إن اللغة هي وعاء الفكر، والبيان هو جوهرها الذي يمنحها القوة والتأثير، وقد بلغت اللغة العربية ذروتها في الفصاحة والبلاغة بفضل القرآن الكريم، الذي جاء بأسلوب إلهي معجز تحدّى به العرب في أفصح عصورهم.
فالقرآن ليس مجرد كتاب تشريع وهداية، بل هو نص بياني خالد، جمع بين الدقة والإيجاز، وبين القوة والجمال، مما جعله معجزاً في تركيبه، مؤثراً في أسلوبه، خاشعاً في إيقاعه.
كما أن البيان في القرآن الكريم ليس مجرد وضوح في التعبير، بل هو أسلوب إلهي يجمع بين الإقناع العقلي والإمتاع الفني، فيرسم الصور البديعة، ويستخدم الأمثال المؤثرة، ويثير العواطف، ويوجه العقول نحو التأمل والتدبر، وقد تجلّى هذا البيان في صياغة الآيات، وفي اختيار الألفاظ، وفي تراكيب الجمل التي تخاطب الفطرة الإنسانية، فتلامس القلوب قبل العقول، وهذا ما ذكرنا عنه مقالات عديدة ومطولة في أوقات سابقة.
ومن هنا، يتجلى إعجاز القرآن الكريم في بيانه، حيث استطاع أن يؤثر في العرب وهم أهل البلاغة، فعجزوا عن الإتيان بمثله رغم تحديهم به، فكيف استطاع هذا النص العظيم أن يحافظ على سحره وتأثيره طوال القرون؟ وما أوجه البيان التي تجلّت في آياته؟ وكيف انعكس هذا البيان على النفوس والعقول؟ هذه الأسئلة وغيرها سنحاول استجلاءها في هذا الموضوع، مستشهدين بالآيات الكريمة التي تُبرز روعة البيان القرآني وعظم تأثيره.
بالإضافة إلى ذلك، إن البيان هو أحد أعمدة البلاغة العربية، وهو القدرة على التعبير عن المعاني بوضوح وفصاحة مع التأثير العميق في المتلقي، والقرآن الكريم هو أعظم نص بياني عرفته البشرية، إذ جاء بأسلوب معجز يجمع بين الجمال اللغوي والتأثير الروحي والعمق الفكري.
أولاً: مفهوم البيان في القرآن الكريم
إن البيان في اللغة هو الإيضاح والكشف عن المعنى، قال تعالى: ﴿هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران: 138)، أي أن القرآن الكريم يوضح الحقائق ويوجه القلوب نحو الهداية. كما أن الله تبارك وتعالى وصف القرآن بأنه مُبين في مواضع عديدة، منها قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جئنهم بكتب فصلنه عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف: 52)، وهذا يدل على أن القرآن الكريم جاء واضحًا لا لبس فيه، جامعًا بين العلم والهداية والرحمة.
ثانياً: أوجه البيان في القرآن الكريم
- وضوح المعاني وسلاسة التعبير
من خصائص البيان القرآني وضوح المعنى مع روعة الأسلوب، مما يجعله سهل الفهم في الظاهر، عميق المغزى في الباطن. فالقرآن يستعمل الألفاظ المناسبة التي تحمل دلالات قوية، كما في قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أحدهما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شيء وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ موليه أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل وَهُوَ عَلَىٰ صرط مُّسْتَقِيمٍ﴾ (النحل: 76)، بالتالي نجد هنا التصوير البياني الذي يجعل المعنى واضحًا تمامًا، حيث يقارن الله تبارك وتعالى بين الرجل العاجز العاطل، والرجل الذي يأمر بالعدل ويسير على طريق مستقيم، في مشهد بياني قوي التأثير.
- التصوير الفني والاستعارات
يتميز البيان القرآني أيضاً بكثرة الصور البلاغية التي تثير المشاعر وتحرك الخيال، مثل تشبيه أعمال الكافرين بالسراب في قوله تعالى: ﴿ولذين كَفَرُواْ أعملهم كسراب بقيعة يَحْسَبُهُ لظمئان ماء حتىٰ إِذَا جاءه لَمْ يَجِدْهُ شيئا﴾ (النور: 39)، حيث يُبرز القرآن خيبة أمل الكافرين في أعمالهم كما يخيب ظمآن ظنّه عندما يصل إلى السراب فلا يجد ماءً.
- الإيجاز والإطناب حسب مقتضى الحال
من إعجاز البيان القرآني أنه يجمع بين الإيجاز البليغ حين يكون المعنى واضحًا، والإطناب حين يحتاج الأمر إلى تفصيل، كما في آية الكريمة: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ امنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلىٰ أَجَلٍ مسمى فكتبوه﴾ (البقرة: 282)، حيث جاءت هذه الآية أطول آية في القرآن الكريم لتتناسب مع موضوعها الدقيق، وهو تنظيم المعاملات المالية.
ثالثاً: تأثير البيان القرآني في النفوس
- الهداية والإقناع
إن القرآن الكريم لا يقتصر على مخاطبة العقل فقط، بل يخاطب القلب والوجدان بأسلوب بياني مؤثر، كما في قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا لناس تقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ لساعة شيء عَظِيمٌ﴾ (الحج: 1)، حيث يستخدم القرآن الكريم نداءً عامًا لكل الناس ليحثّهم على التقوى، ويصور أهوال يوم القيامة تصويرًا يجعل القارئ يشعر برهبتها.
- تحريك العاطفة وإثارة المشاعر
يعتمد القرآن الكريم أيضاً على أساليب بلاغية تؤثر في النفوس، مثل التكرار للتوكيد، كما في قوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ (الرحمن: 13)، حيث تكررت هذه الآية 31 مرة لتذكير الإنسان بنعم الله، مما يخلق وقعًا عاطفيًا قويًا.
- إثارة الدهشة وإعمال الفكر
إن القرآن الكريم يستخدم الأسلوب الاستفهامي لتحفيز التأمل، كما في قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى لإبل كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ (الغاشية: 17)، وهو استفهام استنكاري يدعو الإنسان إلى التفكير في آيات الله تبارك وتعالى في الكون.
رابعاً: تفرّد البيان القرآني وأثره على اللغة العربية
إن القرآن الكريم هو المرجع الأول لبلاغة اللغة العربية، ومن إعجازه أنه تحدّى العرب بفصاحته، كما قال تبارك وتعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجتمعت لإنس ولجن علىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا لقرءان لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ (الإسراء: 88). ولهذا ظل القرآن الكريم مصدرًا أساسيًا للفصاحة، وأثّر في تطور أساليب الكتابة والشعر والخطابة.
كما أن البيان في القرآن الكريم هو أحد وجوه إعجازه الكبرى، إذ يجمع بين الدقة والوضوح، وبين القوة والجمال، مما يجعل تأثيره على القارئ عظيمًا، فكل آية تحمل بين طياتها معاني عميقة وإعجازًا بلاغيًا، وهو ما جعل القرآن الكريم معجزًا في بيانه، خالدًا في تأثيره، ومرجعًا لكل من أراد تعلم الفصاحة والبلاغة.
وهكذا، يتجلّى البيان في القرآن الكريم بأسلوبه المعجز، الذي جمع بين الفصاحة والبلاغة، والإقناع والتأثير، والجمال والإيجاز، ليكون خطابًا خالدًا يلامس القلوب ويوقظ العقول، فقد تحدّى العرب في أوج فصاحتهم، فعجزوا عن الإتيان بمثله أو بشيء قريب منه، رغم أنهم أهل البلاغة وفرسان البيان وأهل الشعر والنثر، وهذا وحده دليل على أن القرآن الكريم ليس من كلام البشر، بل هو وحي منزل من عند الله تبارك وتعالى.
أيضاً إن بيان القرآن لم يكن مجرد زخرفة لفظية أو تنسيق لغوي، بل كان أداة هداية، ومصدر تشريع، وسبيلًا إلى تزكية النفوس وتهذيب الأرواح. فهو كتاب يخاطب العقل بالحجة والبرهان، والوجدان بالموعظة والتأثير، والنفس بالإيقاع والتنغيم، ليجعل من كل حرف فيه نورًا، ومن كل آية سبيلًا إلى الهداية.
ويبقى البيان القرآني شاهدًا على الإعجاز الإلهي، ودليلًا على أن هذا الكتاب الكريم ليس مجرد نص لغوي، بل هو معجزة خالدة تتحدى الزمان والمكان، فلا يبلى مع تقادم الأيام، ولا تفقد كلماته بريقها رغم تغير العصور. وكما قال الله تعالى: “قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا” (الإسراء: 88).
وهكذا، يظل القرآن الكريم ببيانه المعجز نورًا للعالمين، ورحمةً للمؤمنين، وحجةً على المعاندين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.