سُنَّةُ المدافعة:
وأنا أقلب صفحات الأيام، وأنظر في الأحوال، فبين لهوٍ ولعبٍ وترفٍ في أرضٍ عربية، وبين قتلٍ ودمارٍ وخرابٍ وإبادةٍ في أرضٍ عربيةٍ أخرى، استذكرتُ سُنَّةً جعلها الخالقُ ماضية، وقد امْتَنَّها على البشرية، لتكونَ من ضمن توازنات الحياة، ونشرِ الأمن واستتبابه في العالم.
وأنا أتمعن في هذه السُّنة الكبرى، سُنَّةِ المدافعة؛ ( وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ) البقرة/ ٢٥١، (وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ….) الحج/٤٠
)، وأنا أتمعن في هذه السنة حاولت أن أبحث عن معادلة يمكن من خلالها بيانُ حصة كل واحد عطّلها، وتركَ الواجبَ المباشرَ عليه فيها، وقصَّرَ عنها، من الفساد الناتج عن ذلك.
ولأن أكبرَ فسادٍ وإفسادٍ تعيشه الإنسانية اليوم هو في الإبادة القائمة بغزة، الإبادةِ للبشر والحجر والمدر، وللحيوان والشجر، فإني اجتهدتُ لإيجادِ تلك المعادلةِ أو بداياتِها، لعلَّ اللهَ يَمُنُّ أو يبعثُ من يُخرجها للبشرية بصورة دقيقة، والتي يستطيع المرء بها معرفةَ نصيبِ الأنظمة السياسية من حكام وحكومات في دم الأبرياء في غزة، وكم تتحملُ رقبةُ كل حاكمٍ ومسؤولٍ من ذلكم العدد من القتلى.
لا شكَ أنَّ الوصولَ إلى معادلةٍ بهذا المعنى الدقيقِ مع وجودِ عواملَ مؤثرةٍ عديدةٍ (القرب المكاني، الزماني، الثقافي، اللغة، الدم، الدين، التاريخ المشترك إلخ) يُشَكِّلُ عمليةً شاقةً وصعبة، إلا أنه في حال غزة، فمن حسن الحظ أن هناك مرجعًا، يمكننا من خلاله معرفةُ نصيبِ بعض الأنظمةِ الحاكمةِ العربيةِ من مجملِ المجازرِ في غزة، ويمكن أن تُوسَّعَ لاحقا، وتخضعَ للإجراءات العلميةِ الصارمة، للوصول إلى معادلةٍ دقيقةٍ عالميةٍ، أقترح تسميتها بمعادلة معرفة نصيب ضحايا الحروب حسب المسؤولية أو
CONFLICT CASUALTIES ACCOUNTABILITY FORMULA
ومختصرها CCAF.
غزة بين ٢٠١٢ م و ٢٠٢٤م:
في نوفمبر ٢٠١٢م شَنَّ الكيانُ المحتلُّ المختلُّ على غزة حربا ضروسا، وبتتبع المتغيرات وما ثبت منها وما تبدل في الأطراف جميعا نجدُ أن:
- رئيسَ الكيان نفسُه (نتن ياهو)
- الحزبَ الحاكمَ في أمريكا نفسُه (الديمقراطي)
- الأطرافَ المباشرةَ في الصراع ذاتُها (غزةُ والاحتلال)
إلا متغيرا واحدا تبدل منذ ذلك اليوم، وهو الرئيس والنظام المصري (في ٢٠١٤ م)، فقد كان هناك مرسي وهنا السيسي، وصاحَبَ ذلك لا شك تحولاتٌ أخرى مساعدة في أنظمة حكم عربية وموقفها الجديد من القضية الفلسطينية، كما الإمارات في ٢٠٢٢م برئيس جديد للدولة (غاب الشيخ خليفة عن المشهد السياسي تقريبا من ٢٠١٤ م حتى وفاته ٢٠٢٢ م)، والإماراتُ قامت بالتطبيع مع الكيان الصهيونى منفردةً مع البحرين، وتغيرٌ آخرُ في السعودية ٢٠١٥ م بملك جديد تبعه ولي عهد جديد، وبمنهج جديد، ومنه الحوارُ القائمُ والمعلن مع الكيان حول التطبيع، أما السلطانُ الجديدُ في عمانَ فلم يَحِد عن منهج السلف حول فلسطين، والسياسةُ الخارجية المعلنةُ في ذلك ثابتةٌ لم تتغير.
لقد توقفت الحرب حينها في أسبوعٍ (١٤-٢١ نوفمبر ٢٠١٢ م)، وبصورة رئيسة كان ذلك بسبب موقف الرئيس المصري، والدولة المصرية الرسمية والشعبية آنذاك، لذلك يمكن اعتبارُ سبعةِ أيامٍ من إبادة غزة (٧- ١٤ اكتوبر ٢٠٢٣ م) يتحملها الكيان وحده، وتتحملُ الدول والنظام العربي والمصري بدرجة رئيسة ٤٤٣ يوما من القتلى (مجمل الأيام مطروحا منه سبعة أيام)، والذي بعملية قسمة بسيطة يشكل ما يقرب ٤٤.٣ ألفاً من مجمل القتلى الـ ٤٥ ألفا، هذا ما يتحمله النظام المصري والعربي وحتى الإسلامي والعالمي (بنسب متفاوتة) من شهداء غزة بالاشتراك مع الكيان المجرم.
إن سنةَ الله الواجبةَ والتي عطلتها الجامعةُ العربيةُ ودولُها لا تُعفي هذه الدولَ من دماء أهل غزة، فهي تدينها جميعا، وتُحَمِّلُها عشراتِ الألوف من القتلى والجرحى العرب المستضعفين (مسلمين وغير مسلمين)، فضلا عن البنى التحتية والبيئة الحياتية تحميلا مباشرا، وتتوزع هذه الدماء على باقي الدول العربية حسب دورها، فهي لولا تركُها الواجبَ عليها، وعدمُ اتخاذها إجراءاتٍ حقيقيةً لمنعِ قتلِ المستضعفين الآمنين والأبرياء من الرجال والنساء والوِلدان لما أُبيدَ هذا الكمُّ والعدد، فبتركها ما يوجبه عليها القانون والشرع والمواثيق، وتعمدِها الالتهاءَ عنه بملذاتها وترفها إمعانا في السوء، كان ما نرى من بطش يأجوجَ ومأجوجَ العصرِ وسفاحيِّيه النازيين.
ليس ثمة دولةٌ عربيةٌ، ولا حاكمٌ عربيٌّ، ولا حكومةٌ عربيةٌ بل وحتى إسلاميةٌ من المشرق والمغرب لا تتحملُ ومسؤوليها قدرا من دماء الأطفال والنساء والشيوخ تحملا حقيقيا، ينتقل في رقاب المسؤولين في حكومتها، ويعتمد قدرُه على ما في أيديهم من موقفٍ أو قرارٍ، كانوا يستطيعون به مدافعة هذا الظلم والجور فعطلوه ولم يفعِّلوه، وباب تحميلهم يأتي على صيغٍ عدة:
- خلطُ المقاماتِ وعدمُ اعتبارها أو تقديرها، والمثالُ السائرُ يقول: “لكل مقامٍ مقالٌ”، فاستمرت في لهوهها ولعبها وترفها وإلهاء الوعي الرسمي والشعبي في مقام الدم والقتل لأهلها في غزة وفلسطين، دون تصعيدٍ لموقف، بل إن بعضَها بدأ بصورة مشرفةٍ في التعبير عن موقفه من قضيته في غزة، فمنعَ مظاهرَ الاحتفال، وعَلَّقَ المهرجانات، قبل أن يتراجعَ موقفُه، رغمَ أنَّ سياقَ اليومِ أسوءُ وأوجبُ من سياقِ موقفِه الأول الكريم، مما ترك للعدو المجرم أريحيةً بمضاعفةِ التنكيلِ والقتل في غيابِ المدافعةِ، والذاكرة القريبة تُظهرُ هذه الحقيقة، فعندما كانت البداياتُ، ولم تظهر مواقفُ الدول بعدُ، كانت العصاباتُ الصهيونيةُ الإرهابيةُ تبرر دخولها المشافي، بملاحقة المقاومة، وتنفي استهدافها للبنى التحتية لها أو للمرضى أو الأطباء، وتكثف وتنفق على تبييض وجهها في الإعلام، تربصا وخوفا من تفعيل سنة المدافعة، وتفعيلِ الدولِ العربية والإسلامية وحتى العالم لواجبها الشرعي والقانوني، وعندما ظهر تعطيلُ هذه الدولِ لهذه السنة وهذا الواجب، بل وانتكاسُ بعضها على رأسه، بمساندة العدو في إجرامه بدأت هذه العصابات المجرمة تعيث في الأرض فسادا، حتى قصفت المساجد والمستشفيات وحتى خيم النازحين، وعربدت وتكبرت، ولم تعد محتاجة لتبرير فعلها، ولا لتعليله، فقد أمنت العقوبة فأساءت الأدب، فأي شيء يمكن أن تفعله العصابة الصهيونية النازية يأتي بالعقوبة أكثر مما فعلوه في غزة؟!
- مشاركةُ العدو ودعمُه مباشرةً بإمداده بالمؤن والسلاح، ومدِّ الجسور للتخفيفِ عليه من حصار اليمن العزيز، والتطبيعُ معه والإصرار عليه، وعدمُ ظهورِ أيِّ مؤشر ٍولو من بابِ الضغط السياسي على هذا التطبيع، ولا التهديدِ بتأثره، مما أمدَّ له ذلك في غيه وظلمه وفجوره
- عدمُ إنزال أمريكا (وبريطانيا والغرب المجرم عموما) المنزلة المستحقة لها، وهو جانب الكيان المسخ المجرم، جانبُ المعتدي قبيحِ الوجهِ واللسانِ والقلبِ، بل تعاملوا معها وكأنها طرفٌ محايدٌ نزيهٌ في المفاوضاتِ بين المقاومة والكيان المجرم، مما أطال في الظلم، وساند الظالم، وضاعف معانات المظلوم ولا يزال.
- عدمُ وجودِ أيِّ ردِ فعلٍ مقدرةٍ ضد أمريكا وسفاراتها وقنصلياتها للتعبير عن الاعتراض على سياسة أمريكا المنافقةِ والمنحازةِ للمجرم دون شروط، فلم تُصَعِّدْ رسميا، فلم تقم باستدعاء سفير، ولو من باب القلق، ولا بطرده، ولا بتقديم مذكرة احتجاج رسمية له، ولا بعودةِ سفير للعرب والمسلمين للتشاور، حتى على المستوى الشعبي، لم تقم كثير من هذه الدولِ بالتصعيد من خلاله، ولا بالسماح به، فلم تُنَفِسْ للناس، كما ينفس الغرب عن شعبه وهو مجرم لإدانته، فمنعت وما زالت تمنع شعوبها الحرةَ المكلومة على أهلهم في غزة -وهي صاحبة حق ودمٍ وأرض محتلة – من التعبير عن مشاعرها وألمها أمام هذه السفارات والتمثيليات، فلم تُصَعِدْ هذه الدولُ ولو قليلا، لا رسميا ولا شعبيا، بل تراجع بعضها، وضلَّ بعضُها ضلالا بعيدا، رغم تصعيد المجرم النازي في فلسطين لإجرامه وإبادته كلَّ يوم وكل ساعة، مما ضاعف عدد المظلومين وأطال أمد ظلمهم.
رسالة خاتمة:
من ثَّمَ فعلى قدر مشاركة الأفراد من الشعب في شيء من هذه الآثار المعطلة لسُنَّةِ المدافعة الواجبة مما ذكرنا، على قدر ما تتحمل رقابهم من الدماء، وما يكون في أعناقهم من القتلى والمظلومين، ولا يشفع لهم بعدُهم الجغرافي، ولا حدود سايكس بيكو المخترعة، ولا زعم الوطنية، فلسانهم وعقيدتهم وتراثهم المشترك وامتدادهم العميق يصلهم بغزة وينزلهم فيها، إلا من بذل الجهد بما في يده وأخلص لله منتهاه، فذلك عسى الله أن يعفو عنه، لذلك لِيَتَحَسَّسْ كلٌ منا -حاكما ومحكوما، مدنيا وعسكريا، رسميا وغير رسمي- أين يضع قدمه، وأين هو من سنة المدافعة الإلهية، أَبَذَلَ جُهدَه بما في يده، فقاطع ونافح وقارع، أم له نصيب من أشلاء أطفال غزة وشيوخها ونسائها وجرحاها ودمائها يتحملها في عنقه، وتأتيه متعلقةً برقبته يوم القيامة، فضلا عن شقاءِ الدنيا وخزيها، في ماله وصحته وولده، والتي تزداد سوءً كلما التهى عن الواجب، وانغمس في ملذاته ولهوه، في مقام لا يتحمل اللذات واللهو والترف؟! …. (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ أَوۡ أَلۡقَى ٱلسَّمۡعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ق/ ٣٧…
عبد الحميد بن حميد بن عبد الله الجامعي
الخميس
٢ رجب ١٤٤٦ هـ
٢ يناير ٢٠٢٥ م