يأتي احتفال وزارة التربية والتعليم بيوم المعلم العماني في الرابع والعشرين من فبراير أحد المحطات المهمة في مسيرة التعليم، والتي جسّدها التوجيه السامي لجلالة السلطان المعظم بمنح المعلمين في هذا اليوم إجازة رسمية تشمل: الهيئات التعليمية والإدارية والوظائف المساندة لها وطلبة المدارس في سلطنة عمان، استشعارا لدور المعلم وأهميته في بناء نظام تعليمي عالي الجودة وقادر على تحقيق مستهدفات رؤية عمان 2040 ، وإدراك وطني بأهمية إعادة انتاج وقراءة دور المعلمين في عالم متغير وظروف كونية متسارعة باتت تؤسس للحاجة إلى مزيد من الوعي الجمعي في مواجهة التحديات الفكرية المرتبطة بالهوية والقيم والسمت؛ والمشوهات التي باتت تؤسس لصورة أخرى في حياة المجتمع، ولما يمثله المعلمون في ظل امتلاكهم لمبدأ القدوة والمهنية والسلامة الفكرية والحس الوطني في الانتقال بالمحتوى التعليمي من التنظير إلى الواقع لرسم ملامح نوعية مشرقة في حياة المجتمع ومنظوماته المختلفة.
إنّ إخلاص المعلمين والتزامهم نهج القدوة والعطاء هو السياج الذي يحفظ المجتمع من الانحراف وسلوك المنعطفات، وهم مساحة الأمان الذين يجب أن ينطلق منهم مبدأ التغيير وإعادة انتاج الواقع وتصحيح الممارسة وبناء القدرة وصناعة النماذج والقدوات ، وهم الأكثر قدرة إن تحقق لهم التدريب الجيد والحافز النوعي وبيئة العمل الجاذبة والتشريعات الحافظة للحقوق والمعززة للمبادرة والابتكار على تحقيق التحول الشامل وبناء مجتمع عمان القوة، والانطلاقة بالتعليم، مدخل للإصلاح وطريق لحوكمة الممارسة وتجسيد مناهج وأطر عملية واضحة تضمن الوصول إلى الأهداف الوطنية وتحقيق الغايات المرجوة في فكر الأبناء وعقيدتهم الوطنية والصورة التي يمنحونها لأنفسهم وعالمهم وواقعهم في ظل ما يعيشه من ترهلات وتخبطات وتباينات ، ليجدوا في مسارات التعليم والتعلم الاحتواء النفسي والارتواء الفكري والثقافة الاصيلة والنموذج العامل المخلص من أجل عمان.
وبالتالي ينبغي أن تكون هذه المعطيات حاضرة في الاحتفال بيوم المعلم، ويصبح استحضار هذا اليوم محطة تحول كبرى في العمل من أجل بناء معلم ناجح ونظام تعليمي منتج ومنافس ، تستنطق فيه القيم وتُستنهض فيه الهمم ويُقرأ فيه السلوك الاجتماعي والاقتصادي في إطار بناء القوة الوطنية التي تعظم من شأن الرأسمال البشر ي المواطن، وتحافظ على الكفاءة الوطنية وتثمن نهوض الابتكار والابداع في حياة المعلمين المهنية، الأمر الذي ينعكس على بقية الوظائف الأخرى، وفي تقديرنا الشخصي فإن الاهتمام بالمعلم القدوة والنموذج وصاحب الخلق والمحتوى، ومنحه المكانة المرموقة والموقع الصحيح وإعادة تصحيح الممارسة أو الأفكار أو القناعات الموجهة للمعلم والصورة القاتمة التي باتت تسقط عليه من قبل المؤسسات المعنية برعايته أو غيرها ، الطريق للإصلاح في الوظائف الأخرى وتحقيق الإنتاجية في منظومة الجهاز الإداري للدولة، ولعل ما يحصل اليوم من تراجع في هذا الطموح أحد الأسباب التي باتت تضع علامة استفهام كبرى على الأداء المؤسسي والجهد الحكومي عامة والتعليمي خاصة؛ وفي الوقت نفسه أن تخرج مسألة الاحتفال بيوم المعلم من التقليد والروتين المتكرر إلى وجوب استحضار مكانة المعلم في المنظومات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والإدارية والتشريعية ، وأن يكون الاحتفال بيوم المعلم العماني فرصة لتعزيز الحوار الاجتماعي التعليمي، وإبراز الانجاز النوعي للمعلم العماني والوقوف عند محطات التطوير والتجديد الحاصلة في منظومة العمل التربوي، وإعادة تصحيح الممارسات ومراجعة القرارات التي باتت تشكل عائقا في أداء المعلمين وانجازاتهم وإبراز استحقاقاتهم، أو تحاول أن تقلل من اثر هذا الإنجاز عبر تقييمات لا تعبر عن خصوصية مهنة التعليم والظروف التي يعمل فيها المعلم؛ ما يؤكد على أهمية تعظيم قدر المعلم في منظومة العمل الوطني وفق تشريعات واضحة ومبادئ راقية وشعور صادق يمتلك الجميع ، ويضعهم أمام مسؤوليتهم نحو التعليم عامة والمعلم خاصة، بتأكيد دور المعلم المخلص في بناء فرص أكبر للتميز والإجادة، ونقل الممارسة التعليمية إلى مستويات الكفاءة والفاعلية والمهنية، ويصبح الحديث عن إنجازات المعلم العماني وما قدمه في مختلف مراحل مسيرة التعليم أنموذج ريادي نوعي مبتكر ، قائم على الابتكارية وبذل الجهد والاستمرار في الانجاز والعطاء وتوظيف الخبرات والتجارب من أجل أبناء عمان المستقبل.
لذلك فإن البحث في المعلم كمنطلق للتطوير ومدخل لبناء استراتيجيات الاداء التعليمي يرجع للقناعة بما يمتلكه المعلم المخلص الكفء من مفاتيح الأمل ، في نهضة التعليم وانطلاقته وقدرته على تجاوز التحديات، والتعامل مع الظروف والأحوال في ظل حكمة مبدأ ودقة هدف ومنهج تفكير ومنطلق نوعي للتغيير، وهو في ظل قناعاته ومستوى تدريبه وتأهيله واستعداداته والطاقة الكامنة لديه قادر على إدارة خطط التطوير وتوجيه منطلقاتها لخدمة الأداء التعليمي، لذلك لم يعد قراءة دوره في إطار وزارة التربية والتعليم ؛ بل في كونه قضية وطنية، والتعامل معه ينبغي أن يتجاوز حدود المؤسسة، فهو محتاج لتكاتف الجميع وتشاركهم المسؤولية وتقديمهم العون لمساندته ومؤازرته في القيام بمسؤولياته في ظل معايير الجودة والابتكار والاستدامة والتنويع الاقتصادي، فإن قدرة المعلم على إدارة الواقع التعليمي والواقع الفكري الذي يعيشه الطلبة يتطلب استشعار الجميع لهذا الدور ووقوفهم مع المعلم في التوجيه والنصح والأخذ بيد الأبناء وصناعة القدوات في المدارس، وعندما يشعر الجميع بمسؤوليته نحو المعلم، فإن المعلم يستطيع أن يمارس دوره بكل جداره، فالبحث في إطار وطنية التعليم يستدعي تعزيز منحى الشراكة والحوار ونشر التوجهات الإيجابية التي تنقل المعلم إلى مرحلة العمق في قراءة سلوك الطلبة وتوفير بيئة تربوية عملية مناسبة تعزز من قدرته على إدارة التغيير الذاتي. فإن ما تسطرّه كل يوم إنجازات المدارس والمعلمين عبر منصات التواصل الاجتماعي وغيرها، يرصد لنا واقعا نوعيا يرسمه المعلم العماني القدوة والنموذج في إخلاصه ومثابرته واجتهاده وعطائه ويؤكد مستوى الرقي الفكري الذي يتسم به في قراءة طبيعة الدور ، وما على أولياء الأمور والطلبة والمجتمع ومؤسسات الاعلام وصنّاع الكلمة والمثقفين وغيرهم، إلا الوقوف مع هذه النوعية من المعلمين الأكفاء، بفتح صفحات الحوار والتواصل معهم، وتعزيز مهنيتهم في التعاطي مع قضايا التعليم، وقراءة الصورة الإيجابية التي تفتح للمعلم آفاق الحياة المتجددة.
أخيرا يبقى الاحتفال بيوم المعلم العماني استحقاق وطني للمعلم، يجب أن يجد المعلم خلاله مساحة اكبر للاحتواء والدعم والمساندة والأخذ بيده والانتقال به إلى صنع السياسات التعليمية والبرامج الوطنية المعززة للهوية والمواطنة والسمت العماني وصناعة المستقبل، وهو أمر يستدعي تعظيم مسار الاستدامة في قراءة هذا الاهتمام حتى لا يكون الاحتفال بيوم المعلم ظاهرة صوتية وقتية تنتهي بتسليم المعلم شهادات التقدير والمشاركة التي امتلأت بها الأرف؛ بل فرصة وطنية لأن تستدرك المؤسسات جميعها مسؤوليتها نحو المعلم لتقدم له فرص نوعية مستحقة، تعبر عن رد الجميل والاعتبار لإنجازاته المخلصة وممارساته النوعية ، وهو يدير نمط تعليمه بكل جدارة ومهنية، ويجد في التزامه التعليمي وقدوته المجتمعية إطار عمل يتيح للأجيال تدارك فرص أكبر لنجاح تعلمهم واستغلال أوقاتهم وبناء مناخات أكبر للابتكارية والتنوع ، محطة يقف الجميع خلالها على المنجز التعليمي بكل تجلياته ونجاحاته وفرصه وعطائه وتحدياته، فرصة للوقوف مع المعلم والأخذ بيده نحو إنجاز مستمر وعطاء ممتد ، كونه يحمل رسالة العلم، رسالة الحياة الراقية القادرة على تغيير الذات وبناء قناعات إيجابية في التعامل مع متطلبات الحياة. إن الاحتفال بيوم المعلم العماني محطة عطاء خالدة، تنظر فيها لمرئيات المعلمين ومقترحاتهم ومبادراتهم نظرة اهتمام ومتابعة وتقدير، لتستمر مسيرة العلم شاقة بكل ثقة طريق التميز بإذن ربها، فلكل المعلمين المخلصين، القدوات والنماذج في مجتمعهم وأخلاقهم وسيرتهم المحمودة بين الناس، التقدير والتحية والعرفان، وكل عام والجميع بخير.
د. رجب بن علي العويسي