في الوقت الذي يُعد فيه البودكاست (Podcast) وسيلة إعلامية رقمية مؤثرة تعتمد على تسجيلات صوتية (وأحيانًا مرئية) يتم إنتاجها ونشرها عبر الإنترنت، ويمكن الاستماع إلى البودكاست في أي وقت ومن أي مكان باستخدام الهواتف الذكية، أو الأجهزة اللوحية بمختلف أنواعها، أو الحواسيب، ويتناول محتواه كافة الموضوعات التي تهم الإنسان في حياته ومعاشه، وهو بهذا الوصف يُعدّ مؤثّرًا وفاعلًا وبإمكانه حشد الرأي العام إزاء قضية بعينها عندما يتم التركيز عليها من خلاله وتكمن خطورته في سهولة تداوله والوصول إليه من خلال تنزيل الحلقات والاستماع ومشاهدتها في أي وقت وبذلك يمتلك ناصية الحضور الدائم والفاعل من خلال التطبيقات التي أمست جزءا من الهواتف الذكية مثل Spotify، Apple Podcasts، Google Podcasts، وغيرها.
غير أنه وللأسف فإن البعض بدأ في إساءة استخدامه عبر مزاياه المشار إليها في النبش في تربة الماضي بنحو سلبي وغير موضوعي، وشخصنة الأمور وإثارة مواجع أكل عليها الدهر وشرب كما يقال استلهاما من الماضي الكالح القسمات، والحديث مع أشخاص مغمورين يتطلعون للظهور على الساحة كأبطال يشار إليهم بالبنان في غير موضع البنان.
الأمر الذي يتطلب تنظيم عمل البودكاستات الإعلامية والترخيص لها من قبل الجهات المختصة حتى لا تتوسع في النخر العشوائي في الماضي وإثارة النعرات وتعزيز وتأصيل الانقسامات في المجتمع وإحياء بعض الجوانب التي أمست في ذمة الماضي الذي يفترض فيه أن لا يعود لسلبيته.
بلاشك إن البودكاست أداة إعلامية يمكن توظيفها في جوانب مهمة كالتعليم والاقتصاد والصحة والتكنولوجيا والرياضة والثقافة الخ ، ويمكن توظيفه بنحو إيجابي عبر الاستفادة من التجارب والخبرات ونقل المعرفة للأجيال لاكتساب الطرق الصحيحة للعمل الذاتي وبناء المستقبل هذا ما ينبغي أن يكون.
غير أننا وللأسف نوظف هذه الوسائل والقنوات بنحو سيء ويؤثر سلبًا على النسيج الاجتماعي والضرب تحت الحزام وإفشاء الأسرار التي يؤتمن عليها الأفراد وإظهار الجوانب الشخصية والقبلية الممقوتة في المجتمع المدني الذي يستشرف المستقبل لبناء هذا الوطن والنهوض بأبنائه إلى الأفضل ثقافة وعلما وأدبا وتحضّرا، لا العودة إلى الماضي واستحضار المسائل الخلافية في البلاد بطرق غير موضوعية وبشكل مثير يجعل من البعض أبطالا في ساحات القيل والقال الممقوتة في القرآن.
إن البودكاست أداة إعلامية شخصية غير مقننة كوسائل الإعلام العامة والخاصة التي لها ضوابط في العمل الإعلامي وتعمد بناء على تلك الضوابط للحفاظ على السلم الاجتماعي وتجنب كل ما هو شائن ومشين، في حين أن هذه الوسيلة الفردية التي بدأت تنتشر كالنار في الهشيم ما برحت تجدف ضد التيار طعنًا في منظومة الأمن الاجتماعي وهو الأحق بالرعاية والحماية، وإذ نحن نمضي بحول الله وتوفيقه في بناء قواعد السلوك الاجتماعي المستمد من ديننا الحنيف انطلاقًا من القاعدة الرصينة بأن لا ضرر ولا ضرار، وبالقطع إن من يتطلعون لتحقيق شهرة كاذبة واهية لا يهمهم مراعاة الجوانب الأخلاقية المستمدة من كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، والمهم لديهم فقط تحقيق أكبر قدر من (اللايكات) وصولا لمغانم مالية ملوثة حتما بفيروسات وجراثيم الحرام المفضية لنار جهنم حتمًا.
على ذلك فإن تقنين هذه الوسيلة أمسى فرض عين حفاظا على سلامة المقدسات الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية وبنحو يحقق الأمان الاجتماعي المنشود، ومن ثم تصفيد وتحجيم الخلافات بين الأفراد والجماعات من خلال تشريعات وقوانين واضحة ورادعة، فالمسألة قد تجاوزت كل الخطوط الحمراء، ومن ثم فإن محتواها عندما ينشر ويعمم يكون قد اجتاز الضوابط الموضوعة وحصل على الموافقات القانونية والأمنية المسبقة.
وفي الواقع هناك ممن يديرون البودكاستات يفتقرون للحد الأدنى من سقف الأخلاقيات الإعلامية وغيرها من أبجديات السُّمو المهني التي يتعين أن يتحلى بها كل من يعمل في هذا الحقل الخطير حقل الإعلام أعني.
فاليوم أمسى حقل الإعلام مطية رخيصة للأسف فلا قواعد له ولا مسلمات تحكمه، وعلى ذلك سادت الفوضى واستبد الأمر لجيوش الفتنة وأمسى الكل يمتطي سرج هذا الفرس الجامح في حلبة الجنون البادية للعيان، والهدف رخيص ومبتذل وهو تحقيق أكبر قدر من النجومية والشهرة على حساب سلامة وتماسك المجتمع ومن ثم سلامة الوطن برمته.
بالطبع نؤمن بأهمية البرودكاست في المجالات الإيجابية التي أشرنا إليها وهي كفيلة بتحقيق الفوائد والعوائد ذات الجدوى لفائدة طلاب العلم والساعين للاستزادة من بحر الثقافة متلاطم الأمواج، فالسيادة والريادة في عالم اليوم أمست للعلم والعلماء وفي هذا الحقل النبيل يتنافس المتنافسون الأتقياء فيه من أجل النهوض بأوطانهم ومجتمعاتهم استشرافا لمستقبل أكثر ضياء، وليس العكس بأي حال من الأحوال.
نأمل من الجهات المختصة تنظيم عمل الإعلامي في كل الوسائل الرقمية، لإيجاد نوع من الضوابط المهنية والأخلاقية والسلوكية الفردية تحكم كل من يرتاد هذا المجال، وبنحو يؤمن فيه الجميع بأن الهدف واحد ومتفق عليه بحكم القناعة الشخصية وبحكم سيف القانون المسلط على الأعناق، وهو الحفاظ على تماسك المجتمع وتعضيد ورتق نسيجه لا تمزيقه.
على بن راشد المطاعني