الذين أنصتوا إلى خطاب القسم الذى أدلى به الرئيس اللبنانى المنتخب الجنرال جوزيف عون القائد السابق للجيش اللبنانى أمام البرلمان اللبنانى يوم الخميس الماضى (9/1/2025) سيطر على كثير منهم هاجس تساؤل فرضته فقرات ذلك الخطاب هو: هل هى نهاية خيار المقاومة ومحور المقاومة؟
السؤال فرضته أيضا جملة من التطورات السابقة كان أبرزها بالطبع الحرب الإسرائيلية على لبنان، وتدمير القدر الأكبر من القدرات العسكرية والاستراتيجية والاقتصادية لحزب الله، واغتيال أبرز قادته وعلى رأسهم الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، ثم فرض اتفاق لوقف إطلاق النار على لبنان بعد 66 يوماً من الحرب العنيفة بدأ سريانه يوم الأربعاء (27/11/2024) كان أهم ما فيه أن الولايات المتحدة أضحت صاحبة الكلمة الأولى فى تحديد مسارات التطورات السياسية اللبنانية اللاحقة، وأن إيران ودورها فى لبنان أضحت جزءاً من تاريخ مضى خاصة بعد كشف بعض مضامين «وثيقة ضمانات أمريكية» لإسرائيل تقول إن الطرفين الأمريكى والإسرائيلى ينظران إليها باعتبارها مكملة لنص الاتفاق. من أبرز ما تضمنته هذه الوثيقة أن «إسرائيل، بدعم أمريكى، ستعمل كل جهدها لمنع عودة حزب الله مجدداً ليكون مصدراً للتهديد بما يتضمنه ذلك من منع لإعادة تسليحه»، وهنا يجيء التطور الثالث والأهم وهو تحرك تحالف هيئة تحرير الشام فى اليوم التالى مباشرة لتوقيع ذلك الاتفاق من محافظة إدلب (شمال غرب سوريا)، حيث كانت تتمركز نحو محافظة حلب ومنها إلى محافظة حماة، ثم إلى حمص، والوصول يوم الثامن من ديسمبر الماضى إلى قلب العاصمة السورية دمشق التى كان قد غادرها الرئيس بشار الأسد قبيل ساعات من وصول جحافل الميليشيات الجهادية المتحالفة مع هيئة تحرير الشام، لفرض عهد سورى جديد، والتحكم فى الإجابة عن سؤال ما هى معالم سوريا الجديدة، بدعم من القوى الثلاث التى مكنتها من إسقاط النظام فى سوريا: تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة.
وبسقوط النظام الحليف لمحور المقاومة فى سوريا انقطع خط الدعم العسكرى الإيرانى لحزب الله الذى كان يصل من إيران إلى سوريا عبر العراق ومنها إلى لبنان، الأمر الذى فرض على الشيخ نعيم قاسم الأمين العام الجديد لحزب الله أن يعترف بخسارة طريق إمداد حزبه عبر سوريا، وجاء إصرار أجهزة الأمن فى مطار رفيق الحريرى فى بيروت على تفتيش طائرة إيرانية ليؤكد ذات الاستنتاج أن النفوذ الإيرانى فى لبنان فى طريقه إلى الانحسار وأن المخاطر الجديدة التى باتت تهدد حزب الله لم تعد، ولن تعود محض عسكرية تتعلق بدوره العسكرى فى مواجهة إسرائيل بل أيضاً سياسية، وأن نفوذ حزب الله السياسى هو الآخر فى طريقه إلى الانحسار. انتخاب الجنرال جوزيف عون قائد الجيش كمرشح وحيد لمنصب رئيس الجمهورية الشاغر منذ عام 2022 كشف عن حقيقة أساسية وهى أن ما كانت تخطط له الولايات المتحدة وإسرائيل بإنهاء النفوذ الإيرانى فى لبنان واحتواء حزب الله ابتداء من مخطط «تجويع لبنان» وتدمير اقتصادياته وإنهاكه اقتصاديا ثم الإجهاز عليه بحرب الـ66 يوماً الأخيرة قد أتى بثماره، عبر انتخاب رئيس لبنانى لا يدين بالولاء لا لإيران أو لسوريا أو لحزب الله، ما يعنى أن لبنان مأخوذ نحو طريق جديدة لا وجود فيها لإيران أو لسوريا بشار الأسد أو لحزب الله حسن نصر الله. معالم لبنان الجديد حرص الرئيس اللبنانى الجديد على تحديدها فى خطاب القسم الذى ألقاه أمام البرلمان بحضور السفيرة الأمريكية باعتبارها أهم الضيوف الحاضرين لتلك الجلسة، والذى يمكن اعتباره محصلة لتلك التطورات الثلاثة المهمة. فى هذا الخطاب كان الرئيس اللبنانى المنتخب حريصاً على تأكيد ما كانت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل حريصة على المطالبة به طيلة الأعوام الماضية وبالتحديد أن تكون الدولة اللبنانية وحدها، عبر الجيش اللبنانى، هى التى تحتكر امتلاك السلاح فى لبنان. فقد كرر فى خطابه تأكيد «حق الدولة اللبنانية فى احتكار السلاح»، وهذا يعنى عملياً تحقيق «الحلم الإسرائيلى» بإنهاء المقاومة فى لبنان، وتحقيق حلم القوى اللبنانية بإنهاء النفوذ السياسى لحزب الله فى لبنان، عبر نزع سلاحه، وإنهاء الوجود والنفوذ الإيرانى فى لبنان، ليؤسس للبنان جديد «منزوع المقاومة» ومتهافت على تطبيع العلاقات مع «إسرائيل» والانخراط فى طريق «السلام الإبراهيمي» الذى فرضه الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب فى ولايته الأولى، والمتأهب لمزيد من دعم الأطماع الإسرائيلية والقضاء نهائياً على المقاومة وخيار المقاومة ووضع إيران على «لائحة الاحتواء» فى القريب العاجل. الرئيس اللبنانى المنتخب جوزيف عون لم يأت على ذكر المقاومة أو خيار المقاومة ولو لمرة واحدة فى خطابه المشار إليه. وبقدر ما كان الرئيس جوزيف عون حريصاً فى خطابه على نزع سلاح المقاومة اللبنانية كان حريصاً أيضاً على تأكيد نزع سلاح المخيمات الفلسطينية.
كل تلك المقدمات تقول إن «خيار المقاومة» أضحى مأزوماً، وأن محور المقاومة معرض لعملية تفكيك وتصفية للقضاء عليه نهائياً لكن الحقيقة عكس ذلك تماماً. فالأحداث المتدفقة لم ولن تتوقف بعد، وما هو قائم الآن ليس نهاية المطاف. وإذا كانت إسرائيل عاجزة بعد حرب إبادة جماعية إجرامية ضد الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة عن تحقيق أى من أهدافها، وخاصة هدف القضاء عسكرياً وسياسياً على حركة حماس، ولكن، وبعد مرور 15 شهراً على تلك الحرب الإجرامية ضد قطاع غزة عاد ليتفاوض مجدداً من أجل ترتيبات لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى مع حركة حماس، فى الوقت الذى تفجرت فيه المقاومة بأقوى صورها فى الضفة الغربية، ضد المستوطنات والمستوطنين، ما يوحى بأن المقاومة تتقدم وتنتصر باعتراف كبار قادة الجيش الإسرائيلى الذين يحذرون بأن «جيلاً جديداً من المقاومة» انخرط فى سلك المقاومة فى قطاع غزة وما يحدث فى غزة والضفة سوف يحدث فى لبنان، لأن حزب الله مازال قادراً على التحدى وإثبات الوجود، والحرب المحتملة ضد إيران من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل ربما تكون مدخلاً لإعادة تجديد خيار المقاومة، ناهيك عن أن ما حدث فى سوريا «لن يكون نهاية المطاف».
د. محمد السعيد إدريس