في أحَد اللقاءات الَّتي جمَعَتْني مع كوكبة من أصحاب الأقلام وكتَّاب الأعمدة والإعلاميِّين والصحفيِّين، أجاب فيها المسؤول الحكومي عن تساؤل وجِّه إِلَيْه حَوْلَ ما يُثار من مخاوف وقلق للتراكمات الَّتي باتتْ ترتبط بأجندة عمل مؤسَّسته وانعكاسات ذلك على الرَّأي العامِّ وتداعياته الأمنيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والفكريَّة، وتأثيراتها على المواطنة والهُوِيَّة والانتماء والولاء والثِّقة في المنجز الوطني؛ غير أنَّ الإجابة لم تكُنْ موفَّقةً أو مُقْنعةً، في ظلِّ ما حمَلَته من لُغة التَّعالي مصحوبة بشيء من النمطيَّة والتكراريَّة والتهكميَّة وتنزيه النَّفْس عن المسؤوليَّة، وما صحبها من نرجسيَّة الطَّرح وسطحيَّة الكلمات ممَّا يُثار أو يُكتب أو يتناقل عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة و(الواتس أب) حَوْلَ أداء مؤسَّسته ـ حتَّى يظنَّ المتابع بأنَّ المسؤول يعيش في عالَم آخر وكوكب ليس فيه صخب وضجيج وتفاعل ـ لِتتَّجهَ لُغة الخِطاب إلى أصحاب الأقلام وكتَّاب الأعمدة والإعلاميِّين والصحفيِّين وصنَّاع الكلمة، الَّذين امتلأتْ بهم القاعة، لِتتمَّ الإشارة إِلَيْهم بأنَّهم سلبيون في التَّعاطي مع أجندة مؤسَّسته، وأنَّ لدَيْهم أجندتهم الشخصيَّة بغية الحصول على العائد المالي والمادِّي أو التسويق لمحتواهم أو توجيه الأنظار إِلَيْهم، وأنَّ المنتَج الفكري الإعلامي والصحفي والرَّقمي الَّذي تواجهه مؤسَّسته غير مبرَّر.. موقف يحمل من الإهانة وإقصاء لُغة الحوار المشتركة كالقول بأنَّنا شركاء جميعًا في مَسيرة العمل ووجودكم دعم لنا في تحقيق الأفضل. ما لا يليق برجُل دولة… لِيَعودَ بنا إلى المربَّع الأوَّل وقَبل سنوات حين طرحتُ في أحَد المقالات، العنوان: «الطلَّة الإعلاميَّة للمسؤول الحكومي» وكنتُ قد دعوتُ فيها إلى تقنين هذه الطلَّة وتصحيح مسارها؛ كونها ما زالتْ تعيش في مربَّع السلبيَّة والاستهلاكيَّة والنمطيَّة والمزاجيَّة والفوقيَّة والسلطويَّة والفردانيَّة وسطحيَّة التفكير وغياب العقل الاستراتيجي المؤسَّسي ومحدوديَّة الخيارات الَّتي يمتلكها بعض المسؤولين في الدفاع عن أجندة مؤسَّستهم، لِيضعَ المواطن في قالب الاتهام؛ وأهميَّة تَبنِّي سياسات وطنيَّة عُليا في إعادة إنتاج المسؤول الحكومي وتوجيه الطلَّة الإعلاميَّة في الإفصاح عن أجندة التطوير بمؤسَّسته، والإجابة المُقْنعة عن التساؤلات المطروحة، ومواجهتها بالأدلَّة المباشرة والإحصائيَّات الدقيقة ولُغة الأرقام، وامتلاكه لُغة الحدس والفراسة والإقناع والقوَّة الفكريَّة والحواريَّة والخطابيَّة، بما من شأنه أن يُعزِّزَ العروة الوثقى، ويرسِّخَ نضج الحوار، ويَبنيَ مرحلة القوَّة في الاعتراف بالقصور، والحاجة إلى دعم المواطن ومساندته للقرار الحكومي، وفي الوقت نَفْسه توسيع فرص الخيارات لدَى المواطن في المحافظة على سقف توقُّعاته، ورفع مستوى الثِّقة المُجتمعيَّة في الأداء المؤسَّسي.
ولسْتُ هنا لسردِ تفاصيل الحدث، بقدر ما هي رسالة لكُلِّ مسؤول في هذا الوطن الغالي أقْسَم بالمحافظة على النِّظام الأساسي للدَّولة ورعاية مصالح المواطنين والإخلاص لله والوطن وجلالة السُّلطان؛ أن يكُونَ خير نموذج يحافظ على هذه الأمانة ويصدق في إتمام هذه الرسالة وإتيانها على أكمل وَجْه.. فسلطنة عُمان نعمة يَجِبُ المحافظة عَلَيْها في نفوس أبنائها، وعقيدتهم وفِقه حياتهم، فلا تضيعْ أيُّها المسؤول استشعار أبنائها لفضلها عَلَيْهم بتأخير أو تضييق أو سردِ أعذار ومبرِّرات المنْع والنُّدرة في حصولهم على حقوقهم الوطنيَّة واستحقاقاتهم الَّتي جادَ بها عَلَيْهم الوطن وجلالة السُّلطان. فإنَّ بناء هذه العقيدة الوطنيَّة القائمة على رفع درجة الشُّعور الإيجابي للمواطن بما يقدِّمه الوطن من منجزات، وما يتَّجه إِلَيْه من خطوات في البناء والتطوير والتحديث، بحاجة إلى إخلاص المسؤول وامتلاكه ضمير المسؤوليَّة وروح المساءلة وحسَّ التَّغيير، وإنتاج الأفكار والحلول المبتكرة والتوسُّع في الخيارات والبدائل وتجدُّدها في ظلِّ إيمانه بعقليَّة الوفرة الَّتي تفتح للمواطن أرحب الآفاق، وتَبني فيه الآمال العريضة والأحلام الكبيرة بحيثُ يجسِّدها في واقع عمله وطبيعة مهامه ومسؤوليَّاته الوظيفيَّة، ويؤطِّرها في مدخلات البناء ومسوِّغات الإنجاز ويستحضرها في كُلِّ محطَّات العمل القادمة، لِتبقَى المسؤوليَّة الوظيفيَّة للمسؤول الحكومي والموقع الَّذي يجسِّده في هرم المؤسَّسة، خيوطًا ممتدَّة لبناء المستقبل والعمل معًا لِنتقدَّمَ بثقة؛ فإنَّ معالجة القضايا والملفَّات الَّتي تمسُّ حياة المواطن وفتح المجال له لضمانِ إثبات حضوره وموقعه في تشكيل هُوِيَّة المستقبل والحفاظ على درجة التوازنات في شخصيَّته، بحاجة إلى أن تصنعَ هذه المنصَّات الحواريَّة قِيمة مضافة وأثرًا نوعيًّا يتَّجه لتعظيمِ الثِّقة، وتجديد إرادة العمل معًا وتقريب الفجوات وبناء خطوط تواصليَّة أكثر قوَّة واستدامة في رسم معالم التحوُّل الشامل والانتقال بعُمان إلى طموحات أبنائها. ويبقى على المؤسَّسات أن تجتهدَ في تقديم صورة مميّزة لخدماتها حَوْلَ أدائها بقربها من المواطن واستيعابها لطموحاتها وحرصها على معالجة التحدِّيات الَّتي يواجهها وتذليل الصعوبات الَّتي تعكِّر مزاجَه أو تؤخِّر حصولَه على هذا الحقِّ الوطني؛ فإنَّ روح التَّغيير الَّتي تسري في عمل المؤسَّسات وقِيمها وخططها وبرامجها وأدواتها ومنتجها وطريقة إدارتها لمتطلبات الواقع ومعالجتها لمشكلاته، ستنعكس إيجابًا على أشرعة التَّغيير الَّتي تزيِّن حياة المواطن وقناعاته وطريقة تفكيره، واستجابته وردود أفعاله، وتعاطيه مع الأمور، وأحكامه الَّتي يسقطها على عمل المؤسَّسات، بل أيضًا يستشعر ما تخرج به هذه المؤسَّسات من مبادرات واستراتيجيَّات وأُطُر ونماذج، فيتبنَّاها بصدقٍ والتزام بأنَّها تُمثِّل الوطن والمواطن، فيتقبَّلها بقَبولٍ حَسَن ويبعث فيها روح الشُّعور بأثَرها في تشكيل صورة المستقبل لدَيْه في إطار من الحكمة والوعي والثِّقة.
عَلَيْه، تتأكد فرضيَّة طرحنا لعلاقة الصورة الذهنيَّة المشرقة لإنجازات المؤسَّسات بعمل المسؤول الحكومي انطلاقًا من أنَّ كفاءة الإنجاز وعظمة المنجز لا يقتصر أثَرها على قِيمته في ذاته فحسب، بل يتَّسع لِيؤسِّسَ صورة ذهنيَّة إيجابيَّة مشرقة مكبرة ترتبط بمواطنة المواطن وانتمائه وولائه، واستشعاره عظمة ما يقدِّمه الوطن له، والفخر والاعتزاز الَّذي يرافقه وهو يشاهد عظمة هذه المنجزات، واقعًا ملموسًا وشاهدًا حيًّا، حتَّى تتولَّدَ لدَيْه الثِّقة بأنَّ خلْفَها جهودًا بُذلتْ، وخططًا تُرجمتْ، واستراتيجيَّات وُظِّفتْ، وإنسان أُستثمر في قدراته ومهاراته في سبيل أداء كفء، وعطاء مستمر. فإنَّ الرُّؤية المُتجدِّدة الَّتي تقدِّمها هذه المساحة الحواريَّة والتواصليَّة والقائمة على بناء الثِّقة وتعظيم المشتركات والتكامليَّة في ضمان الوصول إلى قرار وطني يتشارك الجميع رسم معالمه وتوجيه بوصلته؛ تحتِّم اليوم تصحيح المفاهيم المغلوطة الَّتي ما زالتْ حاضرة ـ مع الأسف الشَّديد ـ في شخصيَّة بعض مَن يتولون المناصب القياديَّة أو رؤساء الوحدات الحكوميَّة والهالة الَّتي تُحاط بهم ـ مع عدم التعميم ـ والَّتي كانتْ تتَّجه بقوَّة إلى إجادة لُغة التملُّق والتطبيل لِتضعَ الموظَّف وأصحاب الأقلام وصنَّاع الكلمة وكتَّاب الأعمدة في حالة تتجاذبها المزاجيَّات ويعيش فيها أصحاب المبادئ والثَّوابت حالة من الانسحاب عن المشهد إيمانًا بالأمانة التأريخيَّة واحترامًا لعَظَمة الرسالة الإعلاميَّة.
ومع ذلك فأنا على ثقة تامَّة بأنَّ هذه الصورة الباهتة باتتْ تتلاشى ولم تَعُدْ لُغة مستساغة في عُرف المؤسَّسات النَّابضة بالحياة في ظلِّ تعظيم ثقافة الحوار الاجتماعي وتعدُّد المنصَّات والمنابر الحواريَّة والتواصليَّة الَّتي تطلُّ بها المؤسَّسات على الجمهور والرَّأي العامِّ؛ ذلك أنَّ التَّحوُّلات الَّتي تشهدها منظومة الجهاز الإداري للدَّولة وإعادة الهيكلة ومفاهيم الحوكمة والشَّفافيَّة والرَّقابة والنَّزاهة والإنتاجيَّة باتتْ تُعِيد إنتاج الصورة النمطيَّة وتصحيح المسار وإخراجها من حالة العجز الَّتي تُلقي بظلالها على الأداء المؤسَّسي، واستبدالها بأنماط تنمويَّة عصريَّة تعظِّم من لُغة اللامركزيَّة والشَّراكة في الإنجاز، وشركاء في المسؤوليَّة ومعًا نتقدم، وهي لُغة النهضة المُتجدِّدة الَّتي أكَّد عَلَيْها جلالة السُّلطان المُعظَّم، عَبْرَ انتقال المؤسَّسات إلى ميادين العمل وعرصات المنافسة وتلمسها لاحتياجات المواطنين، وامتلاكها جديَّة الإصلاح والثِّقة في قَبول ثورة الأقلام والآراء المضادَّة باعتبارها جوهر التَّغيير النَّوعي القادم وضروراتها فـي رفع كفاءة وإنتاجيَّة القرار المؤسَّسي.
أخيرًا، فإنَّ نجاح الأوطان وتقدُّمها وتطوُّرها وتجدُّد نهضتها لا يتحقق بالمُحبِطين والسلبيِّين والمثبِّطين والمستهزِئين والمستهترِين والمُسوِّفين، كما لا يُبنَى بالغوغائيِّين والمطبِّلين والمُهرِّجين والسطحيِّين والمُروِّجين والباحثين عن الشُّهرة، والمتسلِّقين على أكتاف القدوات والنماذج، أو على المتكلمين والمتحدثين والظواهر الصوتيَّة الصَّاخبة، إنَّما تَقُوم على أكتاف الأوفياء المخلِصِين الأقوياء فكرًا وصدقًا وأمانة، وأصحاب الفكر الراقي والمبادئ العظيمة، والمبادرات الجادَّة، والروح السَّمحة، مَن يفكرون خارج صندوق الممارسة، الحالمون الباعثون للأمل في زمن السلبيَّة، مَن يعملون في صَمْتِ الأفواه، في حين يتحدث ضجيج العمل والإنجاز والعطاء عن نَفْسه ويُعبِّر عن ذاته.
د.رجب بن علي العويسي