تناولَ حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم في أكثر من حديث وخِطاب له التَّحدِّيات والظَّواهر الفِكريَّة والسَّلبيَّة الَّتي تُواجِه مُجتمع سلطنة عُمان عامَّة والنَّاشئة خاصَّة، في ظلِّ اتِّساع المتغيِّرات العالَميَّة وتسارعها، وزيادة حدَّة المؤثِّرات الدَّاخليَّة والخارجيَّة على المنظومات الأخلاقيَّة والثَّقافيَّة، حيث جاء في بيان مجلس الوزراء في الأوَّل من يناير لعام 2025 ما نَصُّه: «جلالة السُّلطان المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ يُوجِّه مجلس الوزراء بإجراء الدِّراسات اللازمة للظَّواهر الاجتماعيَّة، وما تُواجِهه التَّركيبة السكَّانيَّة من تحدِّيات وتأثيراتها الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثَّقافيَّة ورفع برامج وسياسات مُحدَّدة لإيجاد الحلول المناسبة لكُلِّ التَّحدِّيات في هذا الشَّأن»؛ فإنَّ قراءة التَّوجيهات السَّامية نَحْوَ إيجاد برامج وطنيَّة تُعزِّز من دراسة وتشخيص ورصد ودراسة وتحليل هذه الظَّواهر، وتَبنِّي آليَّات وطنيَّة للكشفِ عَنْها وتصحيحها تأكيد على أن تتَّخذَ خطوات العمل الوطني مسار التَّكامليَّة والشموليَّة والعُمق، والوقوف على التَّفاصيل الدَّقيقة والعوامل والأسباب الَّتي تقفُ خلْفَ هذه الظَّواهر ومستوى انتشارها وأماكن انتشارها، والمتغيِّرات أو الظُّروف الَّتي باتَتْ تُروِّج لها. ودَوْر الحكومة بمؤسَّساتها والقِطاع الخاصِّ والمواطنين في التَّعامل معها وإدارتها وفق برامج استراتيجيَّة وطنيَّة تتَّجه نَحْوَ التَّطبيقات العمليَّة والممارسات الفعليَّة والمراجعات الجادَّة، وبناء الأُطُر التَّنظيميَّة والتَّشريعيَّة والمؤسَّسيَّة وغيرها من الممكنات الدَّاعمة لعمليَّة التَّسريع في تنفيذ هذه البرامج، ويُمكِن قراءة ذلك من خلال جملة الأبعاد الآتية:
البُعد الاقتصادي: يتناول جملة الظَّواهر السَّلبيَّة الَّتي باتَتْ تنتمي إلى هذا البُعد، من خلال ما يظهر من حصول الجرائم الواقعة على الأموال على أعلى ترتيب لها في نسبة الجرائم في سلطنة عُمان وبنسبة (38%)، حيث بلغ عددُ الجرائم الواقعة على الأموال في عام 2023 (4.461) جريمة بارتفاع (12.3%) مقارنةً بعام 2022، لِتُشكِّلَ المرتبة الأُولى في تصنيف الجرائم في سلطنة عُمان مع استمرار حصولها على المرتبة الأُولى في السَّنوات الأخيرة؛ وأنَّ (98%) من هذه الجرائم الواقعة على الأموال تتركَّز في السَّرقة والشُّروع فيها، والاحتيال، وإساءة الأمانة، والإضرار بالأموال الخاصَّة، مع وجود جرائم أُخرى تتفاوتْ في حجْمِ ممارستها وتقعُ تحت هذا التَّصنيف، مِثل: الإضرار بالأموال العامَّة، والحريق قصدًا والشُّروع فيه، والقرصنة الإلكترونيَّة، واستعمال بطاقة الغير دُونَ عِلمه، والتَّعدِّي على البطاقات الماليَّة، والغشِّ والابتزاز الإلكتروني وجرائم غسل الأموال والمحافظ الوهميَّة والنَّصب على المواطن في الحسابات البنكيَّة، وممارسات أُخرى تتعلق بالقروض الشَّخصيَّة بَيْنَ الأفراد، والحلف والحنث باليمين والإنكار، والشيكات المرتجعة من غير رصيد، والتَّساهل في دفع الإيجارات السكنيَّة والتِّجاريَّة، واستغلال المناصب الوظيفيَّة، واختلاس المال العامِّ، وحالات التَّسوُّل وغيرها. ولعلَّ ما يدعو للقلقِ المستمرِّ هو أنَّ الجريمةَ الاقتصاديَّة والواقعة على الأموال تسجِّل كُلَّ يوم تطوُّرًا جديدًا في أنماطها، واستحداثًا في أساليبها، ومضاعفات في الخسائر النَّاجمة عَنْها، تشهد بذلك إحصائيَّات شُرطة عُمان السُّلطانيَّة في منصَّة «X» في تنوُّع أساليب الاحتيال وغسيل الأموال وما باتَتْ تستخدمه العصابات من أساليب في اختراق بطاقات السَّحب الآلي وسَحْب أموال وودائع عملاء بنوك تجاريَّة دُونَ عِلم أصحابها.
البُعد الديمغرافي السكَّاني: إنَّ إشارةَ جلالةِ السُّلطان المُعظَّم إلى التَّركيبة السكَّانيَّة يضعنا أمام مسارَيْنِ، يتعلَّق الأوَّل بموضوع انخفاض المواليد في سلطنة عُمان، حيث تُشير إحصائيَّات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى انخفاض نسبة المواليد في سلطنة عُمان، وحسب إحصائيَّات 2023 فقَدْ بلغَ عددُ المواليد الأحياء من العُمانيِّين الذُّكور (32,704)، فيما بلغَ عددُ الإناث (31,587)، بانخفاضٍ عن أعدادِها في عام 2022، كما انخفض معدَّل المواليد الخام (لكُلِّ 1000 من السكَّان) من (18.8) عام 2019 إلى (13.8) في عام 2023، وانخفض معدَّل الخصوبة الكُلِّي للأُمَّهات (لكُلِّ 1000 امرأة) من (2.7) في عام 2019 إلى (2.0) في عام 2023م حيثُ بلغتْ نسبة النِّساء العُمانيَّات في سنِّ الإنجاب (15-49) سنَةً لعام 2023م بنسبة (67%) فإنَّ هذا الانخفاض في المواليد الأحياء العُمانيِّين يقابله ارتفاع في المواليد الأحياء الوافدين، حيثُ بلغَ إجمالي عددِ المواليد الأحياء الوافدين في عام 2023 (6,816) مولود حي، مِنْهم (3,484) ذكورًا و(3,332) إناثًا. بارتفاعٍ عن العام 2022، الأمْرُ الَّذي يُلقي بتبعاته على التَّركيبة السكَّانيَّة والموارد الوطنيَّة، وثانيهما سَيطرة الوافدين على سُوق العمل واستحواذهم على الأنشطة الاقتصاديَّة والإنتاجيَّة الرَّئيسة والوظائف الهندسيَّة والفنيَّة والإداريَّة العُليا، حيثُ بلغَ عددُ الوافدين لعام 2023 في القِطاع الخاصِّ (1.229) مليون عامل، و(33) ألف عامل وافد في القِطاع الحكومي، إضافة إلى (267) ألف عامل وافد في القِطاع العائلي، واتِّساع انتشارها في المِهن التَّعليميَّة والطِّبيَّة في المدارس والجامعات والمستشفيات الحكوميَّة والخاصَّة. وفي الشَّأن نَفْسه فإنَّ التَّحويلات الماليَّة الخارجيَّة للوافدين بلغتْ في عام 2022 (3.488) مليار ريال عُماني بارتفاعٍ بلغَ (367) مليون ريال عُماني عن عام 2021.
البُعد الثَّقافي والاجتماعي: ويتناول الهُوِيَّة والقِيَم والخصوصيَّة العُمانيَّة والسَّمْت العُماني الأصيل، والثَّابت والمتغيِّر، والولاء والانتماء والمواطنة، وحجْم الممارسات والظَّواهر السَّلبيَّة المبتذلة وغير الأخلاقيَّة عَبْرَ منصَّات التَّواصُل الاجتماعي في تداول مقاطع مرئيَّة أو مسموعة يتمُّ ممارستها من قِبل الأفراد (مواطنين أو وافدين أو زوَّار)، سواء على شكل إثارة جنسيَّة أو ظهور جريء غير لائق عَبْرَ هذه المنصَّات أو لِبسٍ فاضح وكاشف وغير ساتر للجسد مصحوبًا بحركاتٍ مثيرة خارجة عن الحشمة والأدب، أو كلام حديث مرئي أو صوتي فيه من التَّغنُّج، والَّتي تستهدف إثارة الشَّباب وجذب الانتباه في ظلِّ لقطاتٍ تصويريَّة مُخلَّة بالحياء والذَّوق العامِّ والمشاعر المُجتمعيَّة، في تشويه ٍمتعمَّد للهُوِيَّة الوطنيَّة والخصوصيَّة والسَّمْتِ العُماني، وتجاوزٍ لكُلِّ قِيَم المُجتمع ومبادئه وأخلاقه، وموجِّهات التَّربية والتَّنشئة الاجتماعيَّة المتوازنة، وتغييب للقدوات، وفي المقابل يتناول البُعد الاجتماعي جملةَ الممارسات والظَّواهر السَّلبيَّة الَّتي باتَتْ تؤثِّر سلبًا على الاستقرار الأُسري، ومن ذلك المُشْكلات الزواجيَّة والطَّلاق حيثُ يُشير تقرير المجلس الأعلى للقضاء لعام 2023 إلى أنَّ منحنى شهادات الطَّلاق في سلطنة عُمان متذبذبًا بمتوسِّط وقدره (3.749) شهادة طلاق خلال العشر السَّنوات الماضية، ومُشْكلات تصدُّع العلاقات الأُسريَّة وعقوق الوالدين والأرحام وكِبار السِّن، وتربية الأبناء والتَّنمُّر والمخدِّرات والإشاعات.
أخيرًا، تبقَى التَّوجيهات والأوامر السَّامية لجلالة السُّلطان منهج عمل وطنيًّا بأهميَّة تَبنِّي السِّياسات والبرامج النَّوْعيَّة المستديمة الَّتي تتفاعل مع الظَّواهر السَّلبيَّة وتتكيَّف مع مستجدَّاتها، وتعمل على رصدها وتشخيصها وتحليلها ودراسة كُلِّ أبعادها، وإيجاد مؤشِّرات القياس الَّتي تساعد الحكومة والمؤسَّسات في فَهمِ نواتج العمل والأثَر النَّاتج من هذه الجهود، للوصولِ إلى القرارات والبدائل والخيارات الَّتي تُسهم في مواجهة هذه الظَّواهر، وتوجّه المُجتمع نَحْوَ بدائل أوسع تُعزِّز من المحافظة على قِيَم المواطنة والهُوِيَّة والثَّقافة الوطنيَّة، كما تضمَّن تحقيق التَّوازنات في حياة النَّاشئة، لذلك ينبغي أن تؤسِّسَ معالجة هذه الظَّواهر والتَّحدِّيات المرتبطة بها عَبْرَ مسار وطني يتَّجه نَحْوَ توحيد الجهود والاستفادة من الفرص الوطنيَّة المُتَّجهة نَحْوَ بناء وإعداد خطَّة التَّنمية الخمسيَّة الحاديَّة عشرة، بحيث تتبنَّى الخطَّة الخمسيَّة القادمة برامج استراتيجيَّة أكثر شموليَّة واتِّساعًا ومهنيَّة في معالجة الظَّواهر السَّلبيَّة المُجتمعيَّة، وإيجاد برامج ومسرّعات تُعزِّز من التَّركيبة السكَّانيَّة، بحيث تُقرأ هذه الظَّواهر السَّلبيَّة في إطار حجْمِ الخطر الَّذي ينتج عَنْها، وهو خطر مركَّب فمع كونه خطرًا أمنيًّا يُهدِّد استقرار المُجتمع وقدرته على التَّعاطي الإيجابي مع مستهدفات رؤية «عُمان 2040» فإنَّ خطرها أيضًا اقتصادي، ذلك أنَّ مخاطر اتِّساع هذه الظَّواهر السَّلبيَّة واتِّساع رقعة تأثيرها يُهدِّد المصالح الوطنيَّة العُليا، إذ إنَّ اتِّساعَ الجريمة الاقتصاديَّة يُهدِّد الاقتصاد الوطني، ويعيق جهود التَّنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، من واقع أنَّها تصرف اهتمام الدَّولة إلى القضايا الأمنيَّة مع زيادة الإنفاق عَلَيْها وتوجيه كُلِّ طاقاتها لمكافحتها ممَّا يؤدِّي إلى تأخُّر المستهدفات التَّنمويَّة الوطنيَّة، وتقلِّل من فرص جذب الاستثمارات والمحافظة على دخول الأموال إلى سلطنة عُمان؛ نظرًا لِمَا تحتاجه نظريَّة الاستثمار من بيئة آمِنة ومستقرَّة تقلُّ فيها نسبة الجرائم والفساد، وقوانين تجمع بَيْنَ الإنتاجيَّة والمرونة والكفاءة والقوَّة الَّتي تضع حدًّا لهذه الثَّغرات والمُقلقات.
د.رجب بن علي العويسي