بقلم : د. صالح بن عبدالله الخمياسي
الشمس ترسل خيوط أشعتها الذهبية. تعلن عن بدء يوم جديد. السيارات تفد بمختلف الأشكال و الالوان من كل الجهات هاجسها الوصول إلى مقرات العمل. تتدفق في الطرق كتدفق الماء في السواقي. يتسابق الجميع للوصول إلى مقر عملهم متحملين وعثاء الطريق من إزدحام يجعل إنسياب الحركة بطيئا كخطوات السلحفاة، او جراء قساوة طقس ماطر او حرارة صيف حارق ولكن الإنسان وحده يظل قادر على التكيف و التحمل فخدمة الوطن رسالته النبيلة و أمانته الجسيمة مهما تغيرت الظروف.
ما أن تبدأ تلك الأفواج بالوصول تتهيأ طوابيرهم للدخول تباعا إلى مقر عملهم فإذا بالحياة تدب في المباني من جديد بعد أن أرخى الليل سدوله عليها و لفها الصمت في الهزيع فباتت كالوعاء الخاوي تصفر فيه الريح.
تتوزع الأصوات في أرجاء المكان بلغات و لهجات مختلفة و قهقهات و إلفة و محبة. وجوه عابسة بعض الأحيان و أخرى متعاطفة معها لأنها تدرك أن الإنسان يتجرع حلو الحياة و مرها فهي إن صفت يوما أصابها الكدر يوم آخر.
يتفرقون كمجموعات كل يقصد دائرته و قسمة.
يستعدون لبدء يوم عمل جديد و يواصلون عزمهم على إنجاز ما أسند إليهم و معالجة ما يعترضهم من تحديات .
معاملات ينجزها الموظف بنفسه و أخرىً بحاجة إلى مساندة أعضاء الفريق و غيرها تقتضي التنسيق مع طرف ثالث حرصا على التعاضد و التعاون و تعاظم حجم الإنجاز.
أن الموظفين يظلون هم قلب المؤسسات النابض و عقلها المدبر و لمسة إبداعها المميزة يل ثروتها الحقيقية التي تحول الموارد المتاحة إلى نتائج ملموسة و واقع يعاش.
تصورا لو كانت مقرات العمل خالية من البشر هل ستحقق الشركات مهماتها؟ هل ستخطو خطوة واحدة نحو رؤيتها المستقبلية ؟
هل سيجد المدراء من يرأسون و يوجّهون و يحملون مسؤولية الأداء و تحقيق النتائج المرجوة. هل ستحقق الشركات أرباحها و تطمئن على ديمومتها و استمرار أعمالها؟ هل سيحصل العملاء على ما يرغبون به من إحتياجات و هل ستستكمل ما يصبو إليها من معاملات. ؟ كيف ستزدهر المجتمعات بل كيف تزدهر الأوطان؟
لقد بات الإنسان في هذه المؤسسات يشار إليه بمصطلحات تطورت مع تطور الفكر الإداري فتارة يطلق عليه موظف و أخرى موهبة من مواهب المؤسسة و ثالثة ينعت بأنه رأس المال البشري و لكن القاسم المشترك هو نجاح القائد في تحفيز و تشجيع هذه الطاقات
و توليد الوعي لديها بما لديها من مواهب و إمكانيات يجب تسخيرها لمصلحة المؤسسة.
يظل الموظفين حجر الزاوية لكل مؤسسة بل هم عمودها الفقري الذي لا غنى لها عنه. إنهم الطاقة التي تحول الخطط إلى واقع يعاش ، والتحديات إلى فرص يستفاد منها، والرؤى إلتي رسمت الى إنجازات إنتصرت عبرها إرادة الإنسان و إصراره و شغفه و إبداعاته و قدرته على الخيال. لذا فإن مقرات عملهم تظل مجرد مباني فارغة بل هياكل صامتة، والآلات جامدة لا تراوح مكانها، والاستراتيجيات التي كتبت تظل حبيسة الأوراق التي كتبت عليها بمعنى أنها باتت مجرد حبر على ورق لا روح فيها تستنهضها لترى النور.
إن أي مؤسسة ناجحة تدرك أن نجاحها الحقيقي و أفضل الممارسات لديها لا يقاس بما تستحوذ عليه من أرباح فقط، بل يتجلى نجاحها كذلك في قدرتها على استقطاب الكفاءات و جعلهم يفدون إليها و يحرصون على الإلتحاق بالعمل بها، ثم يعقب ذلك قدرتها على إحتواء طاقاتها المبدعة والاحتفاظ بها فهي تعيش ما يطلق حرب من أجل المواهب بين المؤسسات ، و لا تدخر وسعا لتحفيزها، وتمكينها من تقديم أفضل ما لديها و مشاركتها في صنع القرارات.
لقد أثبتت التجارب الحياتية أن وجود فريق عمل متحمس ذو كفاءة لا يكفي بل يجب على قادة المؤسسات الإدراك أن كل موظف من موظفيهم له شخصية فريدة، وخبرات مختلفة، وطموحات ذاتية. فهناك من يجد إبداعه في العمل الجماعي، و غيره يبدع عندما يعمل باستقلالية و ثالث تحفزه التحديات و روح المنافسة، و رابع ينشد بيئة محفزة وداعمة لينمو و يجسد إبداعاته.
إن إدارة مثل هذا التنوع البشري ليست تحديًا فحسب، بل فرصة ذهبية لتحويل مواطن الإختلاف إلى قوة، و تعدد الرؤىً على خارطة المؤسسة إلى مصدر للإبداع والتجديد و الحرص على الديمومة.
إن المتغيرات المتسارعة التي تعيشها المؤسسات و التحولات التكنولوجية التي يتحتم الاستفادة منها و التكيف معها تقتضي الاستثمار في مواردها البشرية و لكن مثل هذا الإستثمار لا يترجم بمنحهم رواتب جيدة أو بيئة عمل مريحة، بل يقتضي في الوقت ذاته العمل الدؤوب لتطوير مهاراتهم، والاستماع إلى أفكارهم، و فتح المجال لهم للمشاركة في صنع القرار، و القدرة على التوازن بين متطلبات حياتهم المهنية والشخصية. فالموظف الذي يشعر بالتقدير والاحترام، و يرى أن جهوده تترجم إلى واقع يراه بأم عينه يجعله يشعر بالفخر و الإعتزاز بمساهماته و هو يرى ذلك الجهد يصنع فرقًا، حتما سيبذل أقصى ما لديه، ليس لمجرد تأديته لواجبه، بل لأنه يؤمن برسالة المؤسسة ويسعى لتظافر الجهود على نجاحها.
و اليوم و مؤسساتنا تشمر السواعد للتكيف مع التحديات التي تفرزها بيئات الأعمال و تحاول جاهدة المساهمة في الجهود المبذولة لترجمة رؤية عمان ٢٠٤٠ إلى ثمار تجنى و أهداف تترجم إلى واقع ينشد سعادة الإنسان و تقدمه و رقيه ، على كل قائد فريق أن يتأمل بداخله و يتساءل مع نفسه كيف ينظر إلى موظفيه هل يراهم مجرد أرقام في قائمة الرواتب، أم ينظر إليهم كشركاء في النجاح؟ هل يتعامل معهم كأدوات لتنفيذ المهام، أم كبشر لهم أحلامهم وتطلعاتهم الخاصة؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة تحدد مستقبل المؤسسات، وتضمن استمراريتها و ديمومتها في عالم بات سريع الخطى يعمل بوتيرة يسودها الغموض و التعقيد و المخاطرة لذا لا بد على المراهنة الإنسان فالنجاح مرهون بتبني خيار إيمان الشركات و إدراكها أن رأس مالها الحقيقي هو الإنسان. يقول المفكر الإمريكي بيتر دراكر الذي أطلق عليه لقب الأب الروحي للإدارة الحديثة ، “ليس لدينا نقص في الموارد، ولكن مشكلتنا في الاستخدام غير الفعال لها.”
و بالرغم من جهود التحولات الرقمية و التسابق لإستخدام الذكاء الاصطناعي و التنبؤ باختفاء وظائف و ظهور و ظائف مستقبلية أخرى يظل الإنسان هو الثروة الحقيقية فهو ليس مجرد قوة عاملة، بل هو العقل المبدع، والروح النابضة، والمحرك الذي يدفع المؤسسات إلى الأمام. لذا فإن نجاح أي مؤسسة مرهون بنجاح موظفيها، وتقدمها يعتمد لعلى مدى اهتمامها بهم، و النأي عن النظر إليهم كمجرد أدوات إنتاج تقتضيها طبيعة العمل، بل المراهنة علي أنهم هم ثروتها الحقيقية التي لا تُقدَّر بثمن.
د.صالح الخمياسي باحث و مدرب و كوتش في مجال القيادة الذاتية.