل فى التفكير وخلط بين ما يجوز وما لا يجوز. «بشار الأسد» يستحق السقوط لطبيعة نظامه والجرائم المنسوبة له.. و«أبومحمد الجولانى» لا يمثل بديلًا شرعيًا.. الثورات لا تصنعها الاستخبارات، «تركيا بوابة سوريا الجديدة وتتحكم فى مفاتيح المنطقة»، كانت تلك جملة كاشفة للرئيس التركى، كأنه أراد أن يقول من يريد أن يكون له دور فى سوريا فليتكلم معنا أولًا.. إنه استعمار مُقنع.
لأهمية الموقع الاستراتيجى السورى سارعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى إلى محاولة تطويع النظام الجديد لما هو مطلوب منه. رفع تهمة الإرهاب والعقوبات مقابل التعايش مع إسرائيل وحفظ المصالح الغربية الاستراتيجية. هكذا بكل وضوح. بوضوح مماثل قال «الجولانى»: «لسنا بوارد الصراع مع إسرائيل».
إننا أمام صراع مفتوح على سوريا، العرب الطرف الأضعف فيه، إذا كان هناك من يتصور أن الأمن يصان بالكلام الدبلوماسى وحده فإنه يضع مستقبل المنطقة تحت المقصلة.
الكلام يكتسب خطورة إضافية من اقتراب عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض فى (20) يناير المقبل. الإسرائيليون يتأهبون لإعلان فرض السيادة على الضفة الغربية، كما أعلن نتنياهو بنفس الوقت تطلب إسرائيل نوعًا من الاحتلال العسكرى لقطاع غزة وعقد صفقة تبادل للأسرى والرهائن بضغوط لم يعد ممكنًا تحملها فى ظل حربى إبادة وتجويع لا مثيل لهما بالتاريخ الإنسانى الحديث.. والسلطة فى رام الله تطارد جماعات الشبان لحذف كلمة المقاومة من القاموس الفلسطينى.
هذه كلها نواقيس خطر تدق فى المكان. سيناء فى عين الإعصار الإقليمى. هذه حقيقة لا يصح إنكارها تضرب فى صلب الأمن القومى. أرجو أن نتذكر أن كل الحروب، التى خاضتها مصر على مدى سبعة عقود، ارتبطت بسيناء. وقد اكتسبت رمزيتها من حجم الدماء والتضحيات التى بذلت حتى تكون مصرية وحرة.
فى عام (١٩٤٨) عبرت القوات المصرية سيناء إلى فلسطين، حيث قاتلت من أجل أمنها القومى قبل أى شىء آخر – بتعبير الضابط الشاب جمال عبدالناصر بخط يده أثناء العمليات العسكرية.
أفضت النتائج العسكرية لنكبة فلسطين إلى تغييرات راديكالية فى نظم الحكم ومراجعات جذرية فى الأفكار والتصورات وانقلابات كاملة فى موازين القوى.
وفى عام (١٩٥٦) اقتحمت القوات الإسرائيلية سيناء لإرباك الجيش المصرى حتى يتسنى للقوات البريطانية والفرنسية احتلال منطقة قناة السويس بلا مقاومة يعتد بها.
أفضت النتائج السياسية لحرب السويس إلى بروز الدور المصرى على المسرح الإقليمى قائدًا بلا منازع لعالمه العربى وقارته الإفريقية، التى شهدت مطلع الستينيات من القرن الماضى أوسع عملية تحرير فى التاريخ.
وفى عام (١٩٦٧) تعرضت لهزيمة عسكرية فادحة استهدفت بالمقام الأول إجهاض تجربتها التنموية والتحررية من بين ثغرات نظامها السياسى، قبل أن تقف على قدميها من جديد فى سنوات حرب الاستنزاف.
بتضحيات الرجال عبرت أخطر مانع مائى فى التاريخ لتحرير أراضيها المحتلة فى أكتوبر عام (١٩٧٣). وبغض النظر عن النتائج السياسية لتلك الحرب فإن جيلًا كاملًا أبدى استعدادًا لبذل كل تضحية ودفع فواتير دم حتى تظل سيناء مصرية وحرة.
تلك حقائق تاريخ لا يصح أن تنسى، وتلك بديهيات سياسة لا يجوز أن تبهت.
تحصين الوضع الداخلى بقواعد دولة القانون، التى تضمن الحريات والعدل الاجتماعى والأمن بالوقت نفسه، من ضرورات أية استحقاقات قد تفرض على البلد، ولا يكون أمامها غير أن تدافع عن سيناء بالسلاح والدماء.
قضية سيناء ومستقبلها يجب أن توضع فى عهدة الرأى العام حتى يستبين الحقائق قبل أن تداهمه النيران بأخطارها.
عبدالله السناوي