في قلب التجربة الإنسانية، يقف القانون كميزان للعقل، والوجدان كصوتٍ للضمير. وبين هذين الركنين تتشكل العدالة، لا كقاعدة صماء تُحكم بالألفاظ، بل كقيمة حية تنبض في ضمير المشرع والقاضي والمجتمع، وإن العلاقة بين القانون والوجدان ليست مجرد تماسٍ بين نظامٍ وضعي ومعيارٍ أخلاقي، بل هي تفاعل وجودي يؤسس لما يمكن تسميته بـ “الضمير القانوني”، وهو المفهوم الذي تتلاقى فيه الشرعية القانونية مع الفطرة الأخلاقية، لتصنع معًا تشريعًا إنسانيًا لا يفصل بين العدالة الشكلية والعدالة الجوهرية.
فحين يتحدث الفقهاء عن روح القانون، فإنهم يشيرون ضمنياً إلى تلك القوة المعنوية التي تتجاوز النصوص نحو مقاصدها، فالنص، مهما كان دقته، لا يكفي وحده لإقامة العدل إن لم يُفعل بالوجدان، وقد أدرك فقهاء الإسلام هذا البعد مبكراً، إذ ربطوا بين “العدل” كمفهوم شرعي، و”الضمير” كقيمة فطرية، فجعلوا من العدل مقصداً أعلى يتقدم على التطبيق الحرفي للنص، يقول الإمام ابن القيم إن “العدل هو أساس الملك، ومتى خرج الحكم عن العدل خرج عن حكم الله”، وهذه العبارة تختزل فلسفة الضمير القانوني في أبهى صورها، فالقانون الذي لا يتكئ على وجدانٍ أخلاقي يفقد معناه ومشروعيته.
ومن الشواهد الفقهية البارزة على ذلك، موقف الإمام الفاروق، عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما علّق حد السرقة عام الرمادة، رغم وضوح النص القرآني، لأن الضمير الإنساني أملى عليه أن الجائع لا يُعاقَب، وأن الظروف القهرية تُغيّر وجه الحكم، هذا الموقف لم يكن استثناءً من القاعدة، بل تأكيداً على أن النص يخضع في جوهره لروح العدالة التي تستند إلى الفطرة السليمة، كذلك نجد في التراث الفقهي الإسلامي أن قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” و”درء الحدود بالشبهات” تجسدان تطبيقاً عملياً لمبدأ الضمير القانوني، إذ تضع المشاعر الإنسانية والعدالة الوجدانية في مرتبة موازية للنصوص.
وفي الفقه الغربي أيضاً، ظهرت محاولات مماثلة لتقنين الضمير في العمل القانوني، خصوصاً مع المدرسة الطبيعية التي اعتبرت القانون انعكاساً للعقل الإنساني وللمبادئ الأخلاقية الثابتة، فتوما الأكويني في فلسفته القانونية رأى أن القوانين الوضعية يجب أن تستمد شرعيتها من “القانون الطبيعي”، أي من الوجدان الأخلاقي الذي فطر الله تبارك وتعالى الناس عليه، وفي القرون اللاحقة، تطوّر هذا المفهوم مع فلاسفة مثل روسو وكانط وهيغل، الذين رأوا أن العدالة ليست فقط التزاماً قانونياً، بل التزاماً ضميرياً يعبر عن احترام الإنسان لإنسانيته.
بالتالي إن هذه المقاربة بين الفقه الإسلامي والفكر الغربي تكشف عن وحدة المبدأ وإن اختلفت الصياغة، فكل منهما يعترف بأن النص القانوني لا يكون عادلاً إلا إذا كان متسقاً مع الوجدان الإنساني، فالقاضي الذي يحكم بلا ضمير، والمشرّع الذي يسنّ قوانين بلا إنسانية، كلاهما يعيداننا إلى حالة من الجمود الأخلاقي التي تُميت روح العدالة، ومن هنا فإن الضمير القانوني ليس ترفاً فلسفياً، بل ضرورة مؤسسية يجب أن تدخل في صميم بناء الأنظمة القانونية والقضائية الحديثة.
وتتجلّى أهمية الضمير القانوني في لحظات التفسير القضائي حين يجد القاضي نفسه أمام نص غامض أو قضية تلامس حدود الأخلاق، هنا لا يكون النص وحده كافياً، بل يُستنطق الضمير المهني والإنساني في آنٍ واحد، وقد عبّر الفقه الإسلامي عن هذا المبدأ بمقولة “الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً”، أي أن القاضي لا يحكم بناءً على ظاهر النص بل على مقصده وعدله، وفي القضاء الحديث، تتجلى هذه الفكرة فيما يعرف بـ “الاجتهاد القضائي الإنساني”، حيث تُراعى الظروف النفسية والاجتماعية للمتهمين والمجني عليهم، ويُقدم البعد الإصلاحي على العقابي متى أمكن ذلك.
فعلى سبيل المثال، في العديد من الأنظمة القانونية، تم تبنّي مبدأ الرأفة القضائية الذي يتيح للقاضي تخفيف العقوبة بناءً على دوافع المتهم أو ملابسات الجريمة، هذا المبدأ يجد جذوره في الضمير القانوني الذي يرى أن العدالة ليست مساواة حسابية، بل موازنة دقيقة بين النص والحالة الإنسانية، وكذلك نجد في بعض الدول العربية تطبيقات فقهية مشابهة، حيث تراعى نية الفاعل ومقاصده في التجريم والعقوبة، وهو ما يتسق مع القاعدة الشرعية “الأمور بمقاصدها”.
ولعل من أبرز تجليات الضمير القانوني في العصر الحديث، النقاشات الدائرة حول قوانين اللجوء والهجرة، حيث تتصادم أحياناً الاعتبارات القانونية مع الإنسانية، فبينما تفرض القوانين حدوداً وسيادة، يملي الضمير أن حماية الإنسان أولى من حماية الحدود، هنا تظهر الأزمة الكبرى بين النص والوجدان، فالقانون يطالب بالانضباط، والضمير يطالب بالرحمة، والحل ليس في إلغاء أحدهما، بل في صياغة مبدأ توازني يجمع بينهما في تشريعات مرنة تُعلي من كرامة الإنسان دون التفريط في سيادة الدولة.
في المقابل، لا يمكن أن يُترك الضمير وحده بديلاً عن القانون، إذ قد يتحوّل إلى معيار شخصي متقلب، فالضمير القانوني لا يعني الخضوع للعاطفة، بل تنظيم الأخلاق ضمن إطارٍ تشريعي منضبط، إنه توازن بين وجدان فردي يراعي الرحمة، ونظام عام يحمي المصلحة، ومن هنا جاءت فكرة “الضمير المهني” للقاضي والمحامي والمشرع، الذي يفرض عليهم التزاماً أخلاقياً بمراعاة العدالة قبل المصلحة، والإنصاف قبل الإجراء.
ولأن القانون في جوهره صناعة بشرية، فهو معرض للخطأ إذا ما غاب عنه البعد الوجداني، فكم من نصوصٍ أقرّتها البرلمانات وكانت قانونية شكلاً لكنها ظالمة مضموناً، لأنها تجاهلت الإنسان في سبيل النظام، ولعل هذا ما قصده الفقيه الفرنسي مونتسكيو حين قال إن “القوانين يجب أن تتحدث بلغة الشعوب لا بلغة القضاة”، أي أن تكون منبثقة من وجدان الناس لا مفروضة عليهم من أحد، وهذا القول يذكرنا بمبدأ الشورى في الإسلام، الذي جعل التشريع نابعاً من وعي الأمة لا من إرادة الحاكم وحده.
وإن مبدأ الضمير القانوني يمكن أن يصبح في المستقبل إطاراً أخلاقياً لإصلاح التشريعات العربية، عبر تعزيز ثقافة الموازنة بين النصوص والقيم، وبين الحقوق والواجبات، وبين النظام والرحمة، فالتشريعات الحديثة التي تراعي الأبعاد الأخلاقية، مثل قوانين حماية الطفل والمرأة والبيئة، تمثل انتقالاً من الصرامة إلى الإنسانية، ومن النص الجامد إلى الضمير الحي، ولا يمكن أن نتصور إصلاحاً قانونياً حقيقياً ما لم يكن قائده هو الضمير.
وفي هذا السياق، أرى كمحامي أن غياب الضمير عن الممارسة التشريعية والقضائية هو أخطر أشكال الفساد الخفي، لأنه يُفرغ القانون من معناه، ويحوله إلى أداة قهر لا عدل، فالضمير القانوني ليس شعارًا بل ممارسة يومية تبدأ من صياغة التشريع، مروراً بآليات تطبيقه، وانتهاءً بتفسيره في ساحات القضاء، ولا يمكن بناء ضمير قانوني مؤسسي إلا عبر التربية القانونية القائمة على القيم، لا على النصوص فقط، إذ يجب أن يتعلم طلاب القانون أن العدالة لا تُدرس فقط في القوانين، بل في الضمير الإنساني الذي يصيغها ويمنحها روحها.
كما أعتقد أن المجتمع بدوره يتحمل مسؤولية تعزيز هذا الوعي القانوني الأخلاقي، فحين يتربى الناس على احترام القانون لأنه عادل، لا لأنه مفروض، حينها يصبح الالتزام به فعلاً وجدانياً لا خوفاً من العقوبة، وهذا هو الهدف الأسمى الذي يجب أن تتبناه التشريعات المعاصرة، أي أن تجعل من القانون أداة تربية لا قمع، ومن العدالة ثقافة لا خوف.
وإننا أيضاً بحاجة إلى ثورة فكرية قانونية تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والنص، بين المشرع والضمير، بين القضاء والرحمة، فالقانون بلا وجدان كالجسد بلا روح، والوجدان بلا قانون كالنور بلا اتجاه، ومتى التقت هذه الثنائية في ضمير قانوني حي، صارت العدالة واقعاً لا شعاراً، وصار الإنسان غاية التشريع لا وسيلته.
في النهاية، إن مبدأ الضمير القانوني ليس دعوة مثالية، بل استحقاق إنساني يفرضه الزمن الحاضر، حيث تتعقّد القوانين وتتسع القضايا وتضعف القيم، ومن هنا وجب أن نعيد إلى القانون روحه الأولى، أن يكون في خدمة الإنسان، وأن يكون الضمير شريكه الدائم في كل حكم وتشريع، ففي النهاية، لا عدالة بلا وجدان، ولا قانون بلا ضمير.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان
دار القسطاس للمحاماة والاستشارات القانونية
