تطرقت في مقال الأمس للحديث عن العدالة من خلال تعريفات مبسطة قانونياً وفلسفياً، لكن الأمر يحتاج إلى التعمق قليلاً لما لهذه الكملة من الأثر الكبير والثقيل في ميزان الحياة، ولعل سيد قطب كان من أبرز وأجمل من خصص لها الوقت والبحث وكتب عنها لناحيتها الشمولية لا المادية.
لذا إرتأيت أن أشير إلى العدالة من وجهة نظر المفكر الإسلامي سيد قطب، من خلال كتابه الرائع “العدالة الإجتماعية في الإسلام”، الذي كشف العدالة من وجهة نظر الإسلام الكاملة، سواء علاقة الدين بالدنيا، وأسس العدالة الإجتماعية في الإسلام، وجوانب العدالة وغير ذلك.
يقيم الإسلام العدالة الاجتماعية على أسس ثابتة. هذه الأسس هي: التحرر الوجداني المطلق، والمساواة الإنسانية الكاملة، والتكامل الاجتماعي الوثيق، يقول سيد قطب: “العدالة الاجتماعية لن تتحقق كاملة، ما لم تستند إلى شعور نفسي داخلي باستحقاق الفرد، وبحاجة الجماعة إلى هذه العدالة، وأنها تؤدي إلى طاعة الله وإلى واقع إنساني أفضل، وما لم تستند كذلك إلى واقع مادي يهيئ للفرد أن يتمسك بها، ويتحمل تكاليفها، ويدافع عنها. ولقد بدأ الإسلام بتحرير البشر من عبادة أحد غير الله، ومن الخضوع لأحد غير الله فما من أحد يميته أو يحييه إلا الله؛ فالله وحده هو الذي يستطيع، والكل سواه عبيد، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئاً. ويحرص الإسلام على هذا المعنى حرصاً شديداً”.
لقد أتى الإسلام مفنداً لكل ما يحتاجه الإنسان لتنظيم حياته، ولعل فكرة العدالة كانت هي من أساسيات الدين الإسلامي، والمساواة بين الجميع، ليس فقط من الناحية المادية، بل أيضاً بما يتعلق بعدالة الحياة والنظرة الشمولية التي عبر عنها سيد قطب، كالتكافل والتحرر ووحدة الصف وغير ذلك، فالإسلام كان واضحاً في إرساء مفهوم العدالة، بينما الإنسان الذي بدأ يجيّر ويغيّر طبقاً لأهوائه ومصالحه الشخصية، إبتعد عن التعاليم الحقة لمفهوم العدالة بحسب القرآن الكريم والشريعة الإسلامية، قال تعالى في محكم كتابه العزيز: “وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون”.
وتطرق سيد قطب إلى المساواة الإنسانية، حيث جاء الإسلام ليقرر وحدة الجنس البشري في المنشأ والمصير، وفي المحيا والممات، وفي الحقوق والواجبات أمام الله وأمام القانون، في الدنيا والآخرة، لا ميزان في ذلك إلا للعمل الصالح، ولا كرامة إلا للأتقى، ويؤكد القرآن الكريم على هذا المعنى في مواضع كثيرة؛ فيقول تعالى: “ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين”، فلا عجب أن يكون القرآن الكريم الدستور الأول والمرجع الأول والملهم الأول للعدالة الإجتماعية بين كل أطياف الأمة الإسلامية.
أما مسألة التكافل الإجتماعي التي أقرها الإسلام بكل أشكاله وأنواعه، بدءاً من الفرد وذاته وبين الفرد وأسرته ومحيطه، قال تعالى: “وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله”، والإسلام يبلغ في هذا التكافل حد التوحيد بين المصلحتين؛ فالأمة الإسلامية كلها جسد واحد، وما يصيب عضواً منه تتأثر به سائر الأعضاء، وعلى تلك الأسس الثلاثة تقوم العدالة الاجتماعية، وتتحقق العدالة الإنسانية.
لقي كتاب “العدالة الاجتماعية في الإسلام” قبولاً عاماً لدى المثقفين المسلمين في العالم العربي والإسلامي، وسيد قطب رحمه الله لم يسعه إلا أن يعترف بأن الإسلام ظل راسخ البناء مرفوع اللواء منفرداً بالفتوى والقضاء والتشريع للأمة الإسلامية في كل شؤونها اثني عشر قرناً من الزمان وبهذا أنصف الإسلام وأنصف التاريخ وأنصف نفسه كذلك. ويحتم الواجب علينا أن ننظر إلى تاريخنا نظرة منصفة بحيث لا نقدسه ولا نظلمه، بل ننصفه ونحكم له أو عليه بالعدل كما قال تعالى: “وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى”.
عبد العزيز بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.