إنّ غياب الدور المصري الواضح في قضايا سوريا وليبيا والسودان والقرن الإفريقي عموماً، سمح لجهات أخرى من بينها تركيا مثلا بـ”التغلغل وملء هذا الفراغ”.
سياسة إمساك العصا من المنتصف لم تعد تجدي نفعاً، بل يجب على صانع القرار أن يتخذ قراراً شفافاً لحشد المجتمع الدولي خلفه.
الدبلوماسية المصرية تواجه اتهامات بعدم الفاعلية والتردّد في اتخاذ مواقف حاسمة إزاء أحداث وتطورات المنطقة خلال العامين الماضيين. فهناك من يرى أن مصر تعاملت بحذر في بعض القضايا، ولم تعمد إلى تسخين جبهات، حتّى لا تزجّ بنفسها مثلا في حرب واسعة مع إسرائيل تحديداً. وهناك من يرى أن مصر يجب بقيمتها الكبيرة أن تكون حاضرةً وفاعلةً بقوّة.
إن الإدارة المصرية كان لا بد أن تتعامل من موقع الشريك في قضية حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة تحديداً، وألا ترتضي الإكتفاء بدور المنسّق أو الوسيط ، خصوصاً أن إسرائيل تجاوزت الخطوط الحمراء باحتلالها محور فيلادلفيا الذي شكل إحدى النقاط الخلافية في ملف مفاوضات وقف إطلاق النار، إذ يبدو أن الحكومة الإسرائيلية لا تنوي التخلّي بسهولة عن تواجدها العسكري في معبر رفح ومحور صلاح الدين.
الخطاب الإسرائيلي تمادى في غطرسته بسبب ضعف الجسد العربي المتمثل في الحكومات الراهنة، وسيتخذ أشكالاً أخرى أشد تطرفا ، إذا استمر استسلام الحكومات العربية للقوالب الإسرائيلية والغربية ، ولا شك أن تغيير هذه المعادلة ضروري ، وقد يخدم قضية السلام إذا كان لها أي محل فيما بعد.
ومن ناحية أخري ، فإن عدم إعلان مصر موقفها الداعم للجيش السوداني في حربه ضد قوات الدعم السريع بشكل واضح، وعدم اتخاذها خطوات قويةً في هذا الصدد، بحجة عدم التدخل في الشؤون الداخلية في السودان ، وعدم المبادرة بحشد المجتمع الدولي لإنهاء الحرب من خلال دعم مسار محدد، لا يمكن أن يعتبر إعتدالا ، لأنّ السودان يشكّل أهميةً كبرى لمصر وأمنها القومي.
وعلي نفس المنوال يمكن النظر إلي الموقف من أحداث ليبيا ، فمن المعروف أنّ القاهرة تدعم “الجيش الوطني الليبي” بقيادة خليفة حفتر، لكنها تتأرجح ما بين إعلان ذلك بشكل واضح ، وبين محاولة حسم حل ليبي خالص ، وفي كل حالة يجب أن تحشد المجتمع الدولي خلف موقفها، فليس أخطر من التردّد في حسم العديد من القضايا العالقة التي تمس الأمن القومي بشكل مباشر.
وفي نفس الإطار السابق يمكن النظر إلي الموقف من تطورات الأوضاع في سوريا ، فمع تفهمي لكل الشواغل الأمنية ، فلم يكن الموقف في مؤتمر الرياض واضحا أو حاسما بشكل كاف ، ولست متأكدا من جدوي الإجتماع سوي التأكيد علي وزن السعودية ، لأن ما رشح من مخرجات يبدو وكأنه محاولة طبخ كل الأفكار في صحن واحد ، رغم حتمية التدرج الشكلي والموضوعي ، دون أن تتضح الإجابة علي أسئلة محددة مثل : طبيعة التمثيل السوري ؟، ولماذا لا ترفع العقوبات عن الشعب السوري ، ولماذا لم يتم وضع خطة لإنقاذ وإحياء الإقتصاد السوري ؟.
من الخطورة بمكان الإقتصار علي المنظور الأمني وحده ، علي أهميته ، في إدارة العلاقات الدولية ، إذ يمكن دائما عزل بعض الملفات بشكل مؤقت ، حتي يتسني التعامل مع الملفات الأهم ، والتي قد يؤدي النجاح في تداولها إلي تخفيض أو القضاء علي الشواغل الأمنية ..وهناك بالطبع أسئلة أخري.
ليس من بدٖ أن أقول بوضوح : أن ” الإعتدال ” في مواقف السياسة الخارجية ، تختلف شكلا وموضوعا مع نظيرتها في السياسة الداخلية.
الأولي ، قد تترجم بأنها مناورة قد تنجح إذا كانت الظروف قد تم حسابها بأكبر قدر من الدقة ، ولكنها قد تترجم أيضا بأنها خلط لا مبرر له إذا اقتضت الحاجة ضرورة الإختيار والحسم ، كما أنها قد تترجم أخيرا بأنها ضعف ، وعجز عن اتخاذ الموقف الصحيح بما يغري الأطراف ذات المصلحة في انتهاز الفرصة.
أما الثانية ، في مجال السياسة الداخلية ، فهي بشكل عام تعتبر القاعدة الأساس في سلوك أي سلطة منتخبة ، تتعامل مع الناخبين ، بحيث لا تملك (دستوريا) ولا يجوز (أخلاقيا) أن تنحرف عن الإعتدال في مواقفها التي لا تتبلور في المجتمعات الديمقراطية إلا عن طريق التفاوض بين أصحاب المصلحة . والإعتدال في هذه الحالة لا يمكن أن يتصف بالضعف أو الخلط ، إلا في حالات إضطرار سلطة مستبدة اتخاذه كي تتفادي انتفاضات شعبية.
وأخيرا ، وليس آخرا ، هناك خيط رفيع بين المواقف الخارجية والداخلية ، حيث تستمد الأولي قوتها وثباتها ، من قوة وثبات الثانية ، وهنا يفهم الإعتدال علي حقيقته ما بين القطبين ، وتكون الإشارات مؤكدة ومنتجة في المجالين.
بناء علي كل ما تقدم ، فمن المؤكد أن خروج مصر من المعادلة في بعض القضايا بحجة “الإعتدال” قد يهدّد أمنها القومي، ويقوض دورها السياسي والاقتصادي، لأن الوزن والدور جزء هام من حسابات الأمن القومي، فإذا لم يكن لك دور أو وزن، فأن ذلك ينتقص من عوامل الأمن القومي ، ويكبدك خسائر سياسيةً واقتصاديةً أيضاً حتي في المفاوضات والعلاقات مع الشركاء المانحين، بخلاف البعد الأخلاقي والتاريخي في المواقف.
أن الحياد قد يكون في بعض الحالات انحيازا ، إذا كان يعني حيادا بين حق وباطل.
معصوم مرزوق- مساعد وزير الخارجية السابق