إن العقيدة الإسلامية نور يضيء القلوب، وسكينة تتغلغل في الروح، وميزان قويم تستقيم به حياة الإنسان في الدنيا وتُزهر به سعادته في الآخرة. فقد شاء الله أن يكون الإسلام منهجًا خالدًا، يسير بالبشرية نحو الكمال، ويهديها إلى صراط مستقيم، حيث يتجلى في تعاليمه العدل والرحمة، وفي مبادئه الأخلاقية أسمى صور السمو الإنساني.
إن القرآن الكريم، بآياته الباهرة، هو الدليل الواضح لكل من أراد الفلاح، وهو الحبل المتين الذي يصل الخلق بخالقهم، ليقيموا صرحًا متينًا من القيم السامية، ويؤسسوا مجتمعًا يرتكز على الأخلاق النبيلة. فبقدر تمسك الإنسان بهذه القيم، يكون ارتقاؤه في مدارج الإيمان، ويكون المجتمع أكثر تماسكًا وازدهارًا.
ومن هنا، نجد أن الإسلام لم يكن مجرد شعائر أو طقوس، بل هو منظومة متكاملة تزرع في النفوس فضائل الصبر والشكر والكرم، وتؤسس لعلاقة متينة بين الإنسان وربه، وبين الفرد ومجتمعه، ليعيش الناس في وئام، تسوده المحبة ويظلله الإحسان. فالخُلق الحسن هو انعكاس لصدق الإيمان، وكمال العقيدة لا يكتمل إلا بحسن المعاملة، مصداقًا لقول رسول الله ﷺ: “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
إنها دعوة مفتوحة لكل باحث عن الحقيقة، ولكل متطلع إلى السمو الروحي، بأن يغوص في أعماق هذه العقيدة العظيمة، ليستنير بنورها، ويستلهم من معينها الصافي ما يسمو به فكره، ويزكو به قلبه، وتصلح به دنياه وآخرته.
لقد أكرمنا الله – سبحانه وتعالى – بكتابه العزيز، الذي جعله رحمة للعالمين، يهدي القلوب، ويضيء الدروب، ويقود السائرين إلى صراطه المستقيم، فيجد فيه المؤمن زاده، ويستنير به التائه، ويجد فيه العبد سبيل النجاة في الدنيا والآخرة. كيف لا، وقد قال تعالى: “إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا” (الإسراء: 9).
إن البشرية في تاريخها الطويل قد عرفت القيم والمبادئ، لكن هذه القيم لم تبلغ كمالها إلا حينما استمدت نورها من الوحي، وارتبطت بمراد الله – سبحانه – ورسالاته السماوية. فإذا ابتعدت الأمم عن هذا النور، تخبطت في أهوائها، وانحدرت في أخلاقها، فحل بها الضياع والتشتت والانحراف عن الفطرة السليمة. لذلك، كان من مقاصد القرآن الكبرى غرس القيم الأخلاقية، وترسيخها في نفوس الناس، ليكونوا صالحين مصلحين، وبذلك تتقدم المجتمعات وتزدهر الحضارات.
القيم الأخلاقية في القرآن: لبنة الحضارة وأساس البناء الإنساني
إن القيم الأخلاقية التي أرساها القرآن ليست مجرد توجيهات عابرة، بل هي دعائم متينة تقوم عليها المجتمعات الصالحة، وهي الأساس الذي تُبنى عليه الحياة الكريمة. فكما أن البناء يحتاج إلى قواعد راسخة ليصمد أمام التحديات، فإن الإنسان بحاجة إلى أخلاق متينة تحصّنه من التيارات المنحرفة، وتصونه من الزلل، وتوجهه نحو الرقي والكمال.
لقد وضع الإسلام القيم الأخلاقية في موضع القلب من منهجه التربوي، وربطها بالإيمان، بحيث تكون سلوكًا عمليًا ينبع من العقيدة، لا مجرد شعارات جوفاء. ومن هنا نجد أن القرآن قد خاطب النفس الإنسانية بأساليب متعددة، استثارت الوجدان، وحركت المشاعر، وأقامت الحجة البالغة، فجمع بين الأمر والنهي، والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وضرب الأمثال، وسرد القصص، فكانت كل هذه الوسائل تهدف إلى ترسيخ الأخلاق في النفوس.
من القيم الأخلاقية في القرآن الكريم
لقد حفل القرآن الكريم بذكر القيم الأخلاقية التي تضبط السلوك الإنساني، وتسمو به إلى معالي الفضائل، ومن أبرز هذه القيم:
- قيمة الصبر: مفتاح النجاح وسبيل الفلاح
الصبر من أعظم القيم التي حث عليها القرآن، فهو زاد المؤمنين، وعماد الناجحين، وطريق الفائزين، وقد قال تعالى: “وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ” (هود: 115).
والقرآن لم يكتفِ بالأمر بالصبر، بل بيّن أن للصابرين منزلة عظيمة عند الله، فقال سبحانه: “إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ” (الزمر: 10). فالصبر لا يعني الاستسلام للأقدار، بل هو قوة داخلية تجعل الإنسان ثابتًا في وجه المحن، مستعينًا بالله، واثقًا بوعده، منتظرًا فرجه.
- قيمة الشكر: اعتراف بفضل الله وزيادة في النعم
الشكر هو أحد الأبواب العظيمة التي يفتحها الله لعباده، فمن شكر الله زاده من فضله، ومن كفر بالنعم سُلبت منه، قال تعالى: “لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ” (إبراهيم: 7).
والشكر في المفهوم القرآني لا يكون باللسان فقط، بل هو موقف شامل يشمل القلب واللسان والجوارح، فالقلب يعترف بنعمة الله، واللسان يلهج بحمده، والجوارح تسخَّر لطاعته.
- قيمة الكرم: صفة أهل الجود والسخاء
الكرم من الصفات العظيمة التي يمدحها القرآن، فهو من صفات الله – سبحانه وتعالى – حيث قال: “إِنَّ رَبِّي لَغَنِيٌّ كَرِيمٌ” (النمل: 40). وهو من صفات الأنبياء والمؤمنين، فقد وصف الله النبي محمدًا – صلى الله عليه وسلم – بقوله: “وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ” (القلم: 4)، وكان خلقه يتجلى في كرمه وعطائه وجوده.
- العدل: ميزان الحياة وأساس الاستقامة
العدل من أعظم القيم التي جاء بها الإسلام، فقد أمر الله به في كل صغيرة وكبيرة، وجعله ميزان التعامل بين الناس، فقال: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ” (النحل: 90). فالعدل يحقق الأمن والاستقرار، ويمنع الظلم والطغيان، ويقيم الحياة على أسس سليمة.
- الرحمة: تجلٍّ لصفات الله في خلقه
الرحمة من القيم التي تملأ القلب بالإحسان والمودة، وقد وصف الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – بقوله: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ” (الأنبياء: 107). وهي خلق يجب أن يسود بين الناس، حتى تكون المجتمعات أكثر إنسانية وسلامًا.
- الأمانة: أساس الثقة بين الناس
الأمانة خلق رفيع، أمر الله به، وجعلها من صفات المؤمنين، فقال: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا” (النساء: 58). وهي تشمل كل جوانب الحياة، من حفظ الحقوق إلى الصدق في المعاملات.
- الإحسان: درجة الإيمان العليا
الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، وهو قيمة سامية تجعل الإنسان يسعى لفعل الخير، حتى في غياب الرقيب، لأنه يعلم أن الله مطّلع عليه، قال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ” (النحل: 128).
لقد جاء القرآن ليكون منهاج حياة، يبني الإنسان ويصلح المجتمعات، ويهدي البشرية إلى أرقى القيم وأعظم المبادئ. فليكن هذا الكتاب الكريم رفيق دربنا، ومصدر أخلاقنا، وليكن خلقنا كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “كان خلقه القرآن”.
إن القرآن الكريم ليس مجرد كتاب يُقرأ، ولا مجرد أحكام تُتلى، بل هو روح تحيا بها القلوب، ونور يُضيء الدروب، ومنهج يرفع الإنسان إلى قمم الفضيلة، ويصوغ مجتمعًا متماسكًا متحابًّا يسوده العدل والإحسان. إنه رسالة السماء إلى الأرض، وصوت الحق في عالم يموج بالفوضى، ودليل السائرين نحو جنة عرضها السماوات والأرض.
فيا من تبحث عن الطمأنينة، اجعل القرآن جليسك، ويا من تشتاق إلى الهداية، اجعل آياته نبراس طريقك، ويا من تتوق إلى الرفعة، اعمل بهديه، فإن فيه الحياة الحقيقية التي لا تزول، والسعادة التي لا تنضب.
نسأل الله أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء همومنا، وأن يرزقنا تلاوته وتدبره والعمل به آناء الليل وأطراف النهار، حتى نلقى الله وهو راضٍ عنا. فاللهم اجعلنا من أهل القرآن، الذين هم أهلك وخاصتك، واجعلنا ممن يقال لهم يوم القيامة: “اقرأ وارتقِ، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها”.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.