عبد العزيز بدر عبد الله القطان*
في خضم التحولات الكبرى التي شهدها العالم الإسلامي خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث كانت رياح الاستعمار الغربي تعصف ببلاد المسلمين، وتيارات التغريب والحداثة تهدد كيان الأمة العقائدي والثقافي، برزت شخصية الإمام أحمد رضا خان البريلوي كحصن منيع يحمي عقائد الأمة ويرسي قواعد المنهج الوسطي في زمن كثرت فيه التيارات المتطرفة والمتساهلة على حد سواء.
لم يكن هذا العالم الرباني مجرد فقيه أو محدث تقليدي، بل كان مشروعاً إصلاحياً متكاملاً يجسدالإسلام في أبعاده الشاملة، جامعاً بين متانة العلم الشرعي ومواكبة مستجدات العصر، وبين التمسك بالأصول ومراعاة الواقع المعيش.
النشأة العلمية في بيئة متكاملة
وُلد الإمام أحمد رضا خان عام 1272هـ (1856م) في مدينة باريلي بالهند، تلك المدينة التي كانت تشكل أحد أهم المراكز العلمية في شبه القارة الهندية، ونشأ في أحضان أسرة علمية عريقة، حيث كان والده الشيخ نقي علي خان من كبار علماء الحنفية في عصره، وجده الشيخ رضا علي خان من مشاهير الصوفية والعلماء، تلقى علومه الأولى في هذه البيئة الغنية بالعلم والتربية، فأتم حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة جداً لم تتجاوز السابعة، ثم شرع في تلقي العلوم الشرعية والعقلية على يد كبار مشايخ عصره.
وقد تميزت مسيرته التعليمية بثلاث سمات رئيسية: أولها الشمولية في التلقي، حيث لم يقتصر على الفقه الحنفي الذي كان سائداً في بيئته، بل أتقن علوم الحديث والتفسير واللغة العربية وعلم الكلام والمنطق والفلسفة، وثانيها السرعة الفائقة في التحصيل، حيث نال الإجازة العلمية وهو في الثالثة عشرة من عمره، وبدأ بالتأليف قبل أن يبلغ العشرين، وثالثها العمق في الفهم، حيث تميز بقدرته الفذة على الجمع بين النصوص الشرعية ومقاصدها، وبين الأصول الثابتة والمتغيرات العصرية.
المشروع الإصلاحي الشامل
لم يكن هم الإمام البريلوي منحصراً في الجدل الكلامي أو الفقهي الضيق، بل وضع مشروعاً إصلاحياً متكاملاً يمكن تلخيص أركانه في خمسة محاور أساسية:
المحور الأول: الإصلاح العقدي العميق، حيث خاض معارك فكرية ضارية ضد ثلاثة تيارات رئيسية: الغلاة من الصوفية الذين انحرفوا عن جادة الشريعة بالبدع والخرافات، والمتشددين من الظاهريين الذين أنكروا كل ما لم يرد في القرآن والحديث نص صريح عليه، والمستشرقين والمبشرين الذين شككوا في مصادر الشريعة وحاولوا تشويه صورة الإسلام. وقد مثلت فتاواه في تكفير بعض الفرق جدلاً واسعاً في عصره، حيث كان يرى أن بعض الأقوال تخرج عن الملة الإسلامية.
المحور الثاني: التجديد الفقهي الواقعي، حيث أعاد صياغة الفقه الحنفي بطريقة تتلاءم مع ظروف الهند المعاصرة، مع الحفاظ التام على الأصول والمقاصد، وألف في ذلك “العطايا النبوية في الفتاوى الرضوية” الذي يعد موسوعة فقهية نادرة في عرض المسائل المعاصرة وفق الأصول الشرعية.
المحور الثالث: التربية الروحية المتوازنة، حيث أسس منهجاً صوفياً معتدلاً يربط المريد بالكتاب والسنة، ويحذر من الانحرافات السلوكية والعقدية في بعض الطرق الصوفية. وكان يرى أن التصوف الحق هو تجسيد للأخلاق النبوية وليس طقوساً مبتدعة.
المحور الرابع: الدفاع عن مقام النبوة، حيث خصص جزءاً كبيراً من جهوده للذود عن مكانة النبي صلى الله عليه وسلم، فرد على الطعون التاريخية والمعاصرة، وألف في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم عشرات الكتب والرسائل التي تجمع بين المنهج العلمي الرصين والحب العميق لرسول الله.
المحور الخامس: المواجهة الفكرية الشاملة للاستعمار، حيث تصدى للاستعمار الفكري البريطاني الذي كان يحاول تفكيك الهوية الإسلامية عبر مدارس التبشير والمستشرقين والإدارة الاستعمارية.
المنهج العلمي المتميز
تميز منهج الإمام البريلوي العلمي بعدة خصائص جعلت مؤلفاته مراجع معتمدة حتى اليوم:
أولاً: الجمع المتقن بين النقل والعقل، حيث لم يكن مجرد ناقل للتراث، بل كان محققاً مدققاً يجمع بين النصوص الشرعية والأدلة العقلية والمقاصدية في معالجة القضايا.
ثانياً: الربط الوثيق بين الفقه والواقع، حيث كان يعالج القضايا المعاصرة في ضوء الأصول الشرعية، كما في تعامله مع المستجدات التقنية كالتلغراف والتصوير الفوتوغرافي والسكك الحديدية.
ثالثاً: الشمولية في التناول العلمي، حيث لم يكن فقيهاً فقط، بل كان عالماً بالعقيدة والحديث واللغة والتاريخ والمنطق، مما أعطى بحوثه عمقاً غير مسبوق.
رابعاً: الدقة في التحليل والاستنباط، حيث كان يغوص في المسائل إلى أصولها، كما في رسائله الكلامية التي تصل إلى مستوى الاجتهاد في المسائل العقدية.
الإنتاج العلمي الضخم
ترك الإمام البريلوي مكتبة علمية ضخمة تقدر بأكثر من ألف مؤلف، تشمل مختلف العلوم الشرعية والإنسانية:
في مجال الفقه وأصوله: ألف عشرات الكتب منها “كفل الفقيه الفاهم” في أصول الفقه، و”المنح البارية في شرح الدرة المضية” في الفقه المقارن، و”العطايا النبوية” الذي يعد من أكبر الموسوعات الفقهية في المذهب الحنفي.
في العقيدة وعلم الكلام: كتب عشرات الرسائل والكتب منها “الدولت المكية” في إثبات كرامات الأولياء، و”المنن المكية” في الرد على الوهابية، و”إظهار العقيدة السنية” في شرح العقيدة الطحاوية.
في الحديث وعلومه: ألف “الحديقة الندية في شرح الأحاديث النبوية”، و”الكنز الثمين في أحاديث سيد المرسلين”، و”الدرر النبوية في الأحاديث القدسية”.
في السيرة والشمائل: كتب “أنباء المصطفى” في السيرة النبوية، و”المعجزات المحمدية”، و”السراج المنير في ذكرى المولد النبوي”.
في الردود العلمية: ألف “السلّم المنيف في الرد على المبتدع الضال العنيف”، و”الصارم المسلول على أعداء الرسول”، و”الفتاوى الرضوية” التي تضمنت ردوداً على شبهات المستشرقين والمبشرين.
في اللغة والأدب: كتب “معجم المصطلحات الشرعية”، و”الدرر الغالية في النحو والصرف”، وديواناً شعرياً بالعربية والفارسية والأردية.
التأثير التاريخي والامتداد المعاصر
لم تقتصر تأثيرات الإمام البريلوي على عصره، بل امتدت إلى يومنا هذا عبر عدة قنوات:
أولاً: المؤسسات التعليمية التي أسسها أو أثر فيها، وأشهرها جامعة منظر الإسلام في بريلي التي أصبحت منارة للعلم الشرعي في شبه القارة الهندية.
ثانياً: جيل التلاميذ والعلماء الذين تربوا على يديه ونشروا علمه في أنحاء العالم، ومن أشهرهم الشيخ حامد رضا خان، والشيخ مصطفى رضا خان، والشيخ إبراهيم رضا خان.
ثالثاً: الحركة البريلوية التي أصبحت واحدة من أكبر الحركات الإسلامية في جنوب آسيا، وانتشرت في الهند وباكستان وبنغلاديش والمملكة المتحدة وجنوب أفريقيا.
رابعاً: الآثار الفكرية والعلمية التي لا تزال تدرس في الجامعات الإسلامية العالمية، وتعد مراجع أساسية في المذهب الحنفي والعقيدة الأشعرية.
تقدم سيرة الإمام البريلوي عدة دروس مهمة للأمة الإسلامية، ضرورة الجمع بين الأصالة والمعاصرة في المشاريع الإصلاحية، حيث كان يمثل الاعتدال والوسطية في زمن الغلو والتطرف، كما تقدم أهمية الربط العضوي بين العلم الشرعي والواقع المعيش، حيث لم يكن علمه نظرياً مجرداً، بل كان يعالج قضايا المجتمع ومشكلاته.
إلى جانب الحاجة إلى المنهجية المتوازنة في التعامل مع التراث الإسلامي، حيث جمع بين التمسك بالأصول والاجتهاد في الفروع، وضرورة المواجهة الشاملة للتحديات الفكرية والثقافية التي تواجه الأمة، حيث واجه الاستعمار الفكري كما واجه العسكري.
لقد كان الإمام أحمد رضا خان البريلوي نموذجاً فريداً للعالم الموسوعي الذي يجمع بين سعة العلم وعمق الفهم، وبين قوة الحجة وحسن الخلق، وبين التمسك بالتراث وفهم العصر، وتظل سيرته نبراساً يضيء طريق الإصلاح الحقيقي القائم على العلم الرصين والفهم العميق لمقاصد الشريعة، وتربية الأجيال على المنهج الوسطي الذي يجمع بين ثوابت الدين ومتطلبات العصر.
*كاتب ومفكر – الكويت.

