تُشير إحصائيَّات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى انخفاض نسبة المواليد في سلطنة عُمان وحسب إحصائيَّات 2023 فقدْ بلغَ عدد المواليد الأحياء من العُمانيِّين الذُّكور (32,704)، فيما بلغ عدد الإناث (31,587)، بانخفاضٍ عن أعدادها في عام 2022، كما انخفض معدَّل المواليد الخام (لكُلِّ 1000 من السكَّان) من (18.8) عام 2019 إلى (13.8) في عام 2023، وانخفض معدَّل الخصوبة الكُلِّي للأُمَّهات (لكُلِّ 1000 امرأة) من (2.7) في عام 2019 إلى (2.0) في عام 2023م حيث بلغت نسبة النِّساء العُمانيَّات في سنِّ الإنجاب (15-49) سنَةً لعام 2023م بنسبة (67%)، وأنَّ (17%) نسبة انخفاض الولادات الحيَّة في مؤسَّسات وزارة الصحَّة بَيْنَ عامَي (2019ـ2023)، كما أنَّ إجمالي الولادات خلال الفترة (2019ـ2023) هي كالآتي: 2019-(67.602)، وفي عام 2021 (64.920) وعام 2022 (60.091)، وفي عام 2023 (55.817).
وعَلَيْه واختصارًا للمقال، تأتي قراءتنا لهذا الانخفاض في أعداد المواليد في جملة الموجِّهات الآتية:
تداعيات هذا الانخفاض في زيادة أعداد كبار السِّن والَّذين يزيد عددهم في عام 2023 عن (175.244) ألف ممَّن بلغت أعمارهم (60) سنَةً فما فوق، فيتحوَّل من مُجتمع فتي يُشكِّل السكَّان في الفئة العمريَّة (29-18) سنَةً ما نسبتُه (20%) إلى مُجتمع كَهْل تقلُّ فيه نسبة الإنجاب والمواليد، وتزيد فيه مُسبِّبات الضَّغط على النِّظام الصحِّي والاقتصادي نظرًا لِمَا تحتاجه فئة كبار السِّن من رعاية أكبر وعناية أكثر في ظلِّ اتِّساع رقعة الأمراض المُعْدية وغير المُعْدية، ثمَّ نتائجه على الجانب الاقتصادي في قلَّة الدَّاخلين المُنتِجين الفاعلين في المنظومة الاقتصاديَّة وغياب مُكوِّن رئيسٍ وهُمْ فئة الشَّباب الَّذي يمتلك حافز العطاء والجديَّة وشغف المبادرة والإنتاجيَّة، وقدرته على التَّكيُّف مع ظروف العمل وطبيعته المتغيِّرة.
تداعيات هذا الانخفاض على البُعد الاجتماعي من حيث إنَّ هذا الانخفاض في المواليد الأحياء العُمانيِّين يقابلُه ارتفاع في المواليد الأحياء الوافدين، حيث بلغ إجمالي عدد المواليد الأحياء الوافدين في عام 2023 (6,816) مولود حي، مِنْهم (3,484) ذكورًا و(3,332) إناثًا. بارتفاع عن العام 2022، الأمْرُ الَّذي يُلقي بتبعاته على الموارد الوطنيَّة إن لم يتمَّ اتِّخاذ سياسات وإجراءات واضحة في التَّعامل مع هذا الانخفاض في المواليد العُمانيِّين أو على الأقلِّ ضمان أنَّ نسبة المواليد تستمرُّ بنسبة تطوُّر ونُمو ثابتة تحافظ على سقفِ التَّوازنات في التَّركيبة السكَّانيَّة لسلطنة عُمان والَّتي ما زالت نسبة العمالة الوافدة تُشكِّل فيها رقمًا صعبًا بنسبة (43.63%).
تشخيص انخفاض المواليد وعلاقته بالحالة الزواجيَّة في سلطنة عُمان باتَ مُهمًّا، وفَهْم تفاصيل هذه الحالة ينبغي أن يحظَى بالمزيد من العُمق والتَّحليل والدِّراسة والتَّأمُّل، والخروج بأدوات واضحة تحافظ على الصحَّة الإنجابيَّة ومعدَّل الخصوبة مرتفعًا، فعلى الرَّغم من أنَّ نسبة الزواج في سلطنة عُمان تشهد انخفاضًا في السَّنوات الماضية، حيث تُشير الإحصائيَّات إلى أنَّ إجمالي عدد حالات الزواج في 2023 بلغ (14.704) ألفًا، منخفضًا بقرابة ألفِ حالةٍ عن 2022، حيثُ بلغَ وقتَها (15) ألفًا، كما يُشير تقرير المجلس الأعلى للقضاء لعام 2023 إلى أنَّ منحنى وثائق الزواج في سلطنة عُمان يشهدُ انخفاضًا تدريجيًّا منذُ عام 2014 إلى 2023 ليسجِّلَ نسبة انخفاض بما يقارب (5%) بنهاية عام 2023. إلَّا أنَّ انخفاض أعداد المواليد بالمقارنة مع حالات الزواج قد لا يضع مُبرِّر انخفاض الزواج سببًا في انخفاض المواليد، ولذلك فالمسألة في تقديرنا أقرب إلى التَّحدِّي الاقتصادي وتأمين المستقبل، الأمْرُ الَّذي يتَّجه فيه الزَّوجان إلى تأخير الإنجاب، وتصبح أولويَّة الإنجاب الحلقة الأضعف في المعادلة الزواجيَّة.
رغم ما أتاحَه قانون الزّواج من الخارج في ظلِّ ما يشهدُه من ارتفاع متسارع في عدد حالات الزواج بَيْنَ (عُماني ووافدة)، والَّتي بلغتْ في عام 2023 (284) حالة، في تقديم خيارات أو بدائل زواجيَّة أوسع في معالجة مبرِّر ارتفاع المهور؛ إلَّا أنَّ مسألة الزّواج من الخارج ليسَتْ بأقلّ تكلفة من الزّواج من الدَّاخل فإنَّ محدوديَّة مَهْر المرأة الأجنبيَّة يقابله ارتفاع في أسعار التَّذاكر والسَّفر والتَّنقُّل وغيرها من الأمور الاقتصاديَّة الَّتي باتَتْ تُلقي بظلالها على حياة الزَّوجَيْنِ والَّتي سيكُونُ خيارها المفضَّل في عدم الإنجاب أو إنجاب طفل أو طفلَيْنِ كحدٍّ أقصى.
تأتي مسألة المباعدة بَيْنَ الولادات والَّذي تُشير فيه إحصائيَّات وزارة الصحَّة إلى ارتفاع عدد الزِّيارات لعيادات المباعدة بَيْنَ الوالدات في عامَي (2019ـ2023م) لِتصلَ في عام 2023 إلى (3) آلاف حالة. في ظلِّ منحنى الانخفاض في أعداد المواليد كأحَد الأسباب الَّتي تقف خلف انخفاض نسبة المواليد، ويضع جهات الاختصاص أمام مسؤوليَّة أخلاقيَّة ووطنيَّة وإنسانيَّة في إعادة النَّظر في جديَّة هذا المسار، والتَّأثيرات السّلبيَّة المترتبة على تكثيف البرامج الإعلاميَّة والصحِّيَّة بشأن المباعدة بَيْنَ الولادات، لذلك نعتقد بضرورة تصحيح المسار وعَبْرَ تَوْجيه البرنامج نَحْوَ تشجيع العادات الصحِّيَّة السَّليمة للمرأة المُعزّزة للصحَّة الإنجابيَّة، سواء من خلال: التَّأكيد على التَّغذية السَّليمة للأُمِّ، والتَّأكيد على الفحص قَبل الزّواج، وتكثيف البرامج الوطنيَّة المُتَّجهة للصحَّة النَّفْسيَّة والصحَّة الجسديَّة والتَّغذية السَّليمة ومنْع تناوُل الحامل للمشروبات الغازيَّة والأكلات السَّريعة بالشَّكل الَّذي يُقلِّل من المُشْكلات الَّتي تواجهها النِّساء أثناء الولادة والَّتي باتَتْ ترتفع فيها نسبة الولادة بعمليَّة قيصريَّة، حيثُ تُشير إحصائيَّات وزارة الصحَّة إلى أنَّ (24%) نسبة انخفاض في الولادات الطَّبيعيَّة في مؤسَّسات وزارة الصحَّة يقابله ارتفاع في الولادات القيصريَّة بنسبة (7%) في عامَي (2019ـ2023) أو ولادة أطفال مشوّهين خلقيًّا أو لدَيْهم نقصٌ في النُّمو أو نقصٌ وفقر الدَّم أو ملازمة بعض الأمراض غير المُعْدية كأمراض القلبِ والتَّنفُّس والرَّبو لَهُم، الأمْرُ الَّذي يؤدِّي إلى عدم استقرار الحياة الزوجيَّة وزيادة مستوى القلق والتوتُّر والخوف لدَى المرأة من الحمْل والإنجاب. وبالتَّالي انخفاض نسبة المواليد.
يُمثِّل ارتفاع مؤشِّر الطَّلاق في السَّنوات العشر الماضية منعطفًا خطيرًا في حياة الأُسرة العُمانيَّة، وأوجدَ حالة من الاختلالات والتَّباينات في السُّلوك الزّواجي، حيث تُشير الإحصائيَّات إلى أنَّ عدد حالات الطَّلاق في عام 2023 بلغتْ (3.829) حالة، رغم أنَّها شهدتْ انخفاضًا ملحوظًا، حيثُ انخفضَ معدَّل الطَّلاق بنسبة (9%) لعام 2023 مقارنةً بالعام 2022. كما يُشير تقرير المجلس الأعلى للقضاء لعام 2023 إلى أنَّ منحنى شهادات الطَّلاق في سلطنة عُمان متذبذب بمتوسِّط وقدره (3.749) شهادة طلاق خلال العشر السَّنوات الماضية، وفي تقديرنا الشَّخصي فإنَّ الطَّلاق بمعطياته الحاليَّة باتَ أحَد الأسباب الَّتي تقفُ خلْفَ هذا الانخفاض في المواليد، والَّذي يتَّجه فيه الواقع إلى أمْرَيْنِ أساسيَّيْنِ، أوَّلَهُما: امتناع الفتاة عن الزّواج حتَّى سنٍّ متقدِّمة، ورفض الزّواج نظرًا للصُّورة السَّلبيَّة الَّتي قدَّمتها الزِّيجات الأخرى في العائلة والأثَر السَّلبي الَّذي تركَه «فوبيا الطَّلاق» لدَى الكثير من الفتيات، أو ما تركَتْه أيضًا من صورة ذهنيَّة سلبيَّة لدَى الأُسرة الَّتي تتَّجه لعدمِ الموافقةِ على تزويج بناتها الأخريات إلَّا بشروط، وأوَّلُها المسكن المستقلُّ الَّذي يَجِبُ أن يصبحَ شرطًا رئيسًا لأيِّ وليِّ أمْرٍ لقَبولِ زواج ابنتِه ويتمُّ ذلك عَبْرَ وثيقة رسميَّة تمنعُ الزَّوج من تسكين زوجته في بيت العائلة، وثانيهما: تأجيل رغبة الفتاة في الإنجاب وكأنَّ لِسانَ حال الكثير مِنْهنَّ في ظلِّ اتِّساع ظاهرة الطَّلاق المُبكر بعد الزّواج بسنَة أو أقلَّ ثمَّ يترك الزَّوجة تتحمَّل مسؤوليَّة إنجاب طفله ورعايته، بَيْنَما يتَّجه هو إلى الزّواج من أُخرى، أصبح أمرًا شائنًا وسُلوكًا غوغائيًّا يمارسه الذُّكور بتشجيع مؤسِّف من الأُسرة أو المُجتمع وبمبرِّرات واهية، وما باتَ يصاحبُ ذلك من مُشْكلات أُسريَّة وقطيعة في العلاقات، لذلك يتَّجه الكثير من الزَّوجات إلى عدم الحملِ أو اتِّخاذ قرار عدم الرَّغبة في الإنجاب. أخيرًا، يطرح تدارك هذا الأمْرُ على الجهات المعنيَّة الكثير من الموجِّهات، واتِّخاذ سياسات استراتيجيَّة تكامليَّة أكثر كفاءةً وفاعليَّةً ومرونة واستدامة؛ نظرًا لتداعياته السَّلبيَّة على التَّركيبة الديمغرافيَّة السكَّانيَّة لمُجتمع سلطنة عُمان وانعكاساته على أداء وتحقيق المستهدفات التَّنمويَّة في أولويَّات رؤية «عُمان 2040».
د.رجب بن علي العويسي