يعقد العرب قمَّة عربيَّة طارئة بالقاهرة في الرَّابع من مارس قمَّة استثنائيَّة للتَّصدِّي لمحاولات تصفية القضيَّة الفلسطينيَّة، وذلك بعد مطالب استعراضيَّة سافرة من قِبل الرَّئيس الأميركي دونالد ترامب بتهجير الفلسطينيِّين من أرضهم وديارهم وهي أضغاث أحلام خارج سياق التَّاريخ والأحداث والحالة السياسيَّة والأمنيَّة والعسكريَّة، وبعد صُمود أسطوري أبدَتْه المقاوَمة الفلسطينيَّة في قِطاع غزَّة أمام جحافل العدوان الصهيوني المدعوم دوليًا.. هذه اللَّحظة التَّاريخيَّة الَّتي استبقَها العرب ببيانٍ مشترك وموقف عربي موحَّد أعلنوا من خلاله رفضهم للتَّهجير، وفي حقيقته رفضهم للابتزاز الأميركي والتَّدخُّل السَّافر في خصوصيَّة وسيادة الدوَل العربيَّة، وقالوا كلمة «لا» أمام تلك المطالب وإن جاءتْ متأخرة، وإن لم يتبعْها تنويه باستخدام أوراق القوَّة أو ممارسة الضَّغط السِّياسي والاقتصادي عَبْرَ مسارات عدَّة مِنْها إنهاء التَّطبيع وطرد السُّفراء الصَّهاينة من الأراضي العربيَّة، أو استخدام ورقتَي النِّفط والغاز أو إلغاء اتفاقيَّات السَّلام مع ما يُسمَّى (إسرائيل) أو تعريض المصالح والعلاقات العربيَّة ـ الأميركيَّة المتبادلة لحالة من الفتور في مرحلة يتَّجه فيها العالَم نَحْوَ تعدُّديَّة قطبيَّة. علمًا أنَّ السِّياسة الأميركيَّة ـ ومنذُ عُقودٍ ـ حريصة على استمرار المصالح المشتركة المتبادلة بَيْنَ الطَّرفيْنِ العربي ـ الأميركي. كُلُّ تلك الأوراق العربيَّة، وإن لم تطرحْ على سياق الأحداث، إلَّا أنَّه لا يُستبعد استخدامها مستقبلًا إذا ما تطوَّر الأمْر، لذا فإنَّ الموقف العربي الموحَّد والمُعلَن الرَّافض للتَّهجير يأتي مُعَبِّرًا أيضًا عن رفض السِّياسات المتنمِّرة المقدَّمة على شكل (أوامر) تستهدف السِّيادة العربيَّة والأمن القومي العربي والجغرافيا والديمغرافيا في وطن عربي كبير لا يُستهان به إذا ما استشعَر المخاطر على مستقبلِه ومصيره. اليوم وبعد غياب عربي رسمي طويل، يُمكِن للنِّظام العربي العودة إلى التَّاريخ لتشكيلِ موقفٍ عربي صُلب، والمناورة بما يمتلك العرب من أوراق مختزلة في لحظة تاريخيَّة فارقة للتَّصدِّي ومجابهة تلك المخاطر على الأمن القومي العربي. وهنا نذكِّر بأنَّ كلمة «لا» الَّتي قالها العرب اليوم تُعِيدُ الذَّاكرة التَّاريخيَّة إلى مؤتمر الخرطوم عام 1967م الَّذي أكَّد فيه العرب موقفًا عربيًّا حازمًا «لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف، وما أُخذ بالقوَّة لا يستردُّ إلَّا بالقوَّة»، وعلى العرب اليوم التَّصالح مع الواقع، وإيجاد مقاربة مع الموقف الشَّعبي ونُخَبه الفكريَّة لإعلان كلمة «لا» مدجَّجة بأوراق القوَّة والمُعَبِّرَة عمَّا يتوافر للأُمَّة العربيَّة من قوَّة، وذلك بعد عُقود من الانزواء خارج دائرة التَّأثير.
اليوم هناك سانحة تاريخيَّة للنِّظام الرَّسمي العربي للاصطفاف مع أُمَّتهم العربيَّة الَّتي تنتظر مِثل هذا الموقف الصُّلب، وهذه اللَّحظة التَّاريخيَّة الَّتي تقول «لا» لتشارك الجانب الرَّسمي في موقف عربي موحَّد يتخندق فيه الرَّسمي والشَّعبي من أجْلِ القضيَّة الفلسطينيَّة، ولا يظن أيّ» كان أنَّ الشُّعوب لا تستطيع تغيير المعادلة، فالشُّعوب هي القاعدة الَّتي سوف تتحمل مع نظامها الرَّسمي كُلَّ التَّبعات وهي مستعدَّة للاصطفاف بقوَّة لمواجهة أيِّ تغوُّل أو قرصنة أو ابتزاز أو مساس بالسِّيادة العربيَّة. فهذه الشُّعوب الَّتي من بَيْنِ صفوفها خرج المناضلون الأبطال، ومن بَيْنِها كان أولئك الرِّجال الَّذين يدافعون عن شرَف الأُمَّة على جبهات القتال في أكتوبر عام 1973م، ومن بَيْنِ صفوفها انطلقتِ المقاوَمة العربيَّة. فهذه الشُّعوب ليسَتْ غائبة عن مستشعرات الأحداث والقضايا المصيريَّة والحواسم التَّاريخيَّة، بل هي على استعداد للمشاركة في السَّرَّاء والضَّرَّاء وحين البأس في سبيل استعادة حقوقها. وهنا نؤكِّد أنَّ ما يُراد فرضُه من الخارج لن يتحققَ على الإطلاق.
المقاوَمة الفلسطينيَّة العظيمة هي مَن يملك ناصية الرِّهان في القضيَّة الفلسطينيَّة، ويَجِبُ التَّأكيد هنا على أنَّ ما لم يستطع العدوان تحقيقه خلال (471) يومًا لن يتحققَ في ظلِّ الظُّروف السِّياسيَّة الراهنة إلَّا في الأحلام. فمن قدَّم عريضة كبرى من قوائم النِّضال والشُّهداء والجَرحى لن يتزحزحَ من أرضِه، وكما قال شاعر الأُمَّة العربيَّة إبراهيم الشَّابي:
إذا الشَّعب يومًا أراد الحياة… فلا بدَّ أن يستجيبَ القدر
ولا بدَّ لليل أن ينجلي… ولا بدَّ للقيد أن ينكسر
ومَن لا يعانقه شوق الحياة… تبخَّر في جوها واندثر..إلخ. اليوم على النِّظام الرَّسمي العربي أن يتعاملَ مع الحالة الرَّاهنة بموقفٍ صُلب يُمكِن توظيفه في ملفات أخرى لمجابهة أيِّ محاولة لانتقاص الكرامة أو السِّيادة أو الابتزاز، وذلك بالأوراق المتوافرة على السَّاحة العربيَّة، والتَّأكيد على عدم قَبول أيِّ مطالِب تُهدِّد الأمن القومي العربي من قِبل القوى الخارجيَّة. علمًا أنَّ تلك القوى تحرص على مصالحها في هذه البقعة الجغرافيَّة العربيَّة المهمَّة من العالَم، واليوم يَجِبُ التَّأكيد على أنَّ الأُمَّة العربيَّة لن تأخذَ الدنيَّة في سبيل حقوقها، ولها في التَّاريخ عِبَر ومواقف عظيمة وتضحيات كبرى حاسمة، وهي مستعدَّة لتقديمِ تضحيات أكبر إذا تطلب الأمْر في كُلِّ زمان ومكان، لذا يَجِبُ استثمار هذه اللَّحظة التَّاريخيَّة السَّانحة للانعتاق من واقع الضَّعف والخذلان إلى واقع العزَّة والكرامة والتمترس بالإرادة الشَّعبيَّة. فلا أعْلَم لماذا يفقد النِّظام العربي كُلَّ هذه الأوراق القويَّة، ويسلِّمَ نَفْسه لُقْمةً سائغة للقوى الدّوليَّة؟! فما يخشاه الأعداء هو تلاحم الموقف الرَّسمي والشَّعبي والمقاوَمة العربيَّة وأوراق القوَّة العربيَّة، وفي مقدِّمتها استنهاض هذه الأُمَّة العظيمة.
خميس بن عبيد القطيطي