بقلم : د. صالح بن عبد الله الخمياسي
الحياة دروب نمشيها إلا أنها لا تسير بنا على وتيرة واحدة، فتارةً تسوق لنا ما نشتهي وأخرى تجلب لنا عكس ما تتمنى تزف لنا لحظات هانئة تعمنا بالفرح والسعادة، وأخرى تضعنا أمام تحديات تحتم علينا التغيير..
ان التغير امر حتمي لكن ردود أفعال الناس تجاهه تختلف بين محتفي أو متفرج أو مناهض، ولكن كيفية تفاعلنا معه هي التي تصنع الفارق في حياتنا.
سأتطرق اليوم إلى كتاب ” من الذي حرك قطعة الجبن الخاصة بي؟” كتاب صغير في حجمه غزير في محتواه ورسالته. يشير من خلاله مؤلفه سبنسر جونسونً الى أن الحياة رحلة كتب علينا التعامل مع متغيراتها ومستجداتها. فلابد من أن نتكيف مع سهولها ووهادها وجبالها. يأتي الكتاب ليوفر لنا دليل إرشادي ملهم في كيفية التعامل مع التغيير بشكل إيجابي لكي نحول التحديات إلى فرص لتتجدد الحياة ونجني ثمار الفرص.
يسرد لنا الكاتب بأسلوب بسيط وعميق فكرة التكيف مع التغيير، وكيفية التعامل مع المواقف غير المتوقعة في حياتنا الشخصية والمهنية.
تدور أحداث هذه القصة التي حازت على إعجاب الكثيرين عبر العالم، ورفعت سقف مبيعات هذا الكتاب وأدت لترجمته إلى العديد من اللغات حول أربعة شخصيات رمزية، فأران (سنيف وسكوري) وقزمان صغيران (هيم وهاو)، يعيشون جميعًا في متاهة بحثًا عن الجبن الذي يمثل أهداف الحياة، سواء أكانت النجاح، المال، العلاقات، أو السعادة. اما المتاهة فترمز إلى المكان الذي تقضي فيه وقتك بحثا عما تنشده. ترمز إلى البيئة التي نعيش فيها. تدل على التحديات والصعوبات التي نواجهها يوميًا والطرق المتشابكة والمواقف غير المتوقعة التي تجعلنا نبحث عن حلول ونجاحات لتخطي ما يعترضنا من عقبات. قد تمثل المتاهة سوق العمل الذي يتطلب منا البحث عن الفرص (الجبن) او ملاحقتنا وسعينا لتحقيق الأهداف الشخصية بالرغم مما يصاحبها من تحديات ومحن. اما الجبن فيرمز إلى الأهداف التي نسعى لتحقيقها في حياتنا ويمثل رغباتنا التي تختلف من شخص لآخر وتعكس قيمنا وأولوياتنا. في مجال العمًل قد يكون ذلك ترقية، او راتب أعلى، أو تحقيق مشروع ناجح. اما في الحياة الشخصية فقد يمثل السعادة، او الحب، او الصحة، أو تحقيق حلم شخصي.
ان هذه القصةً تدور حول البحث عن الجبن في المتاهة، مما يعكس رحلتنا في الحياة. التي تعد بمثابةً التحدي الحقيقي ليس فقط للعثور على الجبن، بل التعامل مع فقدانه أو تغيّره المفاجئ.
في نطاق هذه المعادلة يكتشف الجميع مخزونًا كبيرًا من الجبن، لكنهم يصدمون لاحقًا عندما يختفي الجبن فجأة. حينها ينهض الكل من سباته حيث لا أمان فيما اعتاد عليه بمنطقة الأمان. هنا تتباين ردود أفعال الشخصيات الأربعةً ففي حين نجد ان سنيف وسكوري يتقبلان التغيير ويتكيفان معه بمرونة تجعلهما الإسراع في البحث عن فرص أخرى يجدان من خلالها جبن جديد دون مضيعةً للوقت..
إلا أن هيم يرفض التغيير ويواصل شكواه وتذمره ويندب حظه، بل يصر على البقاء في مكانه دون أن يحرك ساكنا. اما زميله هاو تردد، في قبول التغيير لكنه أدرك أهميته وبدأ يتعلم كيفية مواجهته التحديات والتأقلم معها..
تمثل الشخصيات الأربع في هذه القصة أنماطًا مختلفة من السلوك البشري في مواجهة التغيير. أسرد فيما يلي نمط كل منهم:
سنيف: (Sniff)
فهو فأر سريع الاستجابة، يعتمد على حواسه ويستشعر التغيير مبكرًا ويبدأ بالتصرف قبل حدوث أزمة. إنه يرمز إلى الأشخاص الذين يتمتعون بحدس قوي ويتوقعون التغيرات. هم دائمًا مستعدون لذا تجدهم يقبلون التغيير كجزء من الحياة ويتصرفون بمرونةً تجاهه.
: سكوري (Scurry(
فأر عملي وسريع الحركة. بمجرد ملاحظته للتغيير، يتحرك فورًا للبحث عن حل بدلاً من التفكير العميق أو المماطلة. هذه الشخصيةً ترمز للأشخاص الذين يفضلون العمل والتنفيذ على التسويف والمماطلة والتفكير الزائد. يعتمدون على العمل الجاد بدلاً من القلق فهم يتعاملون مع التغيير كفرصة للعمل والتحسين.
:هيم (Hem)
شخص صغير، عنيد ومتشبث بالماضي. تجده يرفض التغيير بشدة ويشكو من الوضع الجديد. يعتقد أن
الأمور يجب أن تعود كما كانت فهذه الشخصية تمثل الأشخاص الذين يخافون من التغيير ولا يريدون مغادرة منطقة الراحة الخاصة بهم تجدهم لا يدخرون وسعا في مقاومة التغيير بشدة، مما يعيق تقدمهم ويجعلهم في سكون لا يغادرون منطقة الأمان.
: هاو (Haw)
شخص صغير، متردد لكنه يتعلم. يرفض التغيير مثل هيم في البداية، لكنه مع الوقت يبدأ في التفكير بشكل إيجابي ويقرر التكيف والبحث عن حل. تمثل هذه الشخصية الأشخاص الذين يواجهون صعوبة في قبول التغيير في البداية، لكنهم يتعلمون من تجربتهم وينجحون في النهاية. لذا تجدهم يقبلون على التغيير بتدرج بعد تفكير وتجربة، ويقودهم ذلك التغيير إلى النمو والتطور.
يبقى السؤال كيف يمكننا تطبيق ما جاء في الكتاب في حياتنا العملية والشخصية.
إذا تغيرت بيئة العمل أو طرأت تعديلات في الإدارة أو السياسات، يمكننا تقبل التغيير بدلاً من مقاومته والمسارعة في البحث عن فرص للتعلم وتطوير المهارات المطلوبة والتعاضد في العمل بمرونة مع الفرق والزملاء الجدد.
اما إذا تغيّرت طبيعة المشاريع، كن مثل “سنيف” أو “سكوري”، وابحث عن طرق للتأقلم سريعًا مع المتطلبات الجديدة.
كما يجب علينا التركيز على التحسين المستمر عوضا عن الإنتظار حتى ينتهي الجبن (الفرص الحالية) والسعي لتطوير أنفسنا والحرص على اكتساب مهارات جديدة تعيننا على التألق من جديد..
اما في حياتنا الشخصية لابد لنا أن نتكيف مع التغيير ونحن ننتقل من مرحلة إلى أخرى
عندما يمر أحد أفراد العائلة مثل التخرج، الزواج، وغيرها عوضا عن التشبث بما ألفته نفسنا رغم كل المستجدات.
عند مواجهة تحديات أو خلافات، تذكّر أن تبني رفض أو مقاومة التغيير (مثل هيم) لن يحل المشكلة، بل قد يزيدها تعقيدًا. لذا فإن الخيار الصحيح هو التحلي بالمرونة والتكيف.
كن مثل “هاو” الذي تعلم من تجربته وشارك الآخرين بالحكمة التي اكتسبها. يمكنك أن تكون قدوة للآخرين في تقبل التغيير.
عند مواجهة خسارة أو إخفاق، اسأل نفسك: “ما الخطوة التالية؟” بدلاً من الغرق في الماضي. التغيير في حياتك فرصة للتعلم والتطور. اعمل على تحسين مهاراتك واكتشاف مسارات جديدة. كما يظل الخوف من المجهول هو العائق الأكبر أمام النجاح. تعلّم من هاو الذي واجه مخاوفه تدريجيًا حتى تغلب عليها.
هذا الكتاب يجب قراءته وتأمل ما فيه من دروس وعبر. نجد بين ثناياه إنعكاس للحياة واختلاف في التفاعل الإنساني تجاه التغيير. يقول جون ماكسويل ” إن التغيير أمر حتمي اما النمو فهو إختياري”. لذا علينا أن نًتوقع التغيير والإستعداد للتفاعل معه بإيجابية. الأمر الذي يتطلب تقيّم الوضع والبحث عن الفرص التي يمكن اغتنامها.
إن مثل هذا التوجه الذهني يحتم التصرف بسرعة والنأي عن هدر الوقت في الحزن أو الشكوى والتبرم فكل تغيير هو فرصة لاكتساب دروس جديدة تساعدك في المستقبل.
غادر منطقة الأمان ولا تتشبث بالماضي فالحياة مليئة بالتغيرات التي قد تبدو مزعجة أو مخيفة في الوهلة الأولى.
لكن هذا الكتاب يجسد لنا عبر هذه القصة والنقاشات التي دارت حولها يعلّمنا أن التغيير ليس عدوًا، بل فرصة للنمو، فالمرونة والقدرة على التكيف، تخلق بنا إلى آفاق جديدة تمكننا أن نكون التغيير الذي نود أن نراه في الحياة فإن تحركت قطعة الجبن الخاص بك لا تقلق أحتفي بالتغيير وحلق عبر منصته إلى عوالم تكسبك الجديد فالحكمة تقول لا يجدي البكاء على اللبن المسكوب.
د. صالح بن عبد الله الخمياسي
باحث ومدرب وكوتش في مجال القيادة الذاتية.