أنا في “شرقا” حيث تشرق الشمس في “غلا”.
وفوق أكمة عالية “ووراء الأكمة ما وراءها”
أرتقي علوَّ الحارة التي قُدَّ اسمُها من إحدى الجهات الأربع بمعية الشيخ سليمان بن أحمد الصلتي الرجل الذي يسكن “غلا” ، وتسكنه “غلا” البلدة والحارات والعيون والأفلاج والمقاصير.
تطالعنا “صفاة” وعليها بقايا “مسجد البلاد” وقد تبعثرت حجارته وعليها الصلوات العالقة وعطر الجباه.
لكن سيف بن عامر الرقادي شيَّدَ على بعد أمتار من ذلك المسجد الذي تهاوى مسجدا صغيرا تعرفه غلا اليوم باسم مسجد “شرقا”
ومررنا في دربنا بعيون سملها مخرز الزمن فجفَّتْ الأدمع وتيبستْ السواقي.
ولكيلا يتأوه النخل ويشكو العطش تحركت همم الأهالي لتفجِّر عيونا جديدة فتنهلّ مدامع الصخر وتنساب السواقي برحيق البشارات.
أشار الشيخ الصلتي ونحن على الصفاة العالية إلى غافة هرمة تؤنسها بضع غافات مجايلة لها في العمر عند أطراف البلدة فقال:
“هناك وُلِدَ الشيخ العلامة سالم بن حمود السيابي حسب الرواية الشفوية الموثقة والمستقاة من لسان المعمر خلفان بن راشد بن شنون العمراني قبل سنوات”.
اقتربنا من “مقصورة المتقانية” فعند طرفها الشرقي وبمحاذاة “مقبرة النيدية” كانت منازل آل مسيب حسب الرواية.
تذكرتُ ما خطه سيدي الوالد بيده والذي يتفق وهذه الرواية التي يسردها أبو داوود الصلتي:
“ولدتُ في بلدة غلا من حوزة وادي بوشر بجوار بني حسن والصلوت وبني رقاد.
لقد “أتى حينٌ من الدهر” على أطراف “شَرْقا” فاندرستْ أطرافها الشرقية بفعل الجرفات المتتالية للأودية.
لكن المآثر مكانها وهي دوما خارج حسابات اندفاع الماء ، “فأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض” وتبقى الذاكرة خضراء بخصال وشمائل و سِيَر من كانوا هنا وبها تتباهى وتتفاخر.
يستدعي سليمان الصلتي العاشق لبلدته غلا ، والصديق الصدوق لمآذنها ونخيلها وسواقيها بعضاً من مفردات المكان:
“هنا ينساب فلجا “الوسيط” و”الشرقي” ليسقيا “بستان الغافة” المملوك لأولاد علي وحمود أبناء محمد بن نصير السيابي.
وهنا تتوزع مقاصير “الصافية” التابعة لأبناء حمدان بن محمد السيابي وأحمد بن محمد الصلتي وخلفان ين سويد الحبسي فتعيدتي تسمية “الصافية” في “غلا” ل”صافية سمائل” حيث بيت أبي وسبلته ، فأتمتم في داخلي:
” يا للأسماء ووشائجها ورسائلها في التكرار ، بغض النظر عن الأسبق هنا أم هناك”.
ويعود عاشق غلا للحديث عن مقصورة “المتقانية” المجاورة للغاف الذي استظلَّتْه طفولة سيدي الوالد فيقول:
” إن هذه المقصورة لعلي بن خلفان بن سيف الرقادي وتشرب من الفلج الشرقي فتؤكد بذلك ما ذكره الوالد:
“بجوار بني رقاد” فما زال المكان وفياً للمكان.
ويتحشرج صوت سليمان الصلتي وهو يتحدث عن مقصورة “البدع” فنخيلها تستوحش والده الشيخ أحمد بن محمد الصلتي “الفعوان” ذلك العسكري الذي التحق بسلك الجندية كمجاهد بغض النظر عن لون البدلة والشعار والاصطفاف ، فلا بد للوطن الذي شطرته الظروف يوما من أن يثور على نفسه ليعتنق عقيدة عسكرية واحدة ويتخندق تحت راية واحدة.
هنا كان والده يعلِّق على “كربة” نخلة بندقيته ليمتشق بندقية أخرى من طراز “المسحاة”.
ويتنكب مقذوفاً آخر من نوع “الهيب” كبديل ل” آر بي جي” فالوطن حتمي الانتصار وكذلك مقصورة “البدع” التي يجب أن تزهر فالقيظ موسم الانتصار.
أما المقصورة المعروفة ب”الرفصة” فهي كما يقول الصلتي :
“من المقاصير الكبيرة الداخلة ضمن أوقاف اللواتيا في غلا”.
هنا إذن ولد أبي في “شَرْقَا” حيث تشرق الشمس على غلا
وحيث تستفتح البلدة حاراتها.
وحيث يطل النهار.
وحيث تتفصد الصخور دمعا وعرقا لتشب النخيل على العنفوان.
وهنا عند سفح الجبل العالي لبلدة غلا وليس ببعيد عن “جبل حيد” أطلق صرخته الأولى.
وهنا على مقربة من أطلال طريق السيارات القديم الرابط بين غلا وبوشر والذي أمر بشقه السلطان الراحل سعيد بن تيمور كانت بيوت الآباء وشواهد قبور الأجداد.
ومن المفارقات أنني كنت هنا قبل قرابة عامين وبالتحديد في ١٨ أبريل ٢٠٢٣م ودون أن أعرف أنني على مسافة صرخة طفل بقماطه.
وأن ذلك الطفل كان أبي.
يومها جئت لأتحسس حرارة الماء الذي عقد عليه السلطان برغش بن سعيد الرجاء بعد الله بالشفاء بعد أن آيسه الأطباء.
فكانت هذه التغريدة التي كتبتها يومها ، وبها أختم:
“قد يحملك اليأس فتترك مستشفيات الدنيا لتغمس هزيع عمرك في “وُقْبة” عين غلاء.
لعل عصارة الجبال تتفصَّد عن ترياق لم يعرفه الطب منذ “إمحوتب” إلى أبي الطب “أبوقراط”.
هكذا فعل السلطان برغش بن سعيد الذي آيسه التردد على أطباء الهند وأوروبا.
إلا أن دنوّ الأجل لن تؤخّره مياه العين الساخنة.
ولا سماعات الأطباء.
حمود بن سالم السيابي
مسقط في ٢٩ يناير ٢٠٢٥م.