جاءتْ ملاح الدَّوْر الاستراتيجي لمؤسَّسات المُجتمع الأهلي متلازمة في كُلِّ حلقاتها مع أولويَّات رؤية «عُمان 2040» وفلسفة عملها ومرتكزاتها وأهدافها الاستراتيجيَّة ومستهدفاتها التَّنفيذيَّة والتَّشغيليَّة والتَّطويريَّة؛ باعتبارها شريكًا تنمويًّا في ترسيخ الوعي المُجتمعي وتعظيم الحوار الاجتماعي وترقيته، في سبيل تحقيق تنمية مُجتمعيَّة مستدامة قائمة على ضمان وجود قوانين فاعلة ومنتِجة تنظِّم السِّياسات الحكوميَّة الخاصَّة بالجمعيَّات الأهليَّة وتطوير اللَّوائح الَّتي تدعم تحسين أداء المؤسَّسات، وبناء آليَّة حوكمة مستدامة لمتابعة التَّقدُّم المُحرَز في أداء الجمعيَّات الأهليَّة وضمان استدامتها، لتعملَ جنبًا إلى جنبٍ مع القِطاع الحكومي والقِطاع الخاصِّ والأفراد.
إنَّ قراءة موقع مؤسَّسات المُجتمع الأهلي في مفاصل عمل رؤية «عُمان 2040» يضع الجهات المعنيَّة أمام نموذج عملي يجسِّد أولويَّاتها الاقتصاديَّة والتَّنمويَّة، ومِنْها: أولويَّة «حوكمة الجهاز الإداري للدَّولة والموارد والمشاريع» والهدف: شراكة متوازنة ومستدامة وأدوار متكاملة بَيْنَ أطراف العلاقة من القِطاعَيْنِ الحكومي والخاصِّ والمُجتمع الأهلي والأفراد لضمانِ أداء مؤسَّسي فعَّال»؛ وأولويَّة «الرَّفاه والحماية الاجتماعيَّة» وتحقيق أهدافها الاستراتيجيَّة «شراكة فاعلة بَيْنَ القِطاع الحكومي، والقِطاع الخاصِّ، والمُجتمع الأهلي في مجالات التَّنمية الاجتماعيَّة» والهدف «مُجتمع مَدَني ممكَّن ومشارِك بفاعليَّة في التَّنمية المستدامة وإطار تنظيمي فاعل ومحفِّز لعمل مؤسَّساته»؛ ولأولويَّة «تنمية المحافظات والمُدُن المستدامة» وعَبْرَ تجسيد عملي لِدَوْر المحافظات في العمل الاجتماعي وتقوية التَّكافل والعمل الخيري وتعزيز ثقافة العمل التَّطوُّعي ويؤسِّس لِدَوْر أكبر للجمعيَّات في المساهمة في تعزيز الوعي الاجتماعي، ويستمرُّ هذا الدَّوْر في أولويَّة «المواطنة والهُوِيَّة والتُّراث والثَّقافة الوطنيَّة» ودَوْرها في تعزيز الهُوِيَّة والقِيَم والأخلاق العُمانيَّة، وترسيخ المبادئ والثَّوابت وتعميق حضورها في حياة المُجتمع، واستنطاق القِيَم الدِّينيَّة والوطنيَّة واستنهاض الرُّوح الإيجابيَّة في سُلوك المواطن في التَّعامل مع المستجدَّات المرتبطة بالمخاطر والأزمات والأنواء المناخيَّة والحالات الطَّارئة، أو كذلك ما يرتبط بِدَوْرها في حفز الشَّباب والمُجتمع على الالتزام بتحقيق الوحدة الوطنيَّة والتَّآلف والتَّضامن والسَّلام بَيْنَ أبناء المُجتمع، أو كذلك ما يتعلق بتعزيز الوعي الحقوقي والقانوني للمرأة من خلال تكثيف البرامج التوعويَّة أو إيجاد البرامج التَّدريبيَّة وبرامج التَّمكين الاقتصادي والمحاكاة ومن بَيْنِها، الحملة التَّوعويَّة «قرّي عَيْنًا» الَّتي تستهدف بثَّ الوعيِ الحقوقي والتَّعريف بالتَّشريعات القوانين الَّتي تكفل حقوق المرأة في العمل والوظيفة العامَّة والحياة العامَّة، بل يتعدَّى دَوْرها اليوم إلى خلقِ وتعزيز مفهوم أعمق للحوار الاجتماعي التَّشاركي في كُلِّ ما يتعلق بالمواضيع الَّتي تهمُّ المواطن في المجالات السِّياحيَّة والثَّقافيَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة والسُّلوكيَّة والثَّقافة العامَّة، الأمْرُ الَّذي يجعل من هذه المؤسَّسات خيوط التقاء فاعلة تعمل مع مؤسَّسات الدَّولة المعنيَّة والقِطاع الخاصِّ ومبادرات الأفراد في تعميق قِيَم الانتماء والولاء، وترسيخ المواطنة والحسِّ الوطني، وترقية مفاهيم المبادرة والمبادأة في فِقه الشَّباب.
وعَلَيْه، فإنَّ تجسيد هذه الصُّورة اليوم في ظلِّ معطيات الحوكمة والمنافسة والإنتاجيَّة والتَّمكُّن يتَّجه إلى أولويَّة بناء استراتيجيَّة وطنيَّة موَحَّدة ومتكاملة لقِطاع مؤسَّسات المُجتمع الأهلي، تؤدِّي إلى مراجعة العلاقة بَيْنَ الجمعيَّات الأهليَّة والمنظّم، وسدّ الفجوات مع ضرورة عمل مؤشِّرات أداء تُسهم في تقييم أداء تلك المؤسَّسات، ومناقشة التَّشريعات وضمان وجود تشريع ينظِّم السِّياسات الحكوميَّة في قِطاع المُجتمع الأهلي «الجمعيَّات الأهليَّة» وتطوير القوانين واللَّوائح الَّتي تُسهم في تطوير المؤسَّسات، وبناء آليَّة حوكمة مستدامة لمتابعة رصد التَّقدُّم المُحرَز في أداء الجمعيَّات الأهليَّة واستدامتها، والخروج بأفضل المبادرات والمشاريع المحقِّقة للأهداف ومؤشِّرات رؤية «عُمان 2040» المرتبطة بالقِطاع، إلى جانب التَّوافق مع الشُّركاء في القِطاع الحكومي والخاصِّ لتحديدِ أبرز التَّحدِّيات والفجوات الَّتي تُواجِه مؤسَّسات المُجتمع الأهلي مع التَّركيز على الجمعيَّات الأهليَّة وحلحلة تلك التَّحدِّيات بما يُسهم في تطوير القِطاع بشكلٍ شامل وفعَّال. عَلَيْه كان لهذه الغايات المُثلى والأهداف العُليا والتَّوجُّهات النَّاضجة حضورها النَّوْعي في أروقة وزارة التَّنمية الاجتماعيَّة، والصُّورة النَّوعيَّة الَّتي قدَّمتها الوزارة مشكورةً بالتَّعاون مع الشُّركاء الاستراتيجيِّين في الوصول إلى توافُقات وشراكات استراتيجيَّة بشأن تطوير هذا القِطاع الحيَوي، وهو الدَّوْر الَّذي وجدتِ اللَّجنة الإشرافيَّة للحلقات التَّطويريَّة لمؤسَّسات المُجتمع الأهلي برئاسة وزيرة التَّنمية الاجتماعيَّة وعضويَّة رؤساء الوحدات الحكوميَّة ذات الصِّلة وأعضاء آخرين والَّذي حَظِيَ بزيارة مباشرة من رئيس وحدة تنفيذ رؤية عُمان ووزير الأوقاف والشُّؤون الدينيَّة، معنيَّة بالعمل على تحقيق تقدُّم نَوْعي في مسار بناء استراتيجيَّة وطنيَّة لمؤسَّسات المُجتمع الأهلي، تنطلق من أربعة مرتكزات هي: مرتكز التَّخطيط الاستراتيجي، ومرتكز الحوكمة والأداء المؤسَّسي، ومرتكز الممكّنات العامَّة، ومرتكز الأثَر الاجتماعي والاقتصادي.
وبالتَّالي فإنَّ المؤمَّل اليوم من هذه الجهود النَّوْعيَّة والمتابعات المكثَّفة والعمل الوطني الَّذي أخذ صبغة التَّكامليَّة والشَّراكة ووحدة الهدف وكفاءة الأدوات ونضوج الأفكار أن تقدّمَ بدائل وخيارات نَوْعيَّة وترسم مسارًا واضحًا تُحدِّد بوصلة مؤسَّسات المُجتمع الأهلي ودَوْرها الاستراتيجي في بناء عُمان المستقبل وتحقيق رؤية عُمان الطَّموحة، واضعةً في الحسبان حجم التَّطوُّر الحاصل في ارتفاع أعداد مؤسَّسات المُجتمع الأهلي في سلطنة عُمان، بما يَعنيه ذلك من رقمٍ صعبٍ وحضور قوي في تعزيز الحراك الوطني الاجتماعي نَحْوَ تحقيق التَّحوُّل الشَّامل في منظومة العمل والابتكار والرِّيادة وتحقيق الاستدامة والتَّنويع الاقتصادي والحماية الاجتماعيَّة وغيرها، حيثُ تُشير إحصائيَّات وزارة التَّنمية الاجتماعيَّة إلى أنَّ عدد جمعيَّات المرأة العُمانيَّة مع الفروع في مختلف محافظات سلطنة عُمان بلغتْ حتَّى نهاية الرُّبع الأوَّل من عام 2024 (68) جمعيَّة، بمعدَّل تغيير بلغ (4.6%) عن عام 2023 وعدد الجمعيَّات الخيريَّة (32) جمعيَّة، وعدد المؤسَّسات الخيريَّة (10)، وعدد الجمعيَّات المهنيَّة (40) وعدد الأندية الاجتماعيَّة للجاليات (23)، كما تُشير إحصائيَّات الاتِّحاد العامِّ لعمَّال سلطنة عُمان إلى أنَّه بلغ عدد النّقابات العمَّاليَّة في سلطنة عُمان (327) نقابة، بنهاية عام 2023.
أخيرًا، فإنَّ التَّوافقيَّة في البُعد الاستراتيجي وآليَّة وضع استراتيجيَّة وطنيَّة لقِطاع مؤسَّسات المُجتمع الأهلي، الطَّريق لتحقيقِ أربعة موجِّهات رئيسة: أوَّلها: بناء استراتيجيَّة وطنيَّة متكاملة ذات أبعاد اقتصاديَّة وتنمويَّة تُعزِّز من كفاءة مؤسَّسات المُجتمع الأهلي وترفع مستوى استحقاقاتها الوطنيَّة تَضْمن وجود مؤشِّرات قياس الأثَر النَّاتج من عملها. وثانيها: الإسراع في حوكمة هذا القِطاع من خلال ضمان تطوير القوانين والتَّشريعات المنتِجة والمساهمة في تعزيز الجودة والكفاءة والمهنيَّة والتَّنافسيَّة والشَّراكات الاستراتيجيَّة الفاعلة في منظومة العمل الوطني، وترقية الممارسات المهنيَّة الدَّاعمة للتَّحوُّل الشَّامل في دَوْر مؤسَّسات المُجتمع الأهلي بما يُحقِّق أولويَّات رؤية «عُمان 2040»، ويؤسِّس لمرحلةٍ متقدِّمة من إعادة هيكلة هذه المؤسَّسات وتمكينها، ومنح هذه الجمعيَّات الصَّلاحيَّات المناسبة لتحقيقِ أهدافها، وتحقيق التَّنوُّع والاستدامة في مصادر تمويلها، وضمان مشاركتها الفاعلة في سَنِّ القوانين والتَّشريعات. وثالثها، تَبنِّي سياسات وطنيَّة في تفعيل برامج الدَّعم الحكومي والحوافز المقدَّمة لهذه الجمعيَّات، ودَوْر القِطاع الخاصِّ في تفعيل المسؤوليَّة الاجتماعيَّة نَحْوَ مؤسَّسات المُجتمع الأهلي، في تحقيق أهدافها الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، ورفع درجة كفاءتها التَّشغيليَّة، وضمان قدرتها على الوفاء بالتزاماتها الإداريَّة والماديَّة والماليَّة للمُجتمع والعاملين المتعاونين والمُتطوِّعين فيها. أمَّا رابعها، فيرتبط بمأسسة وحوكمة العمل التَّطوُّعي والخيري في سلطنة عُمان، فإنَّ معطيات الواقع الوطني في ظلِّ ما تُشير له الإحصائيَّات من أنَّ (62.9%) من العُمانيِّين يشاركون في الأعمال الخيريَّة، نقطة تحوُّل تضع العمل التَّطوُّعي والخيري اليوم رديفًا للمسؤوليَّة الاجتماعيَّة للأفراد والمؤسَّسات، ويؤكِّد على أهميَّة حوكمته وتحقيق معايير الاستدامة والتَّنوُّع والواقعيَّة والاتِّساع والعُمق فيه، وهو ما لا يتأتَّى إلَّا من خلال تمكين العمل التَّطوُّعي في واقع عمل مؤسَّسات المُجتمع الأهلي، من خلال بناء سياسات وطنيَّة مستدامة في العمل التَّطوُّعي والمسؤوليَّة الاجتماعيَّة، وسَنّ القوانين والتَّشريعات وأنظمة العمل الَّتي تحافظ على سلامة القائمين عَلَيْه، في ظلِّ ارتفاع نسبة المخاطرة في الأعمال التَّطوُّعيَّة من جهة، وتوفير الحماية القانونيَّة والممكنات الضَّبطيَّة الَّتي تساعدها في تحقيق أهدافها بكُلِّ أريحيَّة واحترافيَّة ووفق القانون.
د.رجب بن علي العويسي