تُعَدُّ الشُّعوب أحَد أهمِّ خطوط التَّأثير في القضايا الدّوليَّة، ورُبَّما تُمثِّل في بعض الأحيان مركز الثّقل عِندَما تختلُّ أوراق القوَّة الأخرى، ويتصدر مختلف الدَّساتير الدوليَّة أنَّ الشُّعوب هي مصدر السُّلطات، ولا توجد دَولة إلَّا وتَقُومُ على ركائز أساسيَّة هي الأرض والشَّعب والثَّروة والقانون والقيادة والسُّلطات الثلاث. ولا شكَّ أنَّ الشُّعوب هي خطُّ الدِّفاع الأوَّل عن الدوَل، وأنَّ العلاقة المثاليَّة بَيْنَ تلك الرِّكائز ومدى صلابتها وقوَّتها هي ما يُبرز قوَّة الدوَل، وكم من الشَّواهد التَّاريخيَّة شكَّلت تلك المعادلة بامتياز منذُ بداية حركة التَّاريخ حتَّى اليوم. ففي صدرِ الإسلام الأوَّل التفَّ المُسلِمون حَوْلَ هذه الرِّسالة العظيمة بقيادة الرَّسول الكريم ـ صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم ـ فبلغتِ الدَّولة الإسلاميَّة مشارق الأرض ومغاربها من خلال الفتوحات الإسلاميَّة، فما كان لهذه الدَّعوة الجديدة الَّتي بدأتْ في مكَّة والمدينة أن تصلَ إلى حدود الصين وأوروبا والقوقاز وغيرها من أقاصي المعمورة لولا تلك الرَّكائز الَّتي قامتْ عَلَيْها الدَّولة الإسلاميَّة، كُلُّ ذلك جاء بتأييد إلهي، وتمثَّلت كلمة السِّر في العلاقة المثاليَّة بَيْنَ القيادة والشُّعوب وفقًا للقوانين العادلة الَّتي رسَّختْ قوَّة الدَّولة الإسلاميَّة، كما أنَّ هذه المُقوِّمات الدّوليَّة لا تتغيَّر بتغيُّر الزَّمان والمكان، وتتفاوتْ قوَّة الدوَل بناء على تفاوت عناصر قوَّتها، وجميع نماذج الدوَل وقواها الحيَّة لا تخرج عن إطار هذه المعادلة، وهذه الحقائق لها حضورها في التَّاريخ القديم والحديث.
تبرز قوَّة الشُّعوب وحواضنها في الظُّروف القاهرة والحواسم التَّاريخيَّة فتجدها أبرز قوى الدَّولة ومركز الثّقل في أحداث التَّاريخ، ففي شَهر أبريل عام 1960م حدثتْ حادثة شهيرة لسفينة كليوباترا المصريَّة عِندَما رفضَ اتِّحاد عمَّال الموانئ الأميركيَّة تفريغ السَّفينة من القطن وإعادة شحنها بالقمح وذلك لمحاولة ليِّ يَدِ مصر عن دعم القضايا العربيَّة، وخصوصًا القضيَّة الفلسطينيَّة وثورة الجزائر، وكان ذلك بعد فشل العدوان الثُّلاثي بثلاث سنوات تقريبًا، وكان الهدف من تلك الحادثة ممارسة ضغط على الشَّعب المصري الَّذي يعتمد على القمح في حياته اليوميَّة للضَّغط على الرَّئيس عبدالناصر، وحاول السَّفير المصري بالولايات المُتَّحدة آنذاك التَّدخُّل عَبْرَ الخارجيَّة الأميركيَّة والرِّئاسة فلم تصل الأمور إلى نهاية سليمة. علمًا أنَّ التَّبادل كان وفقًا لاتفاقيَّة الصَّادرات والواردات بَيْنَ البلدَيْنِ بعدَها تمَّ تحويل القضيَّة إلى القاهرة وإخطار الرَّئيس جمال عبدالناصر عَبْرَ وزير الخارجيَّة الَّذي أوضح ملابسات الحادثة، مشيرًا إلى تجاهل الإدارة الأميركيَّة إنهاء الموضوع، فلم يكُنْ من الرَّئيس جمال عبدالناصر إلَّا التَّوَجُّه إلى إذاعة صوت العرب وإلقاء خِطاب موَجَّه إلى عمَّال الشَّحن بالموانئ العربيَّة للتوقُّف عن شحن وتفريغ السُّفن الأميركيَّة وذلك بعد توضيح ملابسات القضيَّة وخلال ساعات من خِطاب عبدالناصر توقفتْ كُلُّ السُّفن الأميركيَّة وسُفن الدوَل المُسانِدة للاحتلال الصهيوني فحدثتْ أزمة عالَميَّة أجبرتِ الرِّئاسة الأميركيَّة على التَّدخُّل بشكلٍ عاجل، وإصدار أوامر بتفريغ السَّفينة كليوباترا وإعادة شحنها بالقمح. هذه الحادثة تؤكِّد مدَى قوَّة الحاضنة الشَّعبيَّة العربيَّة الملتفَّة حَوْلَ القيادة والَّتي يُمكِن الاستفادة مِنْها واستثمارها بقوَّة في الأحداث والقضايا الَّتي تمرُّ على الوطن العربي.عُمان البلد الضَّارب في جذور التَّاريخ كان لها أيضًا عدد من الأمثلة حَوْلَ استثمار هذه الحاضنة منذُ ما قَبل الإسلام وحتَّى التَّاريخ الحديث والمعاصر، فعِندَما سيطر الفرس على عُمان قَبل الإسلام استمدَّ مالك بن فهم الأزدي قوَّة الدَّولة من خلال التفاف العُمانيِّين حَوْلَه وقادَهم نَحْوَ استعادة زمام المبادرة، وتحرَّك باتِّجاه منطقة سلوت لِيواجِهَ الفُرس في إحدى أهمِّ المعارك في التَّاريخ العربي (الجاهلي) وحقَّق الانتصار في معركة من معارك العرب المشهودة (معركة سلوت). كما أنَّ التَّاريخ الحديث عام 1624م كان شاهدًا على قدرة العُمانيِّين في تشكيل حاضنة شَعبيَّة حَوْلَ الإمام ناصر بن مرشد اليعربي لِيَقُودَ عُمان وأهلَها لتحقيقِ انتصارٍ كبير على البرتغاليِّين لِيستكملَ الأئمَّة اليعاربة من بعده الإمام سلطان بن سيف والإمام سيف بن سلطان (قَيْدَ الأرض) والإمام بلعرب بن سلطان تلك السِّلسلة الذَّهبيَّة الَّتي استعادتْ أمجاد عُمان وحضورَها على مسرح الأحداث والتَّاريخ، وتمَّت مطاردة البرتغاليِّين من كُلِّ سواحل الخليج وسواحل إفريقيا وصولًا إلى الهند.. فكان الأسطول العُماني أكبر الأساطيل العربيَّة مهابًا من أساطيل القوى الدّوليَّة، وفي عام 1744م عِندَما سادتْ حالةٌ من الضَّعف والانقسام في عُمان وتمَّ احتلال السَّاحل العُماني من قِبل الفُرس، وفي لحظةٍ تاريخيَّة كان العُمانيون على موعدٍ مع إحدى أهمِّ الإضاءات المُشرِّفة فاختار أهلُ الحلِّ والعَقد الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي مؤسِّس الأسرة البوسعيديَّة الحاكمة وبايعوه لِيَقُودَ العُمانيِّين نَحْوَ الأمجاد، ويَقُومَ بطردِ الفُرس ليس من عُمان وحْدَها، بل من سواحل الخليج عامَّة حتَّى البصرة ويُعِيدَ بناء الدَّولة العُمانيَّة. وتكرَّر المشهد في عهد السَّيد سعيد بن سلطان الَّذي شكَّل امبراطوريَّة عُمانيَّة بجناحَيْها الآسيوي والإفريقي، كُلُّ تلك المراحل كانتِ الحاضنة الشَّعبيَّة العُمانيَّة حاضرةً بقوَّة. وفي التَّاريخ المعاصر عام 1970م عِندَما هبَّ العُمانيون للالتفاف حَوْلَ السُّلطان قابوس للمساهمة في إقامة دَولة عصريَّة ونهضة عظيمة رغم الظُّروف الصَّعبة الَّتي كانتْ تُحيط بالدَّولة العُمانيَّة، وهنا ينبغي التَّأكيد على أهميَّة استثمار هذه الحواضن كصمام أمان للدوَل والأوطان العربيَّة لمجابهةِ بلطجة بعض السِّياسات الدّوليَّة.
الحواضن الشَّعبيَّة دائمًا هي المعيار الحقيقي لقوَّة الدوَل وصمودها، فلا ننسَى ما حدَث مؤخرًا في قِطاع غزَّة وحالة الصُّمود الأسطوري في قِطاع جغرافي صغير لا يمتلك إلَّا قوَّة الإيمان والإرادة والاستعداد لمواجهةِ العدوان الصهيوني بوجود حاضنة شَعبيَّة تجلَّت في ذلك العدوان. واليوم يحاول أعداء هذه الأُمَّة تفريغها من أوراق القوَّة الأساسيَّة، وتقليل أهميَّة الحواضن الشَّعبيَّة، لذا يَجِبُ عدم استغفال مثل هذه العناوين الماكرة. ونُشير هنا إلى مطالب تهجير الشَّعب الفلسطيني الَّتي أطلَّتْ برأسها هذأ الأوان بقوَّة وموقف الدوَل العربيَّة المُوَحَّد والمُشرِّف تجاه هذه القضيَّة والَّتي يُفترض أن تتَّحدَ في أيِّ مواجهة تحاول استهداف الوطن العربي، وهذا الموقف الرَّسمي العربي يتطلب موقفًا شَعبيًّا وإعلاميًّا عربيًّا موازيًا وداعمًا لمجابهةِ محاولات التَّنمُّر الدّوليَّة على الأُمَّة العربيَّة والقضايا العادلة ورفض المساس بالسِّيادة العربيَّة. وهنا ينبغي على النِّظام الرَّسمي العربي تدارك أهميَّة هذه الورقة العربيَّة الَّتي يُمكِن توظيفها في مختلف القضايا العربيَّة لِتشكِّلَ سياجًا منيعًا يَجِبُ استثمارها في مختلف القضايا العربيَّة. ولا شكَّ أنَّ الأنظمة الَّتي لا تستمدُّ قوَّتها من الدَّاخل وحواضنها الشَّعبيَّة وتعتقد أنَّها في منأى عن التَّداعيات المُقبلة على المنطقة لن تجدَ الوقت الكافي لإنقاذِ نَفْسها وأوطانها من التَّغيير القادم. حفظَ الله بلادنا وسائر بلاد العرب والمُسلِمِين، والله نِعم المولى ونِعم النَّصير.
خميس بن عبيد القطيطي