د. صالح بن عبدالله الخمياسي
مرت الأيام وتعاقبت الأشهر، وها هو شهر رمضان المبارك قد ودعنا، تاركا وراءه أثرًا طيبا لا يُمحى في نفوسنا. وكما هي سنة الحياة، تمضي الأيام كلمح البصر، ويبقى السؤال: هل سنحافظ على العادات الإيجابيّة التي اكتسبناها في هذا الشهر الكريم، أم أننا سنعود لما كنا عليه من قبل؟
في رحاب رمضان، اعتدنا ضبط ألسنتنا، فلم نؤذِ أحدًا بقول أو فعل، وتلذذنا بذكر الله دعاءً وتسبيحًا وحمدًا وتكبيرًا. قرأنا القرآن بتدبر، وأدينا الصلاة بخشوع، وكان الانضباط سيد الموقف. شعرنا بالتعاطف مع الآخرين، وبذلنا الجهد في ضبط النفس، بل إن البعض أقلع عن عادات ضارة كالتدخين، إدراكًا لأهمية الصحة وسلامة الجسد.
لكن، ماذا بعد ان رحل هذا الشهر الفضيل؟ هل سنتمسك بهذه المكتسبات أم نتخلى عنها تدريجيًا؟ وإن عدنا إلى سابق عهدنا، فأين يكمن الخلل؟ وكيف نحقق نجاحات صغيرة يوميًا من خلال تبني عادات متراكمة كما وصفها جيمس كلير في كتابه العادات الذرية؟
العادة: مفتاح التغيير المستدام
لقد تناول العديد من الباحثين والمفكرين موضوع العادة بالدراسة والبحث، فمنهم من رأى أنها تقاطع بين المعرفة والمهارة والرغبة، كما أوضح ستيفن كوفي في كتابه العادات السبع لأكثر الناس فاعلية، ومنهم من أكد أنها تتكون من محفز وسلوك ومكافأة، كما أشار تشارلز دوهيج مؤلف كتاب قوة العادة. أما جيمس كلير، فقد اعتبر أن التحسينات الصغيرة المتراكمة يوميًا تؤدي إلى تغييرات هائلة على المدى البعيد و هي ما وصفها بالعادات الذرية.
كيف نكتسب العادات الإيجابية؟
وفقًا لجيمس كلير، يمكن بناء العادات الجيدة والتخلص من العادات السيئة من خلال أربع قواعد أساسية:
1. اجعلها واضحة: حدد العادة بوضوح، وادمجها في روتينك اليومي عبر مبدأ “تكديس العادات” (Habit Stacking).
• مثال: بعد شرب القهوة، اقرأ صفحة من كتاب.
2. اجعلها جذابة: اربط العادة بشيء تستمتع به أو مارسها مع أشخاص يشاركونك نفس الاهتمام.
• مثال: استمع إلى بودكاست تحبه أثناء المشي او مارس الاستغفار و الذكر او تكرار ما حفظته من القران الكريم.
3. اجعلها سهلة: ابدأ بخطوات بسيطة عبر قاعدة “الدقيقتين” (Two-Minute Rule).
• مثال: بدلًا من الحماس المفرط و التمرين لمدة ساعة، ابدأ بدقيقتين فقط ثم ضاعف الوقت بمرور الأيام.
4. اجعلها محفزة ومرضية: تابع تقدمك وكافئ نفسك عند تحقيق إنجاز في ما وضعته من أهداف
• مثال: بعد إنهاء قراءة فصل من كتاب، كافئ نفسك بوجبة خفيفة تحبها.
كيف نتخلص من العادات السلبية؟
على النقيض من وصفته لإكتساب العادات الإيجابية، لتقليل العادات السلبية، يقترح جيمس كلير ممارسة العكس:
1. اجعلها غير واضحة: أزل المحفزات التي تؤدي إليها.
2. اجعلها غير جذابة: ركز على عواقبها السلبية.
3. اجعلها صعبة: زد من الجهد المطلوب للقيام بها.
4. اجعلها غير مرضية: ضع عواقب واضحة أو التزم أمام شخص آخر بالتخلي عنها.
خطة عملية للاستمرار بعد شهر رمضان المبارك:
إن النجاح رحلة تتطلب المثابرة و الإستمرارية و تحدي النفس و لضمان الاستمرار في العادات الإيجابية التي اكتسبناها خلال شهر رمضان المبارك، جرب هذه الخطوات البسيطة التي يمكن تطبيقها بسهوله:
1. ابدأ بعادة واحدة: لا تحاول الالتزام بعدة عادات دفعة واحدة، بل ركز على عادة واحدة تريد ترسيخها.
2. إحرص على تتبع تقدمك في إكتساب العادات المنشوده بأسلوب بسيط يرصد لك ذلك
3. ابحث عن شريك للمحاسبة: شخص يشجعك ويحفزك على الالتزام بعاداتك الجديدة.
4. حدد مكافآت صغيرة: كلما استمررت في عادة إيجابية، كافئ نفسك بشيء بسيط يعزز من استمراريتك.
قصص نجاح ملهمة
كثيرون نجحوا في استثمار أوقاتهم في شهر رمضان المبارك كنقطة انطلاق نحو تغيير حياتهم. حدثني أحد أصدقائي بأنه كان يحاول ان يلتزم بقراءة القرآن بانتظام، لكنه قرر بعد رمضان أن يحرص على قراءة القران يوميًا بعد صلاة الفجر و لو بقراءة صفحة واحدة ، مستخدمًا مبدأ “تكديس العادات”. اليوم، وبعد عام من الالتزام، أنهى قراءة المصحف عدة مرات!
شخص آخر كان مدخنًا، لكنه استغل فرصة الصيام للإقلاع عن التدخين، وبدلًا من العودة إليه بعد أن ودعنا شهرنا الفضيل، استبدل هذه العادة بالمشي اليومي، مما أدى إلى تحسن صحته بشكل كبير.
الخاتمة: رمضان.. بداية وليست نهاية
رمضان ليس مجرد شهر نعيش فيه تجربة روحانية مؤقتة، بل هو نقطة انطلاق نحو التغيير الحقيقي. النجاح لا يكمن في أداء العبادات خلال شهر واحد، بل في الاستمرار عليها بعد انقضائه. فالعادات الجيدة لا تُبنى في يوم واحد، بل تتشكل من خلال خطوات صغيرة وثابتة.
لذلك، اسأل نفسك: إذا كنت قادرًا على التغيير لمدة 30 يومًا، فما الذي يمنعك من الاستمرار مدى الحياة؟
د. صالح الخمياسي
باحث و مدرب و كوتش في القيادة الذاتية و التغيير الشخصي.