لقد عمل حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ منذُ توَلِّيه مقاليد الحًكم في البلاد في الحادي عشر من يناير لعام 2020، على تعزيز حضور الدبلوماسيَّة السياسيَّة لسلطنة عُمان في السَّاحة الإقليميَّة والدوليَّة، انطلاقًا من الإرث الحضاري الَّذي رسَّخه المغفور له بإذن الله تعالى السُّلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ وجسَّدته سلسلة الزِّيارات التَّاريخيَّة الخارجيَّة لجلالته والَّتي شكَّلت تحوُّلًا استراتيجيًّا حملتْ معها أجندة بناء عُمان المستقبل في أبعادها الاقتصاديَّة وجذب الاستثمارات العالَميَّة إلى سلطنة عُمان، وأسهمَتْ في تعزيز العلاقات الثنائيَّة، ورفع مستوى التَّعاون الاقتصادي والتَّبادل التِّجاري في مختلف المجالات، حيث وصل عدد زيارات جلالة السُّلطان الخارجيَّة (24) زيارة، بنهاية عام 2024، ناهيك عن الزِّيارات الَّتي قام بها قادة العالَم إلى سلطنة عُمان، سواء على مستوى الزِّيارات الخاصَّة أو زيارات الدَّولة، والَّتي عكستْ نهج سلطنة عُمان المتوازن ومصداقيَّة وثبات سياستها الخارجيَّة ومواقفها الدَّاعمة للحوار والسَّلام وتبادل المنافع المشتركة والشَّراكات البناءة.
على أنَّ الحديثَ عن الدبلوماسيَّة السياسيَّة العُمانيَّة المعزّزة للاقتصاد، يضعنا اليوم أمام تحوُّلات نَوْعيَّة في مَسيرة البناء السِّياسي العُماني الرَّصين السَّاعي نَحْوَ حضور نَوْعي للقِيَم السياسيَّة العالَميَّة وأخلاقها والتزام مدخلات تتَّسم بالوعي والنُّضج السِّياسي والفكر المستنير في حلحلة القضايا والتَّعاطي مع الصَّدمات الَّتي يعيشها العالَم بما ينعكس إيجابًا على الأداء الوطني، لقناعة سلطنة عُمان بأنَّه كُلَّما اتَّسمتِ المنظومة السياسيَّة بالحكمة والدبلوماسيَّة والتَّشاركيَّة والتَّكامليَّة والتَّوافقيَّة وأسّستْ قواعد عملها على المشتركات الأخلاقيَّة والقِيَميَّة والمؤتلفات البَشَريَّة واجتماعيَّة الإنسان، وارتقتْ في ممارساتها بشكلٍ يحفظ مبادئ الاحترام والتَّقدير للمنجز البَشَري، ويؤصل قواعد السياسة النَّاضجة في عدم التَّدخل في الشؤون الداخليَّة للغير، وحق الشعوب في تقرير المصير، واحترام مبادئ القانون الدّولي وحقوق الإنسان، واتجهتِ السِّياسة الدّوليَّة ومنظَّمات الأُمم المُتَّحدة ومجلس الأمن الدّولي إلى استحضار العدالة الحقَّة واستنطاق الحكمة في معالجة القضايا بروح الودِّ والحوار، وتقريب وجهات النَّظر ورأب الصَّدع، وإزالة كُلِّ منغِّصات الاختلاف، وترقية منصَّات العمل السِّياسي المعزّزة لاحترام إرادة الشُّعوب في تقرير مصيرها والحفاظ على سيادتها الوطنيَّة على أراضيها؛ عزَّز ذلك من فرص الأمن والسَّلام وتحقيق نجاحات كبرى في المنظور الاقتصادي، وتوظيف ذلك في بناء فرص اقتصاديَّة واستثماريَّة أفضل، وأسهَمَ في تحقيق استقرار اقتصادي غير معرض للتَّذبذب أو الانكماش، نظرًا للمنهجيَّات السياسيَّة الواعدة والمُربحة والرَّصينة والمحصَّنة الَّتي يستخدمها، وكُلَّما اتَّسمتِ البيئة السياسيَّة بالحكمة والإرادة والوعي والمرونة والمهنيَّة والتزمتِ المصداقيَّة والموضوعيَّة في ثوابتِ الدبلوماسيَّة السياسيَّة، استطاعتِ السياسة أن تخرجَ من حالة المغامرات والاندفاعات غير المحسوبة، والمناورات المستنزفة للموارد، إلى قدرتها على خَلقِ الابتكاريَّة والتَّجديد ورفع سقف التَّبادل التِّجاري وتوطين الصِّناعات وتعظيم الفرص الَّتي ستنعكس إيجابًا على النُّمو الاقتصادي الوطني. فإنَّ ما التزمته السياسة العُمانيَّة من معايير التَّوازنات والثَّبات والمصداقيَّة؛ مرتكزات لإنتاج القوَّة الاقتصاديَّة وإدارة التَّحدِّيات والمؤثِّرات بكُلِّ احترافيَّة، وفق فكرٍ ناضج ومؤثِّر، ومساحة احتواء قادرة على تحويل المِحن والظُّروف إلى مِنح قادمة ومنافع متبادلة.
لذلك كان احترام العالَم للسياسة العُمانيَّة، ثوابتها ومصداقيَّتها وحضورها الفاعل والمؤثِّر في الكثير من المواقف والأحداث العالَميَّة، عزَّز من الثِّقة في كفاءة النّموذج السِّياسي لسلطنة عُمان، لِيشكِّلَ في ظلِّ أجندة الحادي عشر من يناير من عام 2020، مرحلة جديدة في تعزيز اقتصاد السِّياسة ودخوله بقوَّة في تحقيق رؤية «عُمان 2040» وتأكيد المُضي قُدُمًا في بناء اقتصاد المعرفة والتَّنويع الاقتصادي وتعزيز الاستدامة الماليَّة وغيرها، والَّذي كان للبُعد السِّياسي الَّذي اختطَّه جلالته ـ حفظه الله ـ أهميَّته في قدرة سلطنة عُمان على تجاوز الكثير من التَّحدِّيات الاقتصاديَّة وسداد مديونيَّة سلطنة عُمان الَّتي وصلتْ نسبتها إلى أكثر من (60%) من الدَّخل لِتصلَ اليوم إلى النِّسبة الآمِنة (أقلّ من 35%)، الأمْرُ الَّذي سينعكس إيجابًا على كفاءة الاقتصاد الوطني، وثقة المواطن العُماني واعترافه بحكمة قيادته في إدارة المنظومة الاقتصاديَّة وتصحيح مسارها، ليستمرَّ هذا الطُّموح إلى تحقيق الاستدامة الاقتصاديَّة، بحيث تؤدِّي الدبلوماسيَّة السياسيَّة لسلطنة عُمان في قادم الوقت، والرُّبع الثَّاني من رؤية «عُمان 2040» إلى توجيه الفرص السياسيَّة المتحقِّقة لسلطنة عُمان نَحْوَ رفع الاستثمارات وتعزيز الشَّراكات الماليَّة والتَّرويج للفرص الاقتصاديَّة عَبْرَ استثمارات في الدقم وصلالة وصحار؛ معطيات تعكس القِيمة المضافة لِمَا تمتلكه عُمان من أرصدة سياسيَّة داعمة لتعزيزِ الاستدامة الماليَّة والتَّنويع الاقتصادي والشَّراكات الاستراتيجيَّة، فإنَّ ما يحمله هذا التَّوَجُّه خير دليل على دَوْر الدبلوماسيَّة السياسيَّة العُمانيَّة في توفير فرص نجاح اقتصاديَّة تنعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني.
ولمَّا كانتْ بيئة الأعمال والاقتصاد بحاجة إلى البُعد الأمني والاستقرار في التَّشريعات والقوانين فإنَّ ما تعيشه سلطنة عُمان من أمنٍ وأمان واستقرار سياسي وتشريعي وفرص التَّمازج الحاصلة في الكيان العُماني الدَّاخلي والتَّأثير الإيجابي لعُمان في المحيط الإقليمي والدّولي، وعَبْرَ مُقوِّمات اقتصاديَّة وبيئيَّة أخرى تضاف للبُعد الجيوسياسي وإطلالتها على أهمِّ طُرق التِّجارة العالَميَّة في بحر عُمان والخليج العربي وبحر العرب، فرصة نَوْعيَّة عزَّزت من حضور فاعل لسلطنة عُمان في الخريطة التِّجاريَّة العالَميَّة، والتَّفكير في اقتصاديَّات جديدة وبدائل مُتجدِّدة تتناغم مع شكلِ التَّطوُّر الاقتصادي الحاصل في العالَم والمِهن والوظائف الإنتاجيَّة الَّتي يحتاجها سُوق العمل كالاقتصاد الأزرق والهيدروجين الأخضر والطَّاقة المُتجدِّدة واقتصاد اللوجستيَّات، لذلك فإنَّ الفرص اليوم حاضرة بشكلٍ أكبر ومواتية للدخول بعُمق في الاستثمار الاقتصادي للدبلوماسيَّة السياسيَّة العُمانيَّة، وهُوِيَّتها والخصائص والسِّمات الَّتي تتَّسم بها في توجيهها كمصدر اقتصادي واستثماري واعد، حيث تُشير الإحصائيَّات إلى أنَّ إجمالي الاستثمارات الأجنبيَّة في سلطنة عُمان في عام 2023 بلغ (36,186.8) مليون ريال عُماني بنسبة ارتفاع بلغ (15.3%) مقارنة بـ(31,388.5) عام 2022. فإنَّ ارتفاعَ الاستثمارات الأجنبيَّة فرصة لتعزيز وجذب استثمارات أكبر لسلطنة عُمان وتحسين بيئة الاقتصاد والأعمال وتعزيز الشَّراكات الاقتصاديَّة الفاعلة في ظلِّ افتتاح مشاريع اقتصاديَّة عملاقة في الدقم وغيرها من المُدُن الاقتصاديَّة الأخرى، الأمْرُ الَّذي سيوفِّر بيئة استثماريَّة آمِنة، في ظلِّ رفع درجة الاستقرار التَّشريعي لها وتَبنِّي سياسات ذكيَّة قائمة على المرونة مع المحافظة على درجة عالية من التَّقنين والضبطيَّة والتَّثمير والحسّ الوطني وتوجيهها لصالح بناء القدرات الوطنيَّة وتوطين الصِّناعة، الأمْرُ الَّذي ستُسهم فيه هذه الاستثمارات في توفير فرص نُموٍّ أكبر للأنشطة الاقتصاديَّة وتشغيل الموانئ لتعزيز محطَّات التَّصدير والاستيراد المباشر للسّلع والبضائع والمستلزمات التَّموينيَّة والاستهلاكيَّة المباشرة.
أخيرًا، لقد أثمرتِ الزِّيارات واللِّقاءات السَّامية لجلالة السُّلطان المُعظَّم عن نتائج استراتيجيَّة نَوْعيَّة، فبالإضافة إلى مجالات المشاورات السياسيَّة وسُبل توطيد مسارات التَّعاون الثُّنائي، وتبادل وجهات النَّظر حَوْلَ مستجدَّات الأحداث الجارية في العالَم والمنطقة، وجهود سلطنة عُمان نَحْوَ عالَم يَسُودُه الأمن والتَّعايش والسَّلام، والتَّأكيد على أهميَّة استمرار العلاقات بَيْنَ سلطنة عُمان وهذه الدوَل بشكلٍ أكثر قوَّة في ظلِّ المعطيات الَّتي باتَتْ تواجهها المنظومة الدّوليَّة وتأكيد سلطنة عُمان المستمر على حقِّ الشَّعب الفلسطيني في تقرير دَولته وعاصمتها القدس، فإنَّها في الوقت نَفْسه ارتبطتْ بأجندة عمل اقتصاديَّة مشتركة وعَبْرَ التَّوقيع على العديد من الاتفاقيَّات ومذكّرات التَّفاهم، في مجالات التَّعاون الاقتصادي والتَّبادل التِّجاري وترويج الاستثمار والاستثمارات المشتركة في مختلف المجالات الاقتصاديَّة، كالتَّشغيل وريادة الأعمال والابتكار والمؤسَّسات الصَّغيرة والمتوسِّطة والتُّراث الثَّقافي، والسِّياحة والتَّعليم والطَّاقة واتفاقيَّات النِّفط والغاز والثَّروة الزِّراعيَّة والسَّمكيَّة والحيوانيَّة والمائيَّة والتَّعاون بَيْنَ البنوك المركزيَّة والموارد البَشَريَّة والقِطاعات الواعدة في سلطنة عُمان، الأمْرُ الَّذي انعكس إيجابًا على رفع التَّقدير الائتماني لسلطنة عُمان لنظرة مستقرَّة وإيجابيَّة متوازنة، وزيادة مستوى التَّبادل التِّجاري بَيْنَ سلطنة عُمان ودوَل العالَم المختلفة، بالإضافة إلى الاستثمارات الأجنبيَّة ودخول الأموال الَّتي شهدتْ ارتفاعًا ونُموًّا في السَّنوات الأخيرة.
د.رجب بن علي العويسي