إنَّ تشخيص ما يجري في الواقع الافتراضي ومنصَّات التَّواصُل الاجتماعي من أحداثٍ ومشوّهات وممارسات فكريَّة باتَتْ تُشكِّل خطرًا على الهُوِيَّة الوطنيَّة، يضعنا أمام أمرَيْنِ، يتعلَّق الأوَّل باستمرار الممارسات الفرديَّة واتِّساع رقعتها والَّتي باتَتْ تُشكِّل خطرًا في ظلِّ استمراريَّتها واتِّساعها وغياب الضَّوابط الَّتي تحدُّ من هذه الممارسات، في حين يتعلَّق الآخر بما يحصل من توَجُّهات مؤسَّسيَّة تتقاطع مع مرتكزات الهُوِيَّة، الأمْرُ الَّذي يؤدِّي إلى تشريع هذا السُّلوك، لذك تبقَى الهُوِيَّة رهينةً بَيْنَ هذيْنِ التَّحدِّيَيْنِ وتداعياتهما السَّلبيَّة في قدرة الهُوِيَّة على الثَّبات والاستدامة والتَّجدُّد والانطلاقة في رسم ملامح التَّغيير القادم في مواجهة كومة التَّراكمات السَّلبيَّة وتزايد أنشطة المنصَّات الاجتماعيَّة المقاوِمة للهُوِيَّات والتَّسطيح الفكري لها؛ ذلك أنَّ ما يُثيره الواقع الاجتماعي من مشاهد وأحداث ومواقف ـ ممارسات فرديَّة وسلوكيَّات شخصيَّة ـ باتَتْ تُلقي بظلالها على النَّموذج الأخلاقي، والثَّابت والمتغيِّر من القِيَم، وإعادة توجيهه بطرائق مختلفة في ظلِّ تكرار الدَّعوات المبطنة أو المؤثِّرات الكونيَّة والفضاءات المفتوحة الَّتي تحاولُ رسْمَ صورة ضدّيَّة لهذه الأخلاق في علاقتها بأولويَّات الإنسان المعيشيَّة وضروراته الحياتيَّة بالتَّقليل من مساحة الالتزام الأخلاقي والتَّشجيع المبطن أو الخفي إلى كسر حاجز الحياء والحشمة وتغييب الضبطيَّة الأخلاقيَّة، أو ما يظهر من تأثير العوامل والظُّروف الاقتصاديَّة الَّتي ألقَتْ بظلالها على المواطنة والهُوِيَّة والالتزام الأخلاقي، في محاولة الهروب من هذا الواقع والظُّروف الاقتصاديَّة الصَّعبة خصوصًا مع زيادة مخرجات التَّعليم من الجنسيْنِ والباحثين عن عمل وأعداد المُسرَّحين من الشَّباب، المملوء حماسًا وشغفًا وإنتاجًا وعطاء وفرصة، لِتتَّجهَ الأمور في ظلِّ مساحة الفراغ الشَّخصيَّة الَّتي يعيشها الشَّباب من جهة، وفراغ الضَّوابط التَّشريعيَّة عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة من جهة أخرى نَحْوَ ممارسات شكليَّة تتغاير مع قِيَم المُجتمع وهُوِيَّته لِتمارسَ في هذه المنصَّات على ملأ من النَّاس حُبًّا للشُّهرة والحصول على التّرند وزيادة المعجبِينَ، أو ما يحصل من مُروِّجي الدِّعاية والإعلانات في سبيل الحصول على المال من ابتذال وتغنُّج وخروج عن المألوف من القول والفعل، ناهيك عن تأثير هذه الفئة على ثقافة النَّشء وتفكيره، وتوجيه الرَّأي العامِّ نَحْوَ التَّسارع في اقتناء المستهلكات في ظلِّ انتشار المعلَّبات الفكريَّة الفارغة والإشاعات وتغييب البُعد الرُّوحي والدِّيني في حياة النَّاشئة، ما يعني حجم الخطورة المترتبة عَلَيْها إن لم تجدْ مَن يحمي هُوِيَّة النَّاشئة وقِيَمها وأخلاق المُجتمع، ويُقوِّمها ويُصحِّحها ويُشدِّد على أهميَّة الالتزام الأخلاقي وصناعة القدوات والنَّماذج؛ باعتبارها الطَّريق الأنسب للحفاظ على نسيج المُجتمع العُماني وأصالته.
على أنَّ ما يحصل عَبْرَ العالَم الافتراضي من انتهاكات للقِيَم والأخلاق وتشويهٍ للهُوِيَّة في ظلِّ ممارسات مبتذلة، وتداول مقاطع مرئيَّة عَبْرَ منصَّات التَّواصُل الاجتماعي تظهر بعض السُّلوكيَّات غير الأخلاقيَّة الَّتي يتمُّ ممارستها من قِبل الأفراد(مواطنين أو وافدين أو زوَّار)، على شكلِ إثارة جنسيَّة أو ظهورٍ جريء غير لائق عَبْرَ هذه المنصَّات (السناب شات، والانستجرام، والَّتيك توك..إلخ) أو لبسٍ فاضحٍ وكاشفٍ وغير ساتر للجسد مصحوبًا بحركاتٍ مُثيرة خارجة عن الحشمة والأدب، أو حديث مرئي أو صوتي فيه من التَّغنُّج ما لا يضع احترامًا للمروءة والذَّوق العامِّ والمشاعر المُجتمعيَّة، والَّتي تستهدف إثارة الشَّباب وجذب الانتباه في ظلِّ لقطاتٍ تصويريَّة مخلَّة بالحياء والذَّوق العامِّ، في تجاوز صريحٍ لكُلِّ مبادئ المُجتمع وأخلاقه وهُوِيَّته وسَمْته؛ بحيث يضع تأطير مسار المراجعة والتَّصحيح في الاعتبار مدَى وجود برامج استراتيجيَّة ووطنيَّة لاحتواء الشَّباب وتقديمه القدوات والنَّماذج للمُجتمع، ورفع سقف التوقُّعات الإيجابيَّة لدَيْه نَحْوَ المستقبل عَبْرَ المشاريع الاقتصاديَّة الاحترافيَّة وريادة الأعمال والشَّركات النَّاشئة والعمل الحُر، أو في إنتاج القدوات والنَّماذج المُجتمعيَّة، أو عدم كفاية أو جاهزيَّة البرامج التوعويَّة والإشاريَّة والوعظيَّة والتَّوجيهيَّة، فإنَّ ضمور هذا البُعد أو غيابه أدَّى إلى وجود ثغرات وفجوات وفراغات خطيرة في المنصَّات الاجتماعيَّة، وتصدّر مروِّجي الدِّعاية والإعلانات «المشاهير» في توجيه الأنظار إليهم، رغم الضَّحالة الفكريَّة والهشاشة الأخلاقيَّة والقِيَميَّة لدَيْهم وغياب المحتوى وبقاء عملهم كظاهرةٍ صوتيَّة وقتيَّة غير قادرة على الصُّمود والثَّبات والاستمراريَّة.
إنَّ الحدَّ من تداعيات هذه الممارسات على الهُوِيَّة الوطنيَّة مرهونٌ بتكاملِ جهود القِطاعات والمؤسَّسات والمنظومات الوطنيَّة كافَّة، ومستوى الجديَّة الضبطيَّة والعقابيَّة والإصلاحيَّة المقدَّمة في هذا الشَّأن، ومدى وضوح الإجراءات وكفاية العقوبات ومستوى الحاجة إلى تغليظها، كُلَّما ارتفع سقف هذه الممارسة، وهو أمْرٌ يضعُ على الجهات الأمنيَّة والقضائيَّة، وخصوصًا الادعاء العامّ وشُرطة عُمان السُّلطانيَّة مسؤوليَّة العمل معًا، لرسمِ صورةٍ وطنيَّة واضحة في التَّعامل مع هذه الأحداث المتعلِّقة بالهُوِيَّة والخصوصيَّة والتَّجاوزات الَّتي تحصل عَبْرَ المنصَّات، والوعي القانوني بالعقوبات وتوعية المواطنين والمقِيمِين بها، وتعظيم قِيمة الالتزام الأخلاقي في حماية الفرد والمُجتمع من الانحراف الفكري وتأثيراته على النَّاشئة، فإنَّ أيَّ نجاح في معادلة التَّصدِّي لهذه التَّشويهات يرتكز على حجم ما يُمنح للضَّبطيَّة القِيَميَّة والأخلاقيَّة والمبادئ والثَّوابت من أهميَّة ورعاية من مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة، إذ كُلَّما قوي الاهتمام بالنَّماذج وصناعة القدوات، وانتصرتِ الإرادة المُجتمعيَّة والمؤسَّسيَّة للحفاظِ على الخصوصيَّة واستحضارِ السَّمت العُماني، وانطلقتْ فرص التَّطوير شاقَّةً طريقها نَحْوَ الإعلاء من التَّجديد والابتكاريَّة في طريقة المحافظة على المواطنة والهُوِيَّة والموروث الحضاري والثَّقافي والسَّمت العُماني، وكان التَّركيز على حضور السَّمت العُماني في فِقه الممارسة اليوميَّة الأُسريَّة والعائليَّة والمؤسَّسيَّة والتَّشريعيَّة؛ عزَّز ذلك من مستوى التَّنافسيَّة فيه، وأعطى ذلك مجالًا أوسع للمنافسة والتَّحلِّي بهذه الصِّفات واستدرك هذه الخلال والسِّمات، سواء في اللّبس أو في الظُّهور عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة أو في المظهر العامِّ أو في استخدام التقنيَّة أو في حضور المناسبات وطريقة الرُّدود أو التَّعاطي مع خطابات الكراهيَّة والتَّنمُّر في المنصَّات الاجتماعيَّة.
أخيرًا، يبقَى البُعد المؤسَّسي أحَد طرفي المعادلة في حماية الهُوِيَّة الوطنيَّة، فمع تنوُّع وتعدُّد التَّشريعات والقوانين المؤطّرة للهُوِيَّة العُمانيَّة، إلَّا أنَّ وضوح المسار المؤسَّسي وضبطَه وإعادة تصحيحه ومراجعته عَبْرَ تَبنِّي سياسات ناضجة تتَّسم بالثَّبات والمرونة والحوكمة تمنع كُلَّ ما يؤدِّي إلى إحداث حالة من الارتباك الاجتماعي ويغرسُ الشُّعور بعدم الثِّقة في القرار المؤسَّسي والتَّوجُّهات غير الصَّائبة الَّتي باتَتْ تُشرِّع ـ بِدُونِ قصدٍ ـ لهذه السُّلوكيَّات والممارسات المتقاطعة مع الهُوِيَّة، يؤكِّد على أهميَّة وجود مختبر وطني لقياس وتقييم الرِّسالة المرتجعة من الجمهور وردود أفعاله نَحْوَ هذه التَّوجُّهات، وبناء مؤشِّرات ذات قِيمة تُحدِّد السَّقف الأدنى الَّذي لا يُمكِن خلاله التَّنازل عن الثَّوابت الوطنيَّة أو خط أحمر لا يسمح بفرض لُغة خِطابيَّة جديدة تقوم على استيراد الصُّورة الأخرى غير المشرقة للهُوِيَّة العُمانيَّة في الممارسات السِّياحيَّة والاستثماريَّة وغيرها، بحجَّة تعزيز السِّياحة الوافدة أو تشجيع الاستثمارات الخارجيَّة وما تحتاجه هذه من بيئات أخرى تتصادم مع الخصوصيَّة الوطنيَّة، الأمْرُ الَّذي قد يقرأ فيه المواطن سلوكًا مغايرًا لِمَا وجَّه إِلَيْه جلالة السُّلطان المُعظَّم في عاطر خِطابه السَّامي من الاهتمام بتربية الأبناء على الهُوِيَّة والقِيَم والأخلاق والسَّمت العُماني، وأن ينشطَ دَوْر الأُسرة والتَّعليم ومؤسَّسات المُجتمع المَدَني في تقديم نموذج في الاحتواء والحوار والتَّربية السَّليمة يفوق ما تقدِّمه المنصَّات الاجتماعيَّة من محتوى، وبالتَّالي فرض هُوِيَّة سياحيَّة واقتصاديَّة وطنيَّة تُعبِّر عن خصوصيَّة المُجتمع العُماني تَضْمن جلاء الصُّورة وتنزيه الثَّوابت الوطنيَّة من تعريضها للمساومة والمزاجيَّة والتَّنازلات أو ما يحصل من التَّرويج للتَّنوُّع والحُريَّات من كسرِ حاجزِ الحياء لدَى الفتاة وتشجيعها على الظُّهور الجريء، أو كذلك ما يتمُّ اتِّخاذه من قرارات أو توجُّهات تتعلق بالمهرجانات السِّياحيَّة والتَّرفيهيَّة واستماتة الجهات الحكوميَّة المنظِّمة لاستقطاب المغنِّين والفِرق الفنيَّة الرَّاقصة وغيرها من الأمور الَّتي باتَتْ تُشوِّه صورة الهُوِيَّة والخصوصيَّة الوطنيَّة وترفع سقف التَّباينات والاختلافات وتجييش المشاعر، ما ينتج عَنْه من تصرُّفات لا تليق بسُلوك المواطن وحرمة الوطن وقدسيَّته؛ وبالتَّالي منع المخاطرة والمساومة بأخلاق الشَّخصيَّة العُمانيَّة أو وضعها في خانة المصالح الشَّخصيَّة، ومحاولة إرباك قواعد السِّياحة والاستثمارات والقِطاعات التَّنمويَّة بأفكار ومُبرِّرات تتقاطع مع الخصوصيَّة الوطنيَّة والسَّمت العُماني الأصيل.
د.رجب بن علي العويسي