لأن أي تحول جوهري في بنية المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة، وبالتالي في توجهاتها، تنعكس ظلاله بالضرورة على مصفوفة العلاقات الدولية، وبالتالي على مسار السياسة الدولية ومآلاتها، فإن الحملة التي تشنها إدارة ترامب على الدولة العميقة حالياً، ومن أجل إعادة برمجة توجهات السياسات الأمريكية، داخلياً وخارجياً، لا بد أن تحظى بتقييمٍ جادٍ لا من طرف القوى العظمى فحسب، بل من طرف شعوب الجنوب العالمي، لا سيما العرب والمسلمين.
كان مذهلاً، حتى بمقاييس تلفزيون الواقع، مقطع “الفيديو كليب” الذي قدمه ترامب ونائبه، جي دي فانس، على الملأ، لدى استقبالهما حبيب الغرب المدلل فولوديمير زيلينسكي، الرئيس الأوكراني، في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، بما مثله من انقلاب في الموقف من المسألة الأوكرانية أمريكياً، وطريقة التعبير عن ذلك الانقلاب بصورة مهينة لزيلينسكي أمام عدسات الشاشات إذ رفض وقف إطلاق النار مع روسيا، وهي طريقة يفترض أن ترسل قشعريرة في أبدان كل الأدوات الأمريكية في العالم ممن يرفضون تحويل الاتجاه مع ترامب.
للأمانة، كان ترامب هو الذي شعر بالإهانة أولاً عندما استقبله على الباب ورأه يرتدي ثياباً غير رسمية، casual، فعلق: أتيت بكامل قيافتك اليوم (All dressed up)، والتي تعني “مطقّم” في عاميتنا، أي تلبس طقماً، وليس “لابساً”، كما ترجمها الإعلام فورياً. ولم يحفل زيلينسكي بتعليق ترامب على ذلك أو لم يفهمه.
ويبدو أن ترامب عد ذلك تقليلاً من شأنه أمام الجمهور، وهذا لم يكن يستطيع أن يمرره بمقاييس “تلفزيون الواقع”، إذ إن زيلينسكي لم يكن يرتدي زياً رسمياً أو تقليدياً من بلده وهو يزور البيت الأبيض، ولم يكترث بإشارة ترامب إلى ذلك.
وهو، فضلاً عن ذلك، ربيب الدولة العميقة ورمز النهج الليبرالي المعولم في صراعه مع روسيا، كما أن إصراره على تصعيد الحرب بدعمٍ أمريكي أصبح نقطة تناقض كبيرة بين تيار ترامب وإدارة بايدن السابقة، كما سنرى.
لذلك، كان لا بد من تقزيم زيلينسكي على الملأ، لتصفية حساب مع نهج يخوض ترامب حرباً ضده في الداخل الأمريكي، والموضوع لا يتعلق بأوكرانيا فحسب.
وبعيداً عن إدارة الشؤون السياسية بطريقة “تلفزيون الواقع”، والتي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من إرث ترامب وعلامته المميزة منذ دخل حقل السياسة عبر برنامج “المتدرب” التلفزيوني، كان مذهلاً، على وجه الخصوص، انقضاض إدارة ترامب على مؤسسات مثل “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” USAid، و”الوقف الوطني للديموقراطية” NED، وهي مؤسسات لطالما استُخدمت أمريكياً كأدوات من أجل “تغيير الأنظمة”، وتفعيل الحراكات الملونة، وتغذية الحركات الملوثة.
فما الذي يجري هنا؟ ولماذا تمضي الإدارة الأمريكية الجديدة في تحطيم من يفترض أنهم حلفاء مثل زيلينسكي، أو بعض أهم روافع قوتها الناعمة عالمياً مثل الـ USAid؟ وهل يتعلق الأمر بحملة لتقليص عجز الموازنة، وتقليص المساعدات الخارجية، والتوقف عن تبديد أموال دافعي الضرائب على غير الأمريكيين، كما تقول إدارة ترامب، أم أن هناك ما هو أبعد سياسياً وأيديولوجياً؟
وعلى افتراض أن ثمة ما هو أبعد، هل يعقل أن تكون الإدارة الجديدة في واشنطن غافلةً عن دور المساعدات الخارجية، على غرار “مشروع مارشال” لإعادة إعمار أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، في تشكيل العالم أمريكياً؟
تعد الولايات المتحدة أكبر مانح للمساعدات الخارجية عالمياً، وبحسب آخر إحصاءات منشورة في المصادر الرسمية الأمريكية، فإن الإدارة الأمريكية قدمت نحو 72 مليار دولار كمساعدات خارجية في السنة المالية 2023، و74 ملياراً في السنة المالية 2022، ما عدا مساعدات المعدات العسكرية إلى البلدان الأجنبية. وتأرجحت المساعدات الخارجية بين عامي 2008 و2023، بعد أخذ التضخم بالحسبان، ما بين 53 و77.3 مليار دولار سنوياً.
أما نقمة تيار ترامب على أوكرانيا، فمرجعه أنها أكبر متلقِ للمساعدات الخارجية الأمريكية منذ اندلاع الحرب، أو أكثر من 43 مليار دولار بين عامي 2021 و2024، بحسب الإحصاءات الرسمية الأمريكية. وهو رقم بعيد جداً عن الـ 300 أو الـ 350 مليار دولار التي يصر ترامب أن الولايات المتحدة أنفقتها على أوكرانيا. كما أنه رقمٌ بعيدٌ عن الـ 174 مليار دولار التي رصدها الكونغرس لأوكرانيا بين عامي 2022 و2024، والتي أُنفِق منها فعلياً 83 ملياراً فحسب.
لكنّ مكتب المراقب العام لـ”عملية عزم الأطلسي” Operation Atlantic Resolve، التي يديرها حلف “الناتو” تحت قيادة الولايات المتحدة لتعزيز الجبهة الشرقية لأوروبا منذ أزمة شبه جزيرة القرم سنة 2014، يقول في موقعه الرسمي، والذي يحمل شارة “موقع رسمي لحكومة الولايات المتحدة”، إن الكونغرس رصد (ولم ينفق بالكامل) 183 مليار دولار لأوكرانيا منذ شباط / فبراير 2022، موعد انطلاق العملية الروسية الخاصة، إضافةً إلى 20 مليار دولار من القروض.
وهناك مثلاً 1.6 مليار وضعتها الإدارة الأمريكية ككفالة لدى البنك الدولي كي يقدم أكثر من 5 مليارات دولار من القروض لأوكرانيا ومولدوفا في سياق دعم أوكرانيا، بحسب الموقع ذاته.
يعود الفرق إذاً بين ما يصنف رسمياً كمساعدات خارجية أمريكية، وما تتلقاه أوكرانيا (أو الكيان الصهيوني) كمساعدات فعلياً، إلى أن بعضها يذهب كمعدات عسكرية ولا يسجل، أو إلى بلدان أخرى لدعم أوكرانيا، أو إلى وكالات حكومية أو شركات خاصة أمريكية منخرطة بصورة أو بأخرى في أوكرانيا من خارج موازنة المساعدات.
الرقم أكبر بكثير من 43 مليار دولار خلال 3 سنوات إذاً، وأقل من الـ 350 التي يتحدث عنها ترامب، لكن الأمر يتعلق بمئات مليارات الدولارات في المحصلة. وفي ظل أزمة موازنة متفاقمة بلغ عجزها 1.83 ترليون دولار سنة 2024، ومع دين عام بلغ 36.22 ترليون دولار في 5/2/2025، فإن حرب أوكرانيا تصبح جرحاً مفتوحاً، وخصوصاً مع عجز كلا الطرفين عن حسم الحرب نهائياً لمصلحته بعد 3 سنوات، الأمر الذي يعني نزيفاً مالياً واقتصادياً لا ينتهي. فلتتحمل أوروبا التي يحكمها الليبراليون إذاً مزيداً من عبء الحرب، أو فلتتوقف.
وإن هذا البعد المالي والاقتصادي يفسر جزءاً كبيراً من موقف ترامب إزاء أوكرانيا، ويفسر إصراره على صفقة معادن نادرة مع أوكرانيا تعوض الولايات المتحدة عن بعض ما أنفقته، سواء استخدمتها في صناعاتها لمنافسة الصين وأوروبا ذاتها، أو باعتها في الأسواق العالمية بطريقة تعود عليها بالربح وتعزز موقفها في المنافسة الدولية.
وإذا كان زيلينسكي قد خرج مطروداً من البيت الأبيض من دون أن يوقع اتفاقية المعادن النادرة مع ترامب، فإن ذلك يعني أن هناك من سيحل محله في قصر مارينسكي في كييف قريباً، وأن “عمره السياسي” أوشك على الانتهاء، فمن تضعه الإدارة الأمريكية في منصبه تطيحه.
أما النقمة على “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” USAid، فمصدرها أن موازنتها البالغة أكثر من 40 مليار دولار سنوياً، نحو 44 مليار للسنة المالية 2023، تجعلها أكبر قناة لتوزيع المساعدات الخارجية الأمريكية، تليها تاريخياً وزارة الحرب، ثم وزارة الخارجية، ثم وزارة المالية.
لذلك، يجري تصوير وكالة الـ USAid من طرف تيار “أمريكا أولاً” بأنها أكبر شق لتسرب أموال دافعي الضرائب إلى جيوب غير الأمريكيين. لذلك، يجري التنكيل بها، والاستغناء عن خدمات معظم موظفيها، نحو 13 ألف موظف، وتقليص 90% من موازنتها، وتحجيم صلاحياتها، تمهيداً لضمها إلى وزارة الخارجية بعد أن كانت هيئة مستقلة.
يحب التيار الليبرالي المعولم في الولايات المتحدة وأوروبا الإشارة، في المقابل، إلى أن المساعدات الخارجية الأمريكية، على الرغم من كونها الأعلى عالمياً، تحوم في السنوات الأخيرة حول 0.33%، أي ثلث واحد بالمئة فحسب، من الناتج المحلي الإجمالي الذي بلغ نحو 28 ترليون دولار سنة 2023، و29 ترليوناً ونيف سنة 2024، وهو الناتج الأعلى عالمياً بالأسعار الجارية (وليس بمقياس معادل القوة الشرائية).
على الرغم من ذلك، فإن نسبة المساعدات الخارجية الأمريكية إلى الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي هي من أقل النسب عالمياً إذ بلغت أقل من ربع واحد بالمئة سنة 2023. كما أن نسبة المساعدات الخارجية الأمريكية من الموازنة الحكومية بلغت سنوياً، منذ سنة 2001، ما بين 0.7 و1.7%، وهي نسبة متواضعة جداً، ولا يمكن تحميلها مسؤولية عجز الموازنة، بحسب التيار المناهض لترامب.
وهي نسبٌ ربما تعبر عما يصنف رسمياً مساعداتٍ خارجيةً، لكنها لا تعبر عن الواقع بدقة عندما يتعلق الأمر بحالات بعينها مثل أوكرانيا، كما رأينا، ومثل الكيان الصهيوني. ولنلاحظ أن إدارة ترامب، عشية طرد زيلينسكي من البيت الأبيض، حرصت على الإعلان عن مبيعات أسلحة كبيرة، بشروط ميسرة، للكيان الصهيوني، بقيمة 3 مليارات، منها ذخائر وجرافات كانت إدارة بايدن قد عرقلتها، لإرسال رسالة للوبي الصهيوني بأن ما يصح على أوكرانيا لا ينطبق على الكيان الصهيوني.
تعد مسألةُ المساعدات الخارجية مسألةً خلافيةً في المجتمع الأمريكي، إذ يشير استطلاع للرأي جرى في كانون الأول / ديسمبر 2024 أن 73% من أنصار الجمهوريين يرون ضرورة تخفيضها، في مقابل 33% من أنصار الحزب الديموقراطي، و53% من المستقلين، والمتوسط العام هو 52% يرون ضرورة تخفيضها.
لا يعني ذلك طبعاً أن من لم يصوتوا مع تخفيضها يريدون زيادتها، إذ إن الخيار الآخر هو بقاؤها كما هي، 41% بالمتوسط العام، و24% بين أنصار الحزب الديموقراطي، و56% لدى أنصار الجمهوريين.
أما من يريدون زيادتها فأقلية صغيرة تبلغ 7% بالمتوسط، و10% بين أنصار الحزب الديموقراطي في أقصى مداها.
هذا يعني من منظور شخصية شعبوية مثل الرئيس ترامب أن الجمهور، ولا سيما جمهوره الحزبي، “عاوز كده”، وأن الانقضاض على المساعدات الخارجية سوف يكسبه أصواتاً لدى الناخب العام، أو الأمريكي العادي، تعزز موقفه السياسي.
كما تزعم وسائل الإعلام المرتبطة بالدولة العميقة أن انقضاض ترامب على المساعدات الخارجية لا عواقب انتخابياً له، لأن متلقيها ليسوا ناخبين أمريكيين، مثل المستفيدين من برامج الضمان الاجتماعي وما شابه، وبالتالي فإنها تمثل خاصرة ضعيفة للإنفاق الحكومي سياسياً، يسهل على تيار ترامب مهاجمة الإنفاق الحكومي من خلالها.
لكن هذا ليس دقيقاً، ففي حالة مساعدات أوكرانيا، كما في حالة “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية”، يتخذ انقضاض ترامب عليهما انقضاضاً على قدرة نخب الدولة العميقة على صنع السياسات بعيداً عن الرقابة داخلياً وإعلامياً، وخصوصاً الترويج لليبرالية الجديدة وقيمها الاجتماعية التي يناهضها التيار المحافظ، الديني وغير الديني، الذي أوصل ترامب إلى سدة الرئاسة في انتصارٍ كاسح.
القصة ليست مالية فحسب إذاً، بل تتعلق بمناهضة البرنامج السياسي والأيديولوجيا الليبرالية الجديدة التي تحكم طريقة إنفاق تلك المساعدات، من قصص المثليين إلى البيئة إلى غيرها، ومن هنا كتب ترامب في الأمر التنفيذي الذي أوقف بموجبه المساعدات الخارجية 90 يوماً أن منظمات المعونة الخارجية الأمريكية “لا تتماشى مع المصالح الأمريكية، وفي كثيرٍ من الحالات تتعارض مع القيم الأمريكية”.
المقصود بذلك طبعاً قيم التيار المحافظ، أما المصالح الأمريكية، فالمقصود بها قدرة نخب الدولة العميقة على صناعة السياسة الخارجية بعيداً عن الرقابة داخلياً، وبصورة مناقضة لتوجهات الإدارة الجديدة.
وليس صحيحاً، بالمناسبة، أن ترامب لم يستهدف البرامج التي يستفيد منها ملايين الناخبين الأمريكيين، إذ إن وسائل الإعلام تداولت مؤخراً تقارير عن استعداد إدارة الضمان الاجتماعي لتسريح 7 آلاف موظف، ضمن برنامج ترامب لتخفيض النفقات الحكومية، ومن المتوقع أن يجري تسريح نصف عدد موظفي الضمان الاجتماعي الذين يبلغ عددهم 60 ألفاً، وهذا سيؤثر بالضرورة على قدرة الضمان على تقديم الخدمات.
ثمة إجراءات لتسريح عشرات آلاف الموظفين من وزارة الدفاع، البنتاغون، بدأت بقرار بشطب ألفي وظيفة جديدة. وقس على ذلك بالنسبة لكثيرٍ من الإدارات الحكومية.
هناك حرب حقيقية تدور في الولايات المتحدة إذاً، وليست إدارة ترامب تكراراً لتعاقب الرؤساء الجمهوريين و”الديموقراطيين” التقليدي في الولايات المتحدة. هناك صراع سياسي حاد على خطوط الأيديولوجيا والثقافة ربما يفجر الولايات المتحدة من الداخل، كما أشرت في أكثر من مادة من قبل، وهذا الصراع هو انعكاس، بحد ذاته، لأزمة بنيوية انتابت الولايات المتحدة اقتصادياً بعد الأزمة المالية الدولية عام 2008، وخارجياً في مقابل القوى الصاعدة، ومشروع ترامب ليس سوى محاولة لانتشال الولايات المتحدة من تلك الأزمة من خلال العودة إلى “الماضي الذهبي”، فهل ينجح؟
إبراهيم علوش – الميادين نت