في لحظة من الصفاء، حين يخلو القلب من ضجيج الدنيا، ويغمره سكون الإيمان، تتجلى عظمة الله في كلامه الأزلي، كلام لم تصنعه أيدي البشر، ولم تخطه أقلام الفلاسفة، بل هو النور الذي أشرق على الوجود، والهدى الذي لم يخبُ ضياؤه منذ أن نزل على قلب النبي الأمين.
إنه القرآن الكريم، كلام الله الذي به استقامت القلوب، وانجلى ظلام الجهل، واهتدت النفوس الحائرة إلى طريق الحق.
منذ أن أشرقت شمس الإسلام، وقف البلغاء والفصحاء، أهل البيان وسادة اللغة، مشدوهين أمام هذا الكتاب المعجز، فتزلزلت أفئدتهم، واهتزت عقولهم أمام روعة نظمه، ودقة ألفاظه، وسمو معانيه، لم يكن شعرًا يماثل ما قاله الشعراء، ولم يكن نثرًا تقليديًا كسائر الكلام، بل كان أعظم وأعلى وأجل، تحداهم الله أن يأتوا بمثله، ثم بعشر سور، ثم بسورة واحدة، فما استطاعوا، ولا يزال التحدي قائمًا إلى يومنا هذا، شاهداً على أن هذا الكلام ليس إلا وحيًا من لدن حكيم عليم.
في كل آية منه، يتجلى الإعجاز، في كل كلمة تتناغم الأسرار، في كل حرف ينساب إعجاز لا ينقضي، وكأن الحروف نفسها خُلقت لتكون ناطقة بجلال الله. هو الكتاب الذي “لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ” (فصلت: 42)، فيه خبر الأولين والآخرين، وتبيان للحق في أنقى صوره، وحكمة تخر لها الجبال خشوعًا، فما من أحد تلاه بقلب خاشع إلا وشعر بروحه تحلق في سماء اليقين، وكأن الكلمات ليست مجرد ألفاظ، بل أبواب تُفتح على نور لا يحده شيء.
كيف لا يكون معجزًا، وهو كلام الله الذي به أقام الحجة على العالمين، وجعله نورًا وضياءً، وسرًا خالدًا لا يدرك كنهه إلا من ألقى السمع وهو شهيد؟ إنه المعجزة الباقية، البينة الناطقة، البرهان الساطع على صدق هذا الدين، ودليل أن هذا الرسول ما جاء بهواه، بل جاء بوحي لا يأتيه الباطل، فمن وقف على أعتاب هذا الكتاب، وتأمل في نظمه ودقة تعابيره وروعة سبكه، أدرك أنه ليس من كلام البشر، بل هو وحي أُنزل ليكون للقلوب حياة، وللأرواح شفاء، وللبشرية جمعاء طريقًا إلى الله.
والقرآن الكريم هو أعظم معجزة عرفتها البشرية، فهو كلام الله الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون هدى ورحمة للعالمين. وقد تحدى الله به العرب، وهم أهل الفصاحة والبلاغة، فعجزوا عن الإتيان بمثله، رغم تفننهم في القول وامتلاكهم ناصية البيان.
ولأن كل أمة عُرفت ببراعة في مجال معين، فإن المعجزة التي جاء بها رسولها تتناسب مع ما نبغوا فيه، وكان العرب أهل لغة وشعر وخطابة، فجاءت معجزة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في أعظم صور البيان، حيث تحداهم الله بقوله: “قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا” (الإسراء: 88). فهذا التحدي الصريح ظل قائمًا منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا دون أن يتمكن أحد من مجاراته، مما يعد دليلاً قاطعًا على أن القرآن ليس من كلام البشر.
والإعجاز القرآني له أوجه متعددة، ومن أبرزها الإعجاز البياني، الذي تجلى في روعة النظم ودقة اختيار الألفاظ وعمق المعاني، فقد كان القرآن مدهشًا لمن سمعه من العرب، حتى أولئك الذين كانوا أشد الناس خصومة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لقد وقفوا أمامه مبهوتين، فعندما سمع الوليد بن المغيرة بعضًا من آياته، أدرك أن هذا الكلام ليس من صنع البشر، فقال: “إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه”. ومع ذلك، ورغم اعترافه الصريح، عاد إلى قومه ليروج الادعاءات الباطلة حول القرآن حتى لا يتأثر به الناس.
لقد تميز القرآن الكريم بأسلوب فريد لم يكن مألوفًا عند العرب، فهو ليس شعرًا مقفى ولا نثرًا معتادًا، بل هو أسلوب خاص لم يستطع أحد تقليده. ومن دلائل إعجازه البياني أن نظمه متناسق بشكل يجعل أي تبديل أو تغيير في ألفاظه يُفقده جماله وبلاغته. فمثلاً، عندما قال الله تعالى: “فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ” (المائدة: 54)، قدم محبته لعباده على محبتهم له، ليشير إلى أن محبته لهم سابقة على محبتهم له، وهو ما لا يمكن التعبير عنه بنفس القوة والتأثير بكلمات أخرى.
ومن وجوه الإعجاز أيضًا الإيجاز البليغ الذي يحمل في طياته معاني عظيمة في كلمات قليلة، كما في قوله تعالى: “وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ” (البقرة: 179). فقد اختزلت هذه الجملة القصيرة معنى العدالة والردع وحفظ المجتمع من الفوضى، فجعلت من القصاص حياة للأمة بأسرها، وهو تعبير لا يمكن أن يُختصر إلى كلمات أقل دون أن يفقد معناه العميق.
كما يظهر الإعجاز البياني في ترتيب الكلمات وتناسقها مع السياق، فلا يمكن استبدال كلمة بأخرى دون أن يختل النظم. فعلى سبيل المثال، عندما قال الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ” (النحل: 90)، جاء الترتيب تصاعديًا، حيث بدأ بالعدل، وهو إعطاء كل ذي حق حقه، ثم ارتقى إلى الإحسان، وهو التفضل بما ليس بواجب، ثم بلغ الذروة بذكر إيتاء ذي القربى، وهو أعظم أشكال الإحسان، لما فيه من صلة الرحم والعطف على الأقربين.
الإعجاز البياني في القرآن لا يقتصر على دقة الألفاظ فحسب، بل يتجلى أيضًا في تناسب خواتيم الآيات مع مضمونها. فعندما يتحدث القرآن عن الرحمة والمغفرة، يختم الآية بأسماء الله الحسنى الدالة على ذلك، كما في قوله: “إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” (البقرة: 173)، وعندما يتحدث عن العقاب والوعيد، يأتي الختم مناسبًا للمقام، كما في قوله: “إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” (الحشر: 4). وهذا التناسب الدقيق ليس مجرد اختيار عشوائي للكلمات، بل هو إعجاز لا مثيل له.
إضافة إلى ذلك، فإن القرآن يمتاز بالتناسق الموضوعي، حيث تتكامل معانيه وتتسلسل الأفكار فيه بشكل منطقي متين، فلا تجد فيه تكرارًا مملاً، بل تجد أن كل آية تضيف معنى جديدًا يعزز السياق. ومن ذلك حديثه عن مراحل خلق الإنسان في قوله تعالى: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ” (المؤمنون: 12-14)، فهذا التسلسل البديع يعبر عن دقة خلق الإنسان، ويجمع بين الإيجاز والوضوح، ليجعل القارئ يتأمل عظمة الخالق في كل مرحلة.
وكلما تعمقنا في دراسة إعجاز القرآن الكريم، ازداد إيماننا بأنه ليس من كلام البشر، بل هو وحي من عند الله، فهو كتاب يتحدى الزمن، ويبقى معجزًا رغم تغير العصور وتطور العلوم. لذا، كان واجبًا على كل منصف أن يتدبر آياته، ويستخرج كنوزه، ليشهد بنفسه كيف بلغ هذا الكتاب الذروة في البيان، حتى صار معجزًا لكل من حاول أن يجاريه أو يحاكيه.
وهكذا، يبقى القرآن الكريم معجزة خالدة، تتجدد معانيها كلما تدبرها قلب، ويشرق نورها كلما لامست روحًا عطشى للحق. هو كلام الله الذي لا يبلى، ولا تنقضي عجائبه، ولا يمله من تدبره، بل يزداد به يقينًا كلما أبحر في أعماقه. في كل آية منه برهان، وفي كل سورة معجزة، وفي كل حرف نور لمن أراد الهداية. كيف لا وهو الكتاب الذي أنزله الله رحمة للعالمين، وجعله فرقانًا بين الحق والباطل، ونورًا يستضيء به السالكون؟
إن من ألقى سمعه لهذا الكلام، وأخلص قلبه له، شعر بطمأنينة لا يضاهيها شيء، “أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” (الرعد: 28). ومن ابتعد عنه، أصابه التيه والضياع، فإنما هو الحبل الممتد بين الأرض والسماء، من تمسك به نجا، ومن أعرض عنه غرق في بحار الدنيا دون شراع.
فالقرآن الكريم ليس مجرد كلمات تُتلى، ولا مجرد نصوص تُحفظ، بل هو حياةٌ للقلوب، ودواءٌ للنفوس، وسكينةٌ للعقول، من أخذ به سعد، ومن جعله منهجه في الحياة أفلح، “فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى” (طه: 123). فهنيئًا لمن جعل القرآن رفيقه، وهنيئًا لمن تدبره وفهم معانيه، وهنيئًا لمن اتخذه دستورًا يسير به في ظلمات الحياة، فما كان هذا الكتاب إلا نورًا لمن أراد النور، ورحمةً لمن طلب الرحمة، وحياةً لمن أراد أن يحيا حقًّا.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.