قَدْ يظنُّ بعض الأشقَّاء العرب أنَّ كلمة الوحدة من أضغاث أحلام الواهمين. وهؤلاء ـ للأسف ـ هم الواهمون حقًّا بفرز وتصنيف دعاة الوحدة القوميَّة وفقًا لغلوِّهم الأيديولوجي. لذا يُستحسن التريُّث قليلًا قَبْل الحُكم لفَهْمِ مقاصد وآليَّات الوحدة المطلوبة اليوم في زمن عصفتْ بالعرب التَّحدِّيات والأزمات، وعمل خصوم الأُمَّة على تكريس الاختلاف والتَّشرذم، وساعد العرب أيضًا في تكريس تلك المعوِّقات، فمتى سيلتقي العرب على كلمة سواء؟!
مرَّتِ الذِّكرى الـ(67) لإعلان قيام الجمهوريَّة العربيَّة المُتَّحدة بَيْنَ إقليمَيْها الشَّمالي والجنوبي، وهي الَّتي سجَّلتْ علامة مضيئة في ذاكرة تاريخ الوطن العربي، وتفاعلَ معها الوجدان العربي ليس بحجمها الفعلي باتِّحاد دَولتَيْنِ عربيَّتَيْنِ، ولكن بمعناها الحقيقي ورمزيَّتها في صون معاني وقِيَم القوميَّة العربيَّة الَّتي اتَّكأتْ على واقع لُغوي ثقافي جغرافي تاريخي واحد جمع أبناء الأُمَّة العربيَّة من المحيط إلى الخليج. هذا الواقع الَّذي تجسَّد في المشاعر العروبيَّة وربط أبناء الوطن العربي في مشاعر واحدة في الأفراح والأحزان، فتجاذبت المشاعر تجاه أيِّ حدَث يضع أبناء الأُمَّة العربيَّة كأفراد وشعوب في حالة ذهنيَّة واحدة أمام تلك الأحداث الَّتي تحدُث في أيِّ قُطر عربي، وكما قال الشَّاعر: (كُلَّما أنَّ جرحٌ في العراق.. ردَّد الشَّرق جرحه في عمانه) هذا البَيْت جسَّد هذه اللُّغة المشتركة الَّتي تُعَبِّر عن واقع الأُمَّة العربيَّة وأحاسيسها أمام أيِّ حدَثٍ عابر بأيِّ بلد عربي، من هنا يبدو المعنى الحقيقي لأهميَّة كلمة الوحدة العربيَّة.
الوحدة العربيَّة الَّتي نتحدَّث عَنْها لا تشترط أن تكُونَ وحدة بمعناها الحرفي المعروف الَّذي يتحقق فيدراليًّا أو كونفدراليًّا، ولكن كلمة الوحدة هنا تعني القِيمة الحقيقيَّة الَّتي تتحقَّق بوحدة الموقف والكلمة، ووحدة العمل العربي المشترك بمختلف جوانبه في إطار الدَّولة الوطنيَّة الَّذي قامتْ وتَقُومُ عَلَيْه الوحدة القوميَّة ولا تنفصل عن عُراه. فالوحدة القوميَّة هنا تحمل مفاهيم وآليَّات عمل مشتركة وهي الوَجْه الحقيقي للوحدة المأمولة وليس بالمفهوم السَّائد (دَولة واحدة) الَّذي لا يتحقَّق في ظلِّ هذا الواقع العربي المأزوم، هنا يتبَيَّن التَّفسير المقصود لعنوانِ المقال أعلاه الوحدة في مواجهة التَّحدِّيات.
التَّفاعل الشَّعبي العربي، الَّذي يتجلَّى مع كُلِّ ذِكرى للوحدة العربيَّة بأيِّ شكلٍ كانتْ، إنَّما ينطلق من أهميَّة وجود وحدة حقيقيَّة تجمع بَيْنَ هذه الأقطار العربيَّة في تجسيد فكرة العمل العربي المشترك والمشروع العربي المُوَحَّد اقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا في مواجهة التَّحدِّيات الَّتي تعصف بالوطن العربي عمومًا. ولا شكَّ أنَّ هذا المشروعَ الَّذي ندعو له يأتي في إطار الدَّولة الوطنيَّة، وهنا فإنَّ أبرزَ نقاط ميثاق جامعة الدوَل العربيَّة نصَّ على التَّنسيق بَيْنَ الدوَل الأعضاء في الشؤون الاقتصاديَّة، ومن ضِمْنها العلاقات التِّجاريَّة والاتِّصالات، والعلاقات الثَّقافيَّة، والعلاقات الاجتماعيَّة وغيرها. وهذه النِّقاط كُلُّها تتمحور حَوْلَ كلمة واحدة جامعة هي الوحدة العربيَّة، لذا نؤكِّد أنَّ الاحتفال بذِكرى الوحدة العربيَّة بَيْنَ مصر وسوريا الَّتي مثَّلتْ حلمًا عربيًّا، وشكَّلتِ اللَّبنة الأساس لمشروع الوحدة العربيَّة، ويحتفل بها أبناء الأُمَّة العربيَّة من المحيط إلى الخليج، إنَّما تُمثِّل حالةً وجدانيَّة ترتبط بحياة الشُّعوب العربيَّة من المحيط إلى الخليج. وعَلَيْه، فإنَّ حلمَ الوحدة اليوم ينبغي أن يكُونَ راسخًا في ذاكرة الأجيال العربيَّة ومُعزَّزًا بثقافة عربيَّة سائدة لا تثبيطًا لها أو استهانةً بها؛ لأنَّ الوحدة هي الملاذ الآمن وحائط الصَّدِّ العربي الصُّلب الَّذي يلجمُ الأخطار والتَّحدِّيات الَّتي تواجِه الأُمَّة العربيَّة، وبالتَّالي فنحنُ هنا كشُعوبٍ عربيَّة اليوم نُنادي بتحقيق هذا الحلم العربي الَّذي يرتكز على بناء المشروع العربي بالحدود الممكنة؛ لإبرازِ حالةِ اصطفاف عربيَّة واحدة وشراكة حقيقيَّة في مختلف المجالات وتقريب المسافات بَيْنَ أبناء هذه الأُمَّة .
إنَّ غيابَ المشروعِ العربي وغيابَ العملِ العربي المشترك يُمثِّل حالةَ عجزٍ رسميَّة، يتحمل النِّظام الرَّسمي العربي تبعاتها، ويثقل كاهل الدَّولة الوطنيَّة بالأزمات، ويحقِّق مصالح القوى الإقليميَّة والدّوليَّة الَّتي تعمل على حساب الأُمَّة العربيَّة، وما وجود الكيان الصهيوني إلَّا حالة من حالات هذا التَّباعد. والأنْكَى من ذلك حالة التَّقارب العربي الشَّاذ مع كيان الاحتلال الَّذي استولَى على الأرض العربيَّة وهجَّر أبناء فلسطين، ومارسَ مختلف أنواع القتل والتَّعذيب والإجرام بحقِّ الشُّعوب العربيَّة، ثم نأتي في لحظةٍ فارقة من الزَّمن المختلِّ والمعتلِّ لِنتجاوزَ تلك المفاهيم والأعراف والقِيَم العربيَّة، ونتجاهل تلك الدِّماء وقوائم الشُّهداء، لا سِيَّما بعد معركة طوفان الأقصى والعدوان الهمجي الصهيوني على قِطاع غزَّة طوال (471) يومًا. فهل نتجاهل تلك الأراضي العربيَّة المحتلة؟! ونتناسى القدس الشَّريف أُولى القِبلتَيْنِ وثالث الحرَمَيْنِ الشَّريفَيْنِ؟! وما يحدُث من هجمة استعماريَّة شرسة تتجلَّى بمختلف الألوان والأصناف العنصريَّة يُمارسها كيان الاحتلال الصهيوني.
اليوم عِندَما نتحدَّث عن الذِّكرى الـ(67) للوحدة بَيْنَ مصر وسوريا فإنَّما نُعيد ونستعيد ذاكرة الوحدة العربيَّة، ونستلهم هذه الذِّكرى ونستأنسُ بها مؤكِّدين أنَّ الوحدة العربيَّة هي الأمَل الَّذي يجمعُ الشَّتات العربي والعنوان الَّذي يُحقِّق المشروع العربي في مواجهة تحدِّيات العصر الرَّاهنة والمستقبليَّة، ولا بُدَّ من تحقيق الوحدة بآليَّاتها وحدودها الممكنة المعقولة من خلال تفعيل العمل العربي المشترك في مختلف مجالاته وتوحيد العرب في وحدة فكريَّة تعتمد على معايير المبادئ العربيَّة الَّتي لا يُمكِن الاختلاف عَلَيْها. وهنا يُمكِن لجامعة الدوَل العربيَّة أن تحققَ وحدة الفكر العربي أوَّلًا بوجود لَجنةٍ من البرلمانيِّين والمفكِّرين العرب المُستقلِّين الَّذين لا يخضعون لأجندة قُطريَّة في ترجمة تطلُّعات الوحدة وصولًا إلى وحدة الموقف العربي.
إنَّ التَّحدِّيات الَّتي تواجِه العرب اليوم يَجِبُ أن تستنفرَ ثقافتنا القوميَّة لمواجهةِ الهيمنة الإقليميَّة والدّوليَّة، وبالتَّالي فإنَّ هذه الأوضاع العربيَّة المتأزِّمة اليوم بأمَسِّ الحاجة إلى التَّرميم، وأوَّل مساراتها معالجة القضايا العربيَّة، فلا بُدَّ من المسارعة بمعالجة تلك القضايا الرَّاهنة، وإصلاح العمل العربي المشترك؛ وإعادة تجسير العلاقات العربيَّة، وتمهيد الطَّريق للسَّير على خُطَى تحقيق المشروع العربي التَّكاملي وتوحيد المواقف العربيَّة. وهنا تبرز أهميَّة دَوْر مصر الشَّقيقة الكبرى للعرب والإقليم الجنوبي للوحدة العربيَّة الَّتي أقامها الرَّئيسان جمال عبدالناصر وشُكري القوتلي وأعَلَنا حينها قيام الجمهوريَّة العربيَّة المُتَّحدة بتاريخ الـ(22) من فبراير 1958م. ولا شكَّ أنَّ أبناء الأُمَّة العربيَّة اليوم يعوِّلون على مصر في قيادة العمل العربي المشترك لترجمةِ الكثير من التَّطلُّعات والأُمنيات العربيَّة، وترميم العلاقات العربيَّة ـ العربيَّة، فمصر دائمًا هي حجر الأساس في هذه الجغرافيا السِّياسيَّة العربيَّة.
في ذِكرى إعلان قيام الجمهوريَّة العربيَّة المُتَّحدة دعونا نستأنس بتلك الذِّكريات والآمال لِنجدِّدَ الأمَل في تأسيس مشروع عربي يبدأ في الذَّاكرة الشَّعبيَّة العربيَّة أوَّلًا علَّ وعسى أنْ ينتقلَ للذَّاكرة الرَّسميَّة العربيَّة كواقع عربي لا مفرَّ مِنْه في مواجهة التَّحدِّيات وتحقيق الطُّموحات؛ لربطِ الوطنِ العربي من المحيط إلى الخليج في وحدة جامعة تُحقِّق مظلَّة عربيَّة واحدة نَحْوَ المستقبل.
خميس بن عبيد القطيطي