** إنّه ” الروح الشرّيرة ضدّنا التي تحوم حتّى اليوم في كلّ طابق من طوابق الأهرام الثلاثة عشر ” !..
كان ذلك وصفاً مشبعاً بالكراهية المفْرطة للدور الذي لعبه ” محمد حسنين هيكل ” في الصّراع العربي – الإسرائيلي ، كتبته “سيمدار بيري” محرّرة الشؤون العربية في “يديعوت أحرونوت” ، خريف عام 2009 إثر احتجاجات عاصفة في صحيفة “الأهرام” على استقبال السّفير الإسرائيلي “شالوم كوهين” فيها .
كان “هيكل” قد غادرها قبل سنوات طويلة عام 1974 ، لكنّ عقدتَه ظلّت مستحكِمة في الذّهن العام الإسرائيلي .
فيما كتبته الصحافية الإسرائيلية تداخلت المشاعر والأحكام على نحوٍ مربك ، فالرّوح الشريرة التي تحرّض على إسرائيل هو نفسه ” رئيس تحرير أسطوري “.
في الكلام مغالطات تاريخية وأخلاقية حاولت أن تُضفي صفة “الشرّ” على كلّ مَن يناهض المشروع الصهيوني ، أو يناصر ” الضحية الفلسطينية ” ، التي تُنزع من أرضها وتُهدم بيوتها وتُضفي – بالمقابل – صفة “الخير” على مَن يصافحون الأيدي الملوّثة بدماء الضحايا .
بأيّ مراجعة جدّية في أسُس نظرية الأمن القومي في مصر فإنّها تعود بالمقام الأوّل إلى “هيكل” و”جمال حمدان”.
كلاهما مؤيد لثورة ” يوليو/تموز ” وتوجّهاتها الاستراتيجية . وكلاهما كان شاغله الرئيسي ” الجغرافيا والتاريخ “.
أحدهما، قضيته التاريخ ووثائقه في رواية الصّراع على مصر والمنطقة يطلّ على وقائعه من فوق تضاريس الجغرافيا وثوابتها ، والآخر ، قضيته الجغرافيا وعبقرية المكان فيها يقرأ ثوابتها من نافذة التاريخ وتحوّلاته .
بتلخيصٍ لجوهر رؤية “حمدان” فإنّ مصر محكومة بجغرافيتها ، إذا انفتحت على محيطها العربي تقوى وتتقدّم… وإذا انكفأت على نفسها تضعف وتتقهقر .
بتلخيصٍ آخر لرؤية ” هيكل ” للأمن القومي فهناك محوران رئيسيان :
أوّلهما : جنوبي هدفه ضمان سلامة نهر النيل وهو عصب الحياة في مصر .
وثانيهما : شمالي شرقي وبالتّخصيص فلسطين ، لأنّها الجسر البرّي الذي يصل أفريقيا بآسيا في شبه برزخ بين بحرَيْن ، فهذا الجسر البرّي كان طريق مصر باستمرار إلى المشرق حيث تعيش بقية أمّتها العربية ، وكان على مرّ العصور – مدخلها ومخرجها – أي بابها الحضاري والأمني والاقتصادي .
وقد استعادت دراسة إسرائيلية عن ظاهرة “هيكل” ودوره في الصراع العربي – الإسرائيلي ما توقّعه قبل حرب 1967 مباشرةً مِن أنّ ” إسرائيل لا بدّ لها أن تلجأ للسلاح “.
” إنها فلسفة الأمن القومي الإسرائيلي كلّه… الفلسفة التي ارتكز عليها الوجود الإسرائيلي كلّه منذ نشأ ، ويرتكز عليها في المستقبل “.
لم تكن مصادفة أن يكون هو من صاغ ” فلسفة الثورة ” مطلع ثورة 1952 ، التي حدَّدت دوائر الحركة التي تحكُم السياسة الخارجية ، ولا كانت مصادفة أخرى أن يتضمّن التوجيه الاستراتيجي لحرب أكتوبر/تشرين الأول ، الذي كتبه بنفسه ، ” كسْر نظرية الأمن الإسرائيلي ” كهدفٍ رئيسيّ للعمليات العسكرية التي كانت على وشك أن تبدأ .
وِفق الدراسة الإسرائيلية نفسها ، فهو ” من بَلْوَرَ الرؤية العربية تجاه إسرائيل وصاغ الخطاب العربي ، الذي امتد أثره حتى الآن وأكسبه عُمقًا ثقافيًّا ومعرفيًّا “.
الدراسة كتبها البروفيسور “يو حاي بر سيلاع” المتخصِّص في الشؤون العربية والأفريقية ، نشرتها دوريّة “أمجو” البحثيّة ، التي ظهرت في أغسطس/آب 2003 بعد احتلال العراق ، وتولّى ترجمتها الدكتور ” محمد عبود “
أستاذ العبرية في جامعة عين شمس على صفحات
جريدة ” العربي “.
تبنّت الدراسة سؤالًا افتراضيًّا : ” ماذا لو هُزمت إسرائيل؟ “
أخذَت سؤالها من كتاب أميركي نشأت فكرته حين التقى في نيويورك ثلاثة صحافيين من مجلة “نيوزويك” على غداء عمل هم : “ريتشارد تشيزنوف” ، و”إدوارد كلاين” ، و”روبرت ليتل” ، الذين غطّوا أحداث الحرب من الجانب الإسرائيلي .
على الرَّغم من الطابع التخيّلي لما جاء في الكتاب، الذي صدر في فبراير/شباط 1969 ، إلّا أنّه اعتمد بالأساس على أحداث واقعيّة .
وقد كان هدفه المباشر التأثير في صانع القرار الأميركي طلبًا للمزيد من الدعم لإسرائيل ، على الرَّغم من كل ما حازته من سلاح ومال وما حصدته من نتائج عسكرية فاقت كل توقّع في حرب 1967.
إسرائيل دائما مهدّدة ، وأميركا دائمًا مقصّرة ، والعرب ينتظرون الفرصة للانتقام ، انْطوت تلك الرؤية على نزعتيْن متناقضتيْن ـ إسرائيل مهدّدة وهزيمتها غير ممكنة .
الفرضيّة نفسها ماثلة الآن على الرَّغم ممّا لحق بإسرائيل من انكشاف عسكري واستخباراتي فادحَيْن في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 .
نزعت الدراسة عن العرب أي فرصة لأي نصر ، لا في الماضي ولا في المستقبل ، على عكس ما روَّج له “هيكل” من أنّ النصر ممكن .
لا يخفي الباحث الأكاديمي الإسرائيلي إعجابه البالغ بقدراته الاستثنائية ، فهو ” صانع سياسات من طراز خاصّ “
و” رئيس تحرير أسطوري “… وقد ” كانت الأهرام تحت قيادته أهمّ جريدة في العالم العربي والوحيدة
التي يتابعها العالم كلّه باهتمام بالغ “.
كما أنّه ” قصة نجاح ماثلة في الأذهان ” ، و”علاقته مع جمال عبد الناصر تجاوزت بكثير مجرّد صداقة وطيدة بين صحافي وزعيم سياسي” ، “ومهارته المهنية الهائلة في فنّ الكتابة الصحافية أكسبته قوة استثنائية لدى الجمهور العربي ، فكلّ ما يكتبه ، كأنّما قاله عبد الناصر بنفسه “.
حسب الدّراسة فإنّه بعد شهور قليلة من الهزيمة كتب مقالًا (أكتوبر/تشرين الأول 1967) قال فيه :
” العدو الإسرائيلي ، على الرَّغم من قدرته على استغلال ما يتاح له من إمكانات، فإنّه لا يلقي الرّعب في النّفوس وقدراته لا تخرج عن الإطار العادي ، وإلحاق الهزيمة الكاملة به أمر ممكن “.
بمزيج من الإعجاب البالغ والنّقد اللّاذع ، تعقّب الأكاديمي الإسرائيلي “يو حاي بر سيلاع” سيرة حياته وقصته مع القضية الفلسطينية .
” هو الرجل الذي دعا الجمهور العربي عام 1964 إلى اعتبار القضية الفلسطينية قضية مصيرية وفق النقاط التالية :
أ – إسرائيل تُمثّل قاعدة عدوانية في خدمة الإمبريالية الغربية .
ب – إسرائيل هي العقبة الكؤود في وجه الوحدة العربية .
ج – لدى إسرائيل مطامع في التوسّع والتمدّد على حساب القوى العربية والإنسان العربي “.
بعد تسع سنوات من رحيل ” هيكل “، فإنّ أهم ما يتبقّى من إرثه عمق نظرته إلى الأمن القومي .
(خاص “عروبة 22”)
عبد الله السناوي