تمثِّل الأزمات اختبارًا حقيقيًّا للهُوِيَّة الوطنيَّة، وتجسيدًا عمليًّا للقِيَم والأخلاق والثوابت الأصيلة؛ كون نواتجها تعبِّر عن مستوى الوعي الجمعي المتحقق لدى المُجتمع في تعامله مع تأثيراتها وتفاعله مع أحداثها ونتائجها، وإدراكه لحجم التعاطف والتَّكاتف والتعاضد والتلاحم الَّذي يبديه مع مُجتمعه، من خلال حشد الوعي الجمعي بانتهاج أفضل السُّبل للحدِّ من تأثيراتها السلبيَّة على حياة الإنسان والبيئة والتنمية الوطنيَّة، وتقليل خسائرها في الأرواح والممتلكات، وعبر استنطاق القِيَم والأخلاق واستدراك حضورها في حياة المُجتمع باعتبارها الطريق الآمن في الخلوص من الأزمات والتقليل من التحدِّيات، وما يرتبط بها من بناء قوَّة ذاتيَّة، تحصن الفرد من الهشاشة الفكريَّة والنفسيَّة والتذمر والسخط والقنوط، وتؤسِّس فيه الإيجابيَّة والرضا والصبر وتقدير الظروف، وترفع من سقف المشاعر الراقية المعززة للتضامن والتلاحم والتعاضد والتكافل الاجتماعي، كما تُعيد إنتاج وقراءة المفاهيم المتولدة لدَيْه حَوْلَ المبادئ والثوابت الوطنيَّة، والقناعات الَّتي التزمها حَوْلَ مفاهيم الولاء والانتماء والمواطنة والهُوِيَّة لتتأصل اليوم في ظلِّ مدركات الأزمات وتراكميَّة الأحداث ممارسة أصيلة نابعة من الإرادة الحقَّة والشعور اليقيني والثقة بالنفس، وبالتالي ما ينتج عن هذه الممكنات من فرص تنويريَّة يستشعرها المواطن في سلوكه اليومي، بل ويجد في التزامه بها متعة وسعادة وراحة واستقرارًا، فتسمو لدَيْه المبادئ الرَّاقية والذَّوق السَّليم، وتنمو في مدركاته السَّلام الداخلي نَحْوَ الآخر، وتتولد لدَيْه فرص المبادرة والمبادأة والبحث والتَّطوُّع في تفاعله مع معطيات هذه الحالات في ذاته، بالتزامه بكُلِّ مسبِّبات الهدوء والأمان.
كما أنَّ الأزمات فسحة لالتقاط الأنفاس وفهم الأحداث المتتاليَّة، وإعادة تقييم الممارسات لإنتاج تشريعات من رحم الواقع وأحداثه ومجرياته، والوقوف عن كثب على ما ارتبط بها من دلالات وأحداث وظروف، وما قدَّمته من نماذج وقدوات ومبادرات وتضحيات، وما أصَّلته من مسارات متجددة في العمل الوطني الأصيل، ثم موجّهات التخطيط والتنظيم والتقييم والمراجعة والتصحيح وبناء السيناريوهات المتعاقبة للأزمات ومنهجيَّة إدارتها ومتطلبات التَّحوُّل النَّوعي في الحدِّ من مخاطرها وتقليل أثرها على الإنسان والبيئة والتنمية الوطنيَّة، أو تؤسِّسه في مؤسَّسات الوطن وقِطاعاته من مفهوم العمل الجمعي والتَّكامل المؤسَّسي وسرعة إنتاج القرار والتعامل مع البيانات وتفعيل دَوْر الإعلام الوقائي ومحاربة الإشاعات والوقوف عِندَ مرتكزات التوعية والتثقيف وتلقي المعلومات من مصادرها الرسميَّة، ثم التفكير خارج الصندوق والعمل معا في سبيل ابتكار طرائق جديدة للمعالجة، وتجريب المُجتمع وتهيئته وإعداده للتعامل مع مختلف الظروف الَّتي تتطلب مِنْه أن يمارسَ دَوْر التنفيذ والاستجابة الفوريَّة للأوامر والالتزام بها بدون تردد، أو عبر امتلاكه الثقافة الواعية والأساليب الرَّاقية والحسّ الأمني الَّذي يستشعر فيه الخطر الناتج من تجاوزه وعدم التزامه، لتصبح موجّهات ذاتيَّة ورقابة شخصيَّة نابعة من استدراك الأثر المترتب على عدم أخذ المعلومات من مصادرها الرسميَّة أو المجازفة بدخول الأودية أو الخروج من المنزل أو عدم التعاطي بجديَّة مع متطلبات الأمن والسَّلامة، وعندما تتفاعل هذه الأُطر وتنسجم مع طبيعة الهدف الَّذي سعَتْ منظومات الدَّولة الأمنيَّة والعسكريَّة والمَدَنيَّة في تحقيقه، حماية للمواطن والمقيم ورفع درجة الخطر النفسي والفكري المترتب على هذه الأزمات، تأتي النواتج متناغمة مع هذا التحوُّل في استراتيجيَّات حياة تنتصر للإرادة الجمعيَّة، وتتولد في ظلال هذه الأحداث المفاهيم والاستراتيجيَّات الكفيلة بتصحيح المسار، كما يرتفع سقف استحضار القِيَم والأخلاقيَّات المعبِّرة عن المواطنة، ويستدر الجميع أن الأزمة الحاصلة ليست نهاية المطاف، وأنَّ الظروف الصَّعبة وتعسر الأحداث لا بُدَّ لها من مخرج، فلا يعني تراكم الأزمات الركون للفشل أو الاستسلام للعوارض، بل هي محطَّات لإعادة إنتاج حلول الواقع وفرصة للبناء وتجديد الهمَّة واستفراغ الوسع واستنطاق القِيَم وتجديد الذهن وتغيير طرائق البحث وأدوات العمل، وتوليد البدائل وإعادة مساحة التفكير في المهمة الجديدة عبر قراءة كل المعطيات والأحداث والاستفادة من أرصدة النجاح والتجارب السابقة والحدّ من العمليَّات المتكررة، وتصبح الأزمات والكوارث بذلك ليست مجرَّد حالة استثنائيَّة يَجِبُ أن يتعاملَ المُجتمع معها بكُلِّ حذر ومهنيَّة والتزام بما يصدر من اللجنة الوطنيَّة لإدارة الحالات الطَّارئة، بل تصبح الأزمات رابطة وطنيَّة ومحطَّة تفاعليَّة واستراتيجيَّة حياة متجدِّدة تعيد إنتاج مؤسَّسات الدولة والمُجتمع المَدَني ومكوِّناته، وتقوية رابطة التَّآلف والتَّعاون والتَّكامل والشراكة بَيْنَها، واستكشاف مدى كفاءة الممكنات الدَّاخليَّة والحوافز والإرادة والرَّغبة في العطاء والتحمُّل وحسّ المسؤوليَّة وقوَّة الوازع ونهوض الضمير وتغييب الأنا، وتقوية عنصر المبادأة والمبادرة والخيريَّة والإنتاجيَّة، وهي بما تحمله من أحداث وسيناريوهات، وتنتجه من بدائل وحلول، وتبنيه من أُطر واستراتيجيَّات، وتؤصِّله من قوانين وتشريعات وإجراءات، تُعزِّز من التَّضامن والوحدة والتَّكاتف والتَّعاون ووحدة الرأي وكفاءة سيناريوهات العمل والاعتماد على النفس وإعادة إنتاج السلوك الوطني، وتعظيم الولاء للدَّولة والعيش في كنف المؤسَّسات؛ فإنها أيضًا الطَّريق لبناء منظومة التخطيط السَّليم والتنفيذ الأمين والمراجعات الوطنيَّة الجادَّة وإعادة توظيف الفرص وتقييم الممارسة وحفز التوجُّه نَحْوَ إدارة التغيير واستخدام التقنيَّة وحوكمة التشريع وتقوية البنية المؤسَّسيَّة في إدارة الحالات الطَّارئة، وتقييم المخاطر، واتخاذ قرارات استراتيجيَّة نَحْوَ مراجعة البنية الأساسيَّة من شبكات الطُّرق والكهرباء والمياه، وسدود الحماية، والتخطيط العمراني وغيرها كثير.
وعَلَيْه، فإنَّ إسقاطَ هذه المعطيات على الحالة العُمانيَّة وتنوع الأزمات والحالات الطَّارئة الَّتي تعرَّضت لها سلطنة عُمان، يضعنا أمام استشعار لِدَوْر الأزمات في التعبئة للقِيَم الوطنيَّة، فهي من جهة استدعاء للذاكرة الوطنيَّة الجمعيَّة والرصيد الحضاري القِيَمي والأخلاقي، والفرص والموجّهات وقواعد السلوك والاستراتيجيَّات بما فيه من ثوابت وقِيَم وهُوِيَّة وسَمْت، في التكيف مع هذه الأزمات واستنطاق هذا الرصيد واستنهاضه؛ باعتباره ممكنات لسلطنة عُمان من التعامل الواعي معها، ولقد أظهرت المواقف والأحداث السابقة جليًّا، كفاءة الجاهزيَّة الوطنيَّة في إدارة الحالات الطَّارئة، وحضور خطوط التأثير الوطنيَّة مُجتمعة، العسكريَّة والأمنيَّة والمَدَنيَّة في إدارة هذه الأحداث، وبناء سيناريوهات عمل وطنيَّة عززت من كفاءة الأداء الوطني وقللت من المخاطر النَّاتجة عنها؛ فإنَّها في الوقت نفسه أعطتْ صورة مشرقة للروح المعنويَّة العاليَّة والتَّآلف والانسجام بَيْنَ مكوِّنات البيت العُماني المؤسَّسي والمُجتمعي على حدٍّ سواء في قراءة ملامح العمل الوطني في مواجهة الأزمات، والتعاطي الواعي مع متطلبات الإنجاز، وإدارة سيناريوهاته بكفاءة واقتدار، وحرص على تحقيق أعلى درجات الأمان والاستقرار للإنسان العُماني والقاطنين على أرض عُمان الطيبة. وبالتالي موقع المبادئ والقِيَم والأخلاقيَّات والعادات والتقاليد والعلاقات والإجراءات والاحترازات الَّتي عمل المُجتمع على الإبقاء على وجودها حاضرة أصيلة في ممارساته، جسور أمان تواصليَّة مع الذَّات والآخر، وخيوط اتصال عالية التأثير انعكست على السلوك المرتبط بالتهيئة النفسيَّة القبليَّة والبعديَّة وفي الأثناء في التَّعامل مع مقتضيات الأزمات والحالات الطَّارئة، إلى دَوْرها في بناء التشريعات والقوانين المحفزة والضوابط الداعمة لتعزيز الهُوِيَّة والأخلاق والقِيَم باعتبارها موجِّهات أصيلة تتناغم مع الأولويات الوطنيَّة وتنسجم مع الضرورات المُجتمعيَّة، بحيث تؤسِّس هذه التشريعات إلى انطلاقة جديدة تعيد إنتاج دَوْر القِيَم كداعم للمُجتمع وحاضنة له وحاضرة في ذاكرته، وقادرة على إدارة معطيات الحالة الوطنيَّة بطريقة أكثر احترافيَّة ومهنيَّة، ومنع تقاطع العادات والممارسات والتقاليد مع ثوابت الهُوِيَّة العُمانيَّة أو أن تكُونَ سببًا في الإضرار بالمصالح الوطنيَّة، أو أن تكُونَ سببًا في نمو الظواهر الفكريَّة والنفسيَّة في المُجتمع، وبالتالي يصبح الهدف من تعزيز هذه التشريعات والضوابط إعادة إنتاج دَوْر القِيَم والمبادئ والخصوصيَّة الوطنيَّة في التغيير، وتشكيل ظروف المرحلة، لبناء الشخصيَّة العُمانيَّة المتعايشة الظروف الصعبة، وفي إنتاج القوانين الَّتي تنظم العمل التَّطوُّعي والإعلام الوقائي والحدّ من الإشاعات وتعزيز المحتوى الوطني وإنتاج أُطر تشريعيَّة وتنظيميَّة تَضْمن المحافظة على أخلاق الأزمات معايير، وجملة الإجراءات والتدابير والأُطر الَّتي تستهدف حماية الوطن والمواطنين وكل القاطنين على أرض سلطنة عُمان.
د.رجب بن علي العويسي