تُمثِّل شراكة المواطن في التَّنمية معادلة قوَّة ومرحلة اندماج وترابط كُلِّ المُقوِّمات الفكريَّة والنَّفْسيَّة والاجتماعيَّة والقِيَميَّة في ذات المواطن ومع الآخر لِتشكِّلَ بِدَوْرها منطلقًا لعملٍ أدوم، وأداءٍ أجدر، وسُلوك أقوم، وسياجًا يحمي الوطن من كُلِّ الممارسات السَّلبيَّة الَّتي تتَّجه إلى الاتِّكاليَّة والاعتماد على الآخر، وتؤسِّس فيه حسَّ المسؤوليَّة والعمل الجادَّ، فيستنطق القِيَم الإيمانيَّة والوطنيَّة المُعزِّزة لهذا الدَّوْر والمُحفِّزة على المنافسة والمؤكِّدة على إثبات بصمة حضور نَوْعيَّة في محيطه الاجتماعي، بما يعنيه في المقابل من أنَّ استشعار المواطن لمسار المشاركة، والعمل مع الآخر من أجْلِ عُمان كُلّ في مجاله وبما يتناسب مع قدراته واستعداداته ويستنهض حسَّ التَّغيير لدَيْه، وفق مبادئ ومعايير التَّعاون والتَّكامل والتَّفاعل والتَّضامن والتَّكافل والتَّعاضد، فيقلِّل من النَّظرة الأحاديَّة الَّتي تغلبها المصالح الشَّخصيَّة عِندَ قيامه بأيِّ عمل مُجتمعي، بل يستشعر قِيمة العمل الجمعي ومسؤوليَّته في الانخراط فيه بدافع إنساني واجتماعي تُجنبه مساحة الشُّهرة والأنانيَّة والفردانيَّة وحُب الظُّهور، فيصنع بإيجابيَّته وتفاؤله بجديَّة هذه المشاركة وأثرها في بناء مناخات مستدامة من الالتزام ومسارات واضحة للعمل وتحوُّلًا ذاتيًّا في ممارساته الشَّخصيَّة والمُجتمعيَّة وطريقة تعبيره عن احتياجاته الشَّخصيَّة في إطار قِيَم المُجتمع، وعِندَها يتحرَّر الفرد من عقدة الأنا والحدود الضيِّقة الَّتي رسمها لِنَفْسه فيهتمّ بالآخر ويسعى لصناعة مسار تقدُّمه ونهضة وطنه بسواعده وفكره وصدق ضميره ومواطنته الإيجابيَّة ونظرته السَّليمة في تشخيص قضايا وطنه فتتأصَّل في نَفْسه وأُسرته ثقافة التَّنمية المبنيَّة على الإخلاص والولاء والانتماء كقِيمة حضاريَّة إنسانيَّة توجَّه لها كُلُّ الجهود وتُنفَّذ من أجْلِها السِّياسات والخطط والبرامج، عِندَها يصبح الوطن مناط العمل ونتاج الجهد.
إنَّ فَهْمَ هذه الغاية مدخل رئيس لتحقيقِ المواطنة المسؤولة الَّتي تنطلق من ثوابت ومرتكزات أكثر ارتباطًا بإيجابيَّة الشُّعور وأكثر التزامًا بمحدِّدات العمل الَّذي يُعبِّر عن قدسيَّة الأوطان في حياة الكادحين المخلِصين العاملين، وهو بهذه الرُّوح الإيجابيَّة الَّتي صقلتها الشَّراكة ومواقف التَّنفيذ ومواقع العمل وجسَّدتها بأحْرفٍ من نور الأثَر النَّاتج مِنْها على أرض الواقع فيما تتركه من قِيمة مضافة ستبقى حاضرة إلى أن يشاءَ الله، وتظهر على الوطن الكبير نماذج مضيئة وممارسات أصيلة وثقافة مُجتمعيَّة نابعة من حسِّ الشُّعور وتقاسم المسؤوليَّات واستنهاض النَّماذج وانتصار القدوات لتنعكسَ على الوطن في وحدة الهدف والمصير، وتكاتف أبنائه، وتفاعل أُطره وتناغم مُكوِّناته، وتقاطع وتشابك منظوماته، وزيادة مستويات العمل المشترك بَيْنَ مؤسَّساته وفَهْم الأُطر التَّشريعيَّة والقانونيَّة والتَّنفيذيَّة في الوصول إلى الحقوق، والتَّأمل في الواجبات والمسؤوليَّات بِعَيْن الحريص على أن تكُونَ له سندًا وظهيرًا ونهجًا وسبيلًا وفرصًا مواتية لتحققَ أهداف التَّنمية الوطنيَّة ورؤية «عُمان 2040» وتعظيم قِيمتها وقِيَمها وتأصيل مبادئها في سُلوك المواطن وممارساته، وعِندَها ستظهر نتائج هذا التَّكامل والتَّعاضد، والمشتركات والمؤتلفات، في نتائج العمل القادمة الَّتي ستكُونُ نموذجًا في الأداء المخلِص والعمل المشترك من خلال منظومة قِيَميَّة أخلاقيَّة تؤكد العدالة الاجتماعيَّة وتقدير الآخر واحترام المسؤوليَّات، بما سيتولد عَنْه من سُلوك متفرِّد يظهر في كُلِّ تفاصيل العمل، والتزامًا يمشي على الأرض متزنًا في التَّصرُّف، حكيمًا في النَّهج، واقعيًّا في المسار، أمينًا في التَّخطيط، صادقًا وموضوعيًّا في رصد المعلومة، متزنًا حتَّى في طريقة التَّعبير عن حُب الوطن، إذ يصبح تحقيق الولاء والانتماء والرِّيادة والمسؤوليَّة مرتكزات لتعميقِ هذا الحُب من خلال طبيعة الإنجاز النَّوعي الَّذي يُقدِّمه من أجْلِ وطنِه من مبادرات جادَّة ومشاركات فاعلة وممارسات نزيهة في كُلِّ مجالات الحياة وتوظيف خبراته ومواهبه في خدمة وطنه. إنَّ تكامل هذا الجوانب يُشكِّل إطارًا عمليًّا ينقل دَوْر الفرد فيه من التَّنظير إلى واقع الممارسة فيجد في العمل التَّطوُّعي والمبادرة الجادَّة والمسؤوليَّة الاجتماعيَّة والتَّكافل الاجتماعي والالتزام الوظيفي والوعي الجمعي محطَّات لتعظيمِ المكاسب وترقية الشُّعور وتعظيم المسؤوليَّة، ومسارات تتجلَّى فيهم أخلاقيَّات الإنسان وقِيَم المواطنة ومرتكزات الولاء والانتماء.
وعَلَيْه، فإنَّ قدرة الإيجابيَّة بما تنفخه في روح الإنساني من معالي السُّمو ومبادئ الإيمان والثِّقة والشُّعور بالآخر وانصهار لكُلٍّ مُلوِّثات الشُّعور من أنانيَّة وشهرة ورياء وأثَرَة لِتعيدَ بناء الإنسان وتُصححَ مساره تأكيد على أنَّ المشاركة الإيجابيَّة أكبر من كونها حالة وقتيَّة؛ بل خيوط ممتدَّة وجسور مترابطة ومشاعر راقية تؤمن بالاستدامة والتَّكامليَّة لِمَا تمتلكه من قدرة في تعزيز مستوى الابتكاريَّة في سُلوك المواطن وتأصيل ثقافة مهنيَّة لدَيْه تُعزِّز من فاعليَّة دَوْره وجودة ممارساته ومستوى التزامه في تحقيق هذه المسؤوليَّات، سواء على المستوى الشَّخصي أو على المستوى الوظيفي وما يوفره له سُلوك الإيجابيَّة من تغذية فكريَّة وبصريَّة وذهنيَّة وفرص لِفَهمِ مسؤوليَّاته الوظيفيَّة، فهي بالتَّالي الإطار الَّذي يقود التَّنمية إلى الاستدامة والوصول إلى تحقيق السَّعادة والاستقرار للإنسان. إنَّ الشَّراكة الإيجابيَّة في هذا الإطار مرحلة التَّوازن في منظومة بناء المواطن وحضوره التَّنموي، والقناعة بقِيمة العمل الجادِّ وأهميَّة سُلوك الشَّراكة وتعميق روح التَّواصُل كمُكوِّنات لمواطنة مسؤولة تنقل استدامة هذا الشُّعور لِيكُونَ ذا أثَرٍ في حياته وواقعه وتغيير عاداته التَّنمويَّة نَحْوَ الأفضل، إذ يعطي مسار التَّنمية القائم على المشاركة الفاعلة فرصًا أكبر للنُّمو والاتِّساع ويقوّي من روح العمل المتفرِّد ويؤصِّل لثقافة مؤسَّسيَّة متوازنة تستفيد من تشخيص الواقع وتحليله ودراسة مكامن القوَّة والضَّعف فيه بما يُعزِّز من قوَّتها ويؤصِّل ثقافتها في المُجتمع.
من هنا فإنَّ المشاركة الإيجابيَّة المتَّزنة هي الَّتي تنظر للتَّطوير من أوسع أبوابه، وتقرؤه في أدقِّ تفاصيله، وتتفاعل معه في مختلف الظُّروف، ليأتيَ القرار الشَّخصي منسجمًا مع الوطن الكبير فتتجلَّى فيه ملحمة الولاء، وتصبح الاحتياجات والمطالبات الشَّخصيَّة في ظلِّ طبيعة الظُّروف الَّتي يعايشها الوطن وحجم الأزمات والحالات الطَّارئة، ممكنة التَّأجيل عِندَما تتحقق الرُّؤية الأوسع وتنضج الغايات الكبرى، لتقدِّمَ المصلحة العامَّة على الخاصَّة، والعمل الجمعي على الشَّخصي، وتصبح قراءة السُلوك في إطاره الواسع وشموليَّته وبُعد الأهداف الَّتي يسعى لتحقيقِها، فهو ما تحتاجه أيُّ تنمية تنشد الاستدامة وترسيخ الوعي، لذلك ينظر لِمَا تقدِّمه مؤسَّسات الدَّولة من برامج وخطط ومشروعات عمل كمدخل مهمٍّ للمشاركة الفاعلة الَّتي تَضْمن بلوغ التَّنمية الوطنيَّة أهدافها، ويبرز الحسّ الوطني المسؤول لدَيْه من خلال ما يقدِّمه لمؤسَّسات الدَّولة من أفكار ومقترحات عمليَّة وما يقدِّمه للوطن من نموذج عملي مُبهر في المبادرة والابتكاريَّة والإخلاص والرَّقابة والنَّزاهة والحفاظ على المال العامِّ والنَّظر للوظيفة في إطار المسؤوليَّة والتَّكليف. إنَّ تحقيقَ هذه الأنماط من السُّلوك تحتاج إلى دفع الذَّات نَحْوَ تقدير العمل المنجز واحترام ثقافة التَّطوير وترسيخ أنماط إيجابيَّة تُعزِّز من قِيمة المسؤوليَّة وفَهْمِ مقتضيات القانون وآليَّة الحصول على الحقوق وطريقة التَّعامل مع المشاريع والبرامج الَّتي تقدِّمها مؤسَّسات الدَّولة في سبيل تحقيق العيش الكريم للإنسان العُماني، هذا الأمر ـ بلا شك ـ سوف يدفع المؤسَّسات نَحْوَ تحسين خدماتها وتحقيق الجودة في أدائها وتقوية وزيادة حجم الشَّراكات الَّتي تقدِّمها مؤسَّسات الدَّولة مع المواطن في الوصول إلى آليَّات عمل يتقاسم الجميع مسؤوليَّاتها، ويفهم الجميع أدواره فيها، وبالتَّالي تمنح الإيجابيَّة فرصًا أكبر للحوار وتزيد من منابر النِّقاش ومنصَّات الاتِّصال والتَّواصُل وتعدُّد وجهات النَّظر؛ لأنَّها تدعم قدرة المواطن نَحْوَ ابتكار أدوات استثنائيَّة والتَّفكير خارج المعتاد والتَّعمُّق في فَهْمِ متطلبات التَّنمية ومعرفة حقوقه وواجباته.
أخيرًا، إذا كانتِ المشاركة الفاعلة تقوم على ممكنات توفِّر البنية الأساسيَّة الصُّلبة والنَّاعمة، وفاعليَّة الأدوات وكفاءة الأساليب المستخدمة في تقييم ورصد نواتج برامج التَّنمية ومستوى التَّكامليَّة في الأداء وجودة الممارسة والتَّحديث في التَّشريعات والقوانين الَّتي تستجيب للتَّحوُّل الحاصل في منظومة العمل والوظيفة العامَّة، فإنَّ فاعليَّة هذه الأدوات والآليَّات لا تنشط في ظلِّ بيئة عمل سلبيَّة وثقافة النُّدرة في المسؤول، أو موظف ينظر إلى الرَّاتب على أنَّه أساس العلاقة بَيْنَه وبَيْنَ مؤسَّسته فيقيس العمل بميزان العائد المادِّي؛ بل تقوَى وتنمو وتتفاعل في ظلِّ توافر مستويات راقية من الوعي والشُّعور الجمعي بالمسؤوليَّة والحرص على الإنجاز. إنَّها المواطنة المسؤولة في أدقِّ وصف وأبلغ تعبير.
د.رجب بن علي العويسي