في ظل الثورة التقنية التي غيّرت ملامح العالم، لم يعد مفهوم العدالة حبيس القاعات القضائية أو النصوص التشريعية، بل أصبح ممتداً إلى فضاء جديد لا تحدّه الجغرافيا ولا تقيّده السيادة السياسية، هو الفضاء السيبراني، هذا الفضاء الذي نشأت فيه مجتمعات رقمية افتراضية، وتكوّنت فيه مصالح وحقوق ومسؤوليات ومنازعات تتجاوز المفهوم التقليدي للحدود.
ومن هنا، يبرز السؤال العميق: كيف يمكن للفقه الإسلامي، الذي أسّس لمنظومة عدل ربانية متكاملة، أن يتفاعل مع هذا الواقع الجديد؟ وكيف يمكن للقانون الدولي الإلكتروني أن يواكب هذه الطفرة التقنية من منظور إنساني وأخلاقي يضمن كرامة الفرد وحريته وأمنه الرقمي؟
في المضمون، لقد أدركت المجتمعات الحديثة أن الفضاء الرقمي بات مجالاً حيوياً تتشابك فيه المصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وأن العدالة الرقمية لم تعد ترفاً فكرياً كما كانت في السابق، بل ضرورة لحماية الإنسان من الانتهاكات التي تمس خصوصيته وبياناته وهويته وحتى حياته عموماً، غير أن هذه العدالة تواجه إشكالات معقدة خاصة في المجتمعات الإسلامية، لأن القانون الوضعي ما زال عاجزاً عن الإحاطة الكاملة بحدود المسؤولية الرقمية، ولأن المعايير الأخلاقية في هذا العالم الافتراضي تتبدل بتبدل المصالح، وهنا يأتي دور الفقه الإسلامي الذي سبق إلى إرساء قواعد عامة تصلح لكل زمان ومكان، إذ قرر قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” والتي كنا قد شرحناها وذكرناها في مقالات سابقة، واعتبر أن العدالة قيمة مطلقة لا تتجزأ، وأن الحقوق لا تسقط بتغير الوسائل أو تطور الزمان.
بالتالي، إن العدالة الرقمية في جوهرها هي امتداد لمبدأ العدل الإلهي، لكنها تتطلب قراءة فقهية جديدة تُراعي خصوصيات العصر الحديث، فالفقهاء القدامى عندما تحدثوا عن “الحرز” في الفقه الجنائي الإسلامي، إنما كانوا يحمون ملكية الفرد المادية من السرقة، واليوم أصبح “الحرز” الإلكتروني هو نظام الحماية المعلوماتية والبيانات الشخصية التي تمثل كيان الإنسان الرقمي، فإذا تم اختراقه أو سرقته أو العبث به، فإن الضرر لا يقل عن الضرر المادي في المفهوم الفقهي، بل يمكن القول إن الأذية الرقمية أحياناً تكون أشد أثراً وضرراً، لأنها تمس السمعة والهوية والكرامة، وهي أركان أساسية في منظومة الحقوق التي أقرها الإسلام تحت مبدأ “حفظ النفس والعرض والعقل والمال”.
من هنا، نجد أن العدالة الرقمية تتطلب فقهاً مقاصدياً مرناً ينطلق من مقاصد الشريعة الإسلامية في حماية الإنسان، ويُعيد تفسير النصوص بما يحقق الغاية من التشريع، لا الجمود على ظواهرها، فكما أن الإسلام حمى الحقوق في الأسواق والمجتمعات المادية، فإن حماية الحقوق في “الأسواق الرقمية” و”المنصات الاجتماعية” ليست سوى امتداد لهذا الأصل، وقد قال الإمام الشاطبي في هذا الشأن: إن “المقاصد لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وإنما تختلف الوسائل”، وهي قاعدة جوهرية يمكن الاستناد إليها في بناء تصور فقهي للعدالة الرقمية في وقتنا الحاضر.
أما من منظور القانون الدولي الإلكتروني، فإن المجتمع الدولي بدأ يتلمس طريقه نحو تنظيم هذا الفضاء عبر معاهدات مثل اتفاقية بودابست لمكافحة الجرائم الإلكترونية، وإعلانات الأمم المتحدة حول الحق في الخصوصية الرقمية، غير أن هذه الجهود لا تزال قاصرة لا تحقق المرجو منها، لأنها تفتقر إلى رؤية قيمية تضبط الاستخدام وتحقق التوازن بين حرية التعبير وحماية المجتمع من الانفلات الرقمي، في حين أن الفقه الإسلامي يقدّم تصوراً أكثر شمولاً، يقوم على التوازن بين الحق والواجب، وبين الحرية والضابط الأخلاقي، مما يجعله أرضية مثالية لتطوير “فقه العدالة الرقمية”.
بالتالي، إن الفضاء السيبراني اليوم يشهد مظاهر متعددة للظلم، من التنمر الإلكتروني إلى سرقة البيانات، ومن التلاعب بالعقول عبر الخوارزميات إلى التزييف العميق الذي يهدد الحقيقة ذاتها وهذا أمر خطير جداً، وكل ذلك يتطلب بناء منظومة فقهية قانونية تُعيد تعريف الحقوق بما يتناسب مع الواقع الافتراضي، ففي الفقه الإسلامي، قاعدة “الضمان بالتسبب” تفرض المسؤولية على من أحدث ضرراً ولو بوسيلة غير مباشرة، وهو مبدأ يمكن إسقاطه على الجرائم السيبرانية والمنتشرة مع كل أسف بكثرة في أيامنا هذه، حيث لا يُشترط أن يكون الفاعل قد نفّذ الجريمة بيده، بل يكفي أن يكون قد هيّأ الوسيلة التقنية أو نشر برنامجاً ضاراً كان سبباً في الضرر.
وقد ناقش بعض العلماء المعاصرين فكرة “الذمة الرقمية” باعتبار أن لكل فرد هوية رقمية تمثل شخصيته في العالم الافتراضي، ويجب أن تُحترم كما تُحترم الذمة الإنسانية في الواقع، وهذا المفهوم يجد سنده في الفقه الإسلامي الذي قرر حرمة الإنسان ووجوب صيانة عرضه وماله، فكيف إذا أصبح هذا العرض والمال في شكل بيانات رقمية؟ إن أي اعتداء على هذه البيانات هو اعتداء على الإنسان ذاته، مما يوجب القصاص القانوني والردع التشريعي.
ومن أبرز التحديات التي تواجه العدالة الرقمية في العالم الإسلامي هو ضعف الوعي المجتمعي بحقوق الأفراد في الفضاء الإلكتروني، فالكثير من المستخدمين لا يدركون أن تصرفاتهم الرقمية لها تبعات قانونية وشرعية، ومن هنا يأتي دور المؤسسات التعليمية والدعوية والإعلامية لتأصيل ثقافة “المواطنة الرقمية”، التي تجمع بين الوعي بالتقنيات الحديثة والانضباط القيمي المستمد من الشريعة. فالمسلم في العالم الرقمي يجب أن يكون كما هو في العالم الواقعي: مسؤولاً عن قوله وفعله ونشره، ملتزماً بحدود الحلال والحرام، مدركاً أن الله تبارك وتعالى يراه في السر والعلن، وفي الواقع والافتراض سواء بسواء.
كما أن العدالة الرقمية لا تتحقق فقط من خلال التشريعات والعقوبات، بل عبر ترسيخ منظومة أخلاقية في التعامل مع المعلومات، تقوم على الأمانة والصدق والإنصاف، ففي الحديث الشريف: “كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع”، وهذا الحديث يكتسب بعداً رقمياً عميقاً في زمن الأخبار المزيفة، حيث يصبح نشر المعلومة دون تحقق نوعاً من الكذب الذي يؤدي إلى الفتنة والإفساد، إن العدالة الرقمية تبدأ من الضمير، قبل أن تُدوّن في القوانين.
ولقد شهدنا مؤخراً توسعاً في استخدام الذكاء الاصطناعي في مراقبة السلوك الرقمي وتحليل البيانات الشخصية، ما يثير إشكالات فقهية حول مدى مشروعية هذا النوع من التتبع، فبينما يرى البعض أنه ضرورة لحماية الأمن العام، يؤكد آخرون أن فيه تعدياً على خصوصية الأفراد التي أوجب الإسلام صونها، ويمكن الجمع بين الرأيين عبر تطبيق قاعدة “الضرورات تُقدّر بقدرها”، بحيث لا يُسمح بالتتبع إلا بالقدر الذي يحقق المصلحة العامة دون المساس بحرية الأفراد، لكن من ناحية أخرى يجب تسخيره لما له من فوائد على ترقية أي عمل والسرعة في إنجازه، وهذا يحتاج إلى دورات مستمرة تعلّم هذه الأجيال كيفية تحويل سلاح التكنولوجيا إلى أسلحة مفيدة لا استغلالها بما يخالف الأخلاق والتعاليم الإسلامية السمحة التي حرّمت أي خطأ يضرّ بالناس.
وإن إعادة تعريف العدالة في الفضاء السيبراني من منظور فقهي وقانوني يتطلب شجاعة فكرية وقدرة على الاجتهاد المعاصر، فالاجتهاد هنا لا يعني استحداث أحكام جديدة من فراغ، بل هو تفعيل للأصول الثابتة في سياق جديد، وقد حثّ الإمام ابن القيم على ذلك حين قال إن “الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال”، فالفقه الرقمي اليوم ليس ترفًا بل واجب شرعي يواكب التطور ويمنع الانحراف.
أما من وجهة نظري القانونية، فإن العدالة الرقمية تمثل مرحلة جديدة من تطور فكرة العدالة ذاتها، فهي لا تقتصر على حماية الحقوق بل تشمل إعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والتقنية، فالقانون يجب أن يعترف بالشخصية الرقمية بوصفها امتدادًا للشخص الطبيعي، وأن يُقرّ بالمسؤولية القانونية للأنظمة الذكية والشركات المالكة للمنصات الرقمية عند وقوع الأضرار، كما يجب تطوير تشريعات وطنية ودولية مستمدة من مبادئ العدالة الإسلامية، التي تضع الإنسان في مركز المنظومة لا التقنية، وتوازن بين المصلحة الفردية والعامة، وبين التطور والضبط الأخلاقي.
ومن الضروري كذلك توعية المجتمع بحقوقه الرقمية من خلال خطاب قانوني وديني موحد، يتبنى لغة قريبة من الناس، ويُظهر أن حماية الخصوصية ليست مطلباً غربياً بل قيمة إسلامية أصيلة، وأن استخدام التكنولوجيا لا يجب أن يكون وسيلة للهيمنة بل أداة لخدمة الإنسانية، فالعدالة الرقمية لا تتحقق بالردع فقط، بل بالوعي والمسؤولية.
وفي نهاية المطاف، يمكن القول إن العدالة الرقمية تمثل الجسر الذي يربط بين الفقه الإسلامي الخالد والقانون الدولي الحديث، إنها لحظة التقاء بين “الحق الإلهي” و”الحق الإنساني”، بين النص المقدس والتقنية المتغيرة، وإذا استطاعت المجتمعات الإسلامية أن تبني نموذجاً فقهياً قانونياً متكاملاً يستوعب هذه التحولات، فإنها ستقدّم للعالم تجربة رائدة في تنظيم الفضاء السيبراني بروح العدل والإنصاف، فالعدالة الرقمية ليست مجرد مصطلح أكاديمي، بل مشروع حضاري يعيد للإنسان مكانته في عالم يهدده الذكاء الاصطناعي وتسيطر عليه الخوارزميات، وهي دعوة مفتوحة لكل المفكرين والفقهاء والقانونيين إلى أن ينطلقوا نحو تأسيس فقه جديد، يجعل من الفضاء الرقمي ساحة للعدل، لا للهيمنة.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان
مستشار قانوني – الكويت.

