مرّة أخرى تؤكد «إسرائيل» سياساتها ونياتها العدوانية التوسعيّة التي لم تتخلّ عنها يوماً حيال لبنان ودول في المنطقة، منذ إنشاء كيانها الغاصب وحتى اليوم.
لم يكن مفاجئاً قرار الانسحاب المبتور للجيش «الإسرائيلي»، وإخلاله باتفاق وقف إطلاق النار الذي أقرّ يوم 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 لمدة 60 يوماً، والذي قضى بانتشار وتسلّم الجيش اللبنانيّ مهامه الأمنيّة في الجنوب، وانسحاب جيش الاحتلال «الإسرائيلي» من كامل الأراضي اللبنانيّة المحتلة، وصولاً إلى الخط الأزرق.
خلال هذه الفترة قام المسؤولون اللبنانيّون بحراك دبلوماسي وتواصل مع الجهات الدولية والإقليمية الفاعلة، بغية حمل «إسرائيل» على التقيّد بالاتفاق وتطبيقه نصاً وروحاً، إلا أنّ تل أبيب كعادتها خرقت الاتفاق، ومدّدت فترة وقف إطلاق النار لغاية يوم 18 شباط/ فبراير، تمديد حصل بغطاء ودعم ومباركة من الولايات المتحدة ورئيسها له.
بعد أن تحمّل لبنان على مضض التمديد غير المبرّر،
حيث كان مكرهاً على القبول بالأمر الواقع، انتهكت «إسرائيل» مرة أخرى الاتفاق القاضي بانسحاب جيش الاحتلال «الإسرائيلي» بالكامل من الأراضي اللبنانية المحتلة، وأصرّت مسبقاً قبل 18 شباط/ فبراير على الاحتفاظ بخمسة مواقع استراتيجيّة لبنانيّة تقع بمحاذاة الشريط الحدوديّ. قرار نتنياهو الاحتفاظ بالمواقع حظيَ بموافقة وغطاء ودعم سافر من قبل الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب.
لبنان الرسميّ اليوم، أمام اختبار وتحدّ كبيرَيْن، لطالما أنّ جزءاً من أرضه محتلّ، فما الذي سيفعله لجهة استخدام حقّه الذي تقرّه الشرعيّة والقوانين الدوليّة من أجل تحرير أرضه من الاحتلال «الإسرائيلي»؟!
رئيس الجمهوريّة جوزاف عون أكد أنّ لبنان يواصل اتصالاته الدبلوماسيّة مع الولايات المتحدة وفرنسا لاستكمال انسحاب «إسرائيل» مما تبقى من الأراضي التي تحتلها في حربها الأخيرة. وصرّح للصحافيين «أنّ القرار اللبنانيّ موحّد في اعتماد الخيار الدبلوماسيّ، لأن لا أحد يريد الحرب بل الدولة!».
يبدو واضحاً للمراقب، أنّ الخيار الوحيد الذي اعتمدته الدولة اللبنانيّة في تعاطيها مع الاحتلال «الإسرائيلي» ومواجهته، هو الخيار الدبلوماسي والسياسي الأوحد، الذي من خلاله يعتزم مسؤولو الدولة اللبنانيّة بذل الجهود الحثيثة مع القوى والجهات الدولية النافذة والمؤثرة، على «إسرائيل» اعتقاداً منهم، أنّ الجهود الدبلوماسيّة ستسفر على حمل العدو على الانسحاب من ما تبقى من الأراضي اللبنانية المحتلة، وبالذات من المواقع الخمسة.
يرى المسؤولون اللبنانيّون في حراكهم الدبلوماسيّ على أنّه الخيار الوحيد الذي قد يؤدّي إلى تحرير الأرض من الاحتلال، فيما السلوك «الإسرائيلي» اعتاد على أن يضرب عرض الحائط كلّ الاتفاقات، والقوانين والمواثيق الدولية، والقرارات الأمميّة ذات الصلة، غير مبالٍ بالمجتمع الدوليّ ولا بحقوق الدول، والقرارات الصادرة عن مجلس الأمن.
هنا لا بدّ لنا من طرح السؤال بصوت عالٍ: ماذا سيكون موقف الدولة اللبنانيّة بكلّ مكوّناتها السياسيّة والحزبيّة، وما الذي ستقوم به من خطوات وإجراءات وردود في المستقبل، في حال وجدت أنّ كلّ الوسائل الدبلوماسية والسياسية مع الدول المؤثرة والفاعلة على الساحة الدولية والإقليمية لم تفلح ولم تؤدّ إلى نتيجة إيجابيّة تحمل الجيش «الإسرائيلي» على الانسحاب من المواقع اللبنانيّة المحتلة؟! كيف يمكن عندئذ للبنان الدولة تحرير أرضه إذا فشل الخيار الدبلوماسيّ وهذا متوقّع ومحتمل جداً! ما هي الوسيلة الأخرى التي يمكن للبنان اللجوء إليها إذا استمرت «إسرائيل» في احتلالها؟! أهو القبول بالأمر الواقع لعدوان «إسرائيل» واحتلالها المتواصل لمواقع لبنانية، لا سيما أنّ للبنان تجربة مريرة مع الاحتلال «الإسرائيلي» الذي جثم على صدر اللبنانيين لمدة 22 عاماً، بعد أن رفض العدو «الإسرائيلي» الالتزام بقرار مجلس الأمن 425، الصادر عام 1978، وتنفيذه على الأرض، إلى ان أجبر مكرهاً على الانسحاب عام 2000، نتيجة مقاومة شعبيّة بطوليّة ضدّ المحتلين!
كيف يمكن اليوم حمل «إسرائيل» على الانسحاب وهناك دولة عظمى منحازة كلياً إلى جانب كيان الاحتلال، تدعمه وتغضّ النظر عن كلّ ما يقوم به من اعتداءات وخروقات يوميّة ضدّ السيادة اللبنانية؟! ليقل لنا المنظّرون والمزايدون الذين لم ينفكوا عن الحديث عن السيادة والتنظير على مدى عقود، ما هي الوسائل التي يجب على لبنان أن يتّبعها لتحرير أرضه إذا فشلت الجهود السياسية والدبلوماسية لتحريرها؟!
إنّ الدولة اللبنانيّة وقادتها وشعبها أمام امتحان عسير، وهي معنيّة بالوضع الخطير المعرّض للانفجار في أيّ وقت، خاصة أنّ خطاب رئيس الجمهوريّة جوزاف عون، أكد على وحدة الدولة وحماية أرض لبنان، وحدوده وتحريره من الاحتلال.
بعد ممارسات «إسرائيل» العدوانيّة واستمرارها في احتلالها لأراضٍ لبنانيّة، فما الذي ستفعله الدولة، إذا طوّقت «إسرائيل» دبلوماسيّة الدولة اللبنانيّة، وأفشلتها في تحقيق هدفها، ورفضت الانسحاب الكامل من لبنان؟ وما هو الخيار الحاسم الذي ستلجأ إليه الدولة اللبنانيّة مستقبلاً؟! هل ستكتفي بالخيار الدبلوماسيّ دون بديل له، إلى أجل غير مسمّى، وتقبّل بالأمر الواقع للاحتلال، فيما العدو يعزّز من وجوده على الأرض يوماً بعد يوم، أم أنها ستُعيد قراءتها وتقييمها للمشهد من جديد، ولجهودها الدبلوماسية التي تتبعها، بحثاً عن حلّ مثمر. لكن ما هو خيار الحلّ الكفيل بإكراه «إسرائيل» وإجبارها على الانسحاب من لبنان؟!
للأسف الشديد، ليس أمام دبلوماسية الدولة اللبنانية سوى الطريق والممرّ الضيق الأميركي الذي ستسير عليه! فهل كانت الولايات المتحدة مع لبنان ولو لمرة واحدة، شفافة، ونزيهة، وحكماً عادلاً لتقف الى جانب الحق والعدل، وهي التي لم تدّخر جهداً أو وسيلة، أو دعماً، أو انحيازاً، أو تأييداً مطلقاً إلا وقدّمته لـ «إسرائيل» على حساب الآخرين!
من الأوْلى عند الولايات المتحدة ومصالحها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية؟! أهي الدولة اللبنانية ودبلوماسيتها، وتحرير الأرض من الاحتلال، أم دولة الاحتلال الإسرائيلية؟! لو شاءت الولايات المتحدة ان تنسحب «إسرائيل» الى الخط الأزرق، لفعلت ذلك عند انتهاء الستين يوماً لوقف إطلاق النار. لكن الداعم والراعي، والحامي، والمدافع، والضامن، والمنحاز الى «إسرائيل» دون حدود، أطلق يدها لتعربد وتفعل ما تشاء، وتعتدي وتحتلّ متى تشاء.
هنا تكمن مشكلة الدبلوماسية اللبنانية مع الولايات المتحدة لجهة الضغط على «إسرائيل» للانسحاب من المواقع المحتلة، طالما أنّ الدولة العظمى ترعى وتدعم كيان الاحتلال، فيما الولايات المتحدة و»إسرائيل» وجهان لعملة واحدة!
في زمن يتحكم بالعالم وشعوبه قرصان هائج مستبدّ، يقرّر مصيره، ومصير دول وقادة وحكام، وشعوب، لا تنتظروا منه خيراً. هو المقامر المستعدّ ليغامر بدول، ويقسمها، ويفتتها، ويسحق شعوبها، حفاظاً على مصالحه ومصالح بلده التي تبقى فوق كلّ اعتبار.
رئيس متهوّر إذا ما تعارضت مصالحه مع القيم الإنسانية، والمبادئ والأخلاق التي رفعتها الثورة الأميركية، سرعان ما تسقط هذه المبادئ والقيم، لتحلّ مكانها نزعة الاستعمار، والاستغلال، والاستبداد، والهيمنة.
لا تراهنوا بدبلوماسيتكم على الأميركي ليساعدكم على تحرير أرضكم من «الإسرائيلي»، إذ لا يمكن لداعم الاحتلال وراعيه أن يضحّي به لأجلكم.
ما دامت ثقة الدولة اللبنانية بالوصي الأميركي كبيرة، لم يبق لنا سوى الانتظار عما سيؤول إليه الخيار الدبلوماسي الوحيد ونتائجه المرتقبة!
وإنا معه لمرتقبون…
د. عدنان منصور / وزير الخارجية والمغتربين الأسبق