في خضم التحولات الكبرى التي يشهدها العالم المعاصر، لم يعد مفهوم السيادة كما تشكّل في القرون الماضية قادراً على الإحاطة الكاملة بواقع الدولة والمجتمع، ولا بالتحولات التي مسّت فكرة السلطة والشرعية والقانون، ومع بروز الفقه الدستوري الإسلامي كأحد الحقول المعرفية الجديدة التي تحاول المواءمة بين التراث الفقهي ومقتضيات الدولة الحديثة، تطرح مسألة السيادة نفسها بوصفها لبّ الإشكال: لمن تكون؟ ولمن تعود الكلمة الفصل في تدبير شؤون الجماعة؟ هل هي للأمة، أم للحاكم، أم للشريعة، أم أن هناك إمكاناً فلسفياً لإعادة تعريفها بما يتلاءم مع مقاصد الشريعة في تحقيق الخير العام وحفظ الكليات الضرورية للحياة الإنسانية؟
والفقه الدستوري الإسلامي ليس مجرد محاولة شكلية لإسقاط مفاهيم حديثة على نصوص قديمة، بل هو جهد تأويلي فلسفي يسعى إلى استنباط مبادئ الحكم والسياسة من روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها الكبرى، بحيث تكون الدولة إطاراً لتحقيق العدل لا مجرد آلة للسلطة، أيضاً في الفكر السياسي الغربي، نشأ مفهوم السيادة في سياق صراع الكنيسة مع الملوك وهذا كنا قد تحدثنا عنه سابقاً وكيف كانت الكنيسة هي الدولة وهي الآمر والمتحكم بالشعوب عندما كان لها باع طويل وهي مصدر التشريع، ثم تطور عبر منظّري العقد الاجتماعي أمثال هوبز وروسو ولوك ليعبّر عن إرادة الأمة بوصفها مصدر السلطة، حتى غدت السيادة في الدولة الحديثة مرادفاً لاستقلالها الكامل في الداخل والخارج. أمّا في الفقه الإسلامي، فقد كانت السيادة لله تبارك وتعالى بمعنى أن الحكم لله سبحانه وتعالى وحده، وأن الإنسان مستخلف في الأرض لعمارتها وفق منهج الله تبارك وتعالى، غير أن هذا التصور الإلهي للسيادة لم يكن في التاريخ الإسلامي مجرد شعار، بل كان إطاراً ناظماً لمنظومة القيم التي تحكم العلاقة بين الراعي والرعية، وبين الحاكم والمحكوم، وبين السلطة والحق.
بالتالي، إن القول بأن “السيادة لله” في التصور الإسلامي لا يعني بالضرورة إلغاء دور الأمة أو مصادرة إرادتها، بل يعني أن القيم العليا التي تنبثق من الوحي تضبط حركة الإنسان في التشريع والحكم، فيكون كل اجتهاد سياسي أو دستوري مشروطاً بعدم مخالفته للمقاصد الكلية للشريعة، التي حددها العلماء في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وأضاف بعضهم الكرامة والحرية، ومن ثم فإن السيادة في المنظور الإسلامي ليست مطلقة لشخص ولا لجماعة، بل هي سيادة مقيدة بالمقاصد، تجعل الشريعة مرجعية أخلاقية عليا لا يمكن تجاوزها، مع بقاء مساحة واسعة للاجتهاد في تنظيم شؤون الدولة والمجتمع وفق مقتضيات الزمان والمكان.
ولعل الفارق الجوهري بين مفهوم السيادة في الفكر الدستوري الوضعي ونظيره في الفكر الإسلامي يكمن في الأساس الفلسفي، ففي الدولة الحديثة، السيادة تتأسس على الإرادة الجمعية للناس بوصفهم أصحاب الحق المطلق في التشريع، بينما في التصور الإسلامي فإن إرادة الناس معتبرة ومؤثرة لكنها لا تنفلت من الضوابط الشرعية التي تحفظ النظام الأخلاقي للحياة، في هذا الصدد، يقول الإمام الماوردي في “الأحكام السلطانية”: إن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وهذا القول يُبرز أن سلطة الحاكم مستمدة من مقاصد الشرع لا من تفويض مطلق من الناس، ومع ذلك، لم يغفل الماوردي وغيره من فقهاء السياسة الشرعية فكرة الشورى والمحاسبة، إذ اعتبروا أن الأمة لها حق المراقبة والعزل متى انحرف الحاكم عن مقتضى العدل أو أخلّ بأمانة الحكم.
ومع ظهور الدولة الوطنية الحديثة في العالم الإسلامي، تداخلت المفاهيم وتصارعت المرجعيات، فالدساتير المستمدة من النماذج الغربية أدخلت مصطلحات مثل “سيادة الشعب” و”السلطة التشريعية”، بينما بقيت النصوص الدينية تتحدث عن “سيادة الله” و”التحاكم إلى شرعه”، هذا التنافر الظاهري ولّد إشكالات في الفقه الدستوري الإسلامي: كيف يمكن التوفيق بين مبدأ أن السيادة للشعب ومبدأ أن الحكم لله؟ هنا جاء اجتهاد المعاصرين من العلماء والمفكرين الإسلاميين ليقترحوا قراءات تجديدية تعيد تعريف السيادة بما يتجاوز الثنائية التقليدية بين الله والإنسان، نحو تصور مقاصدي يجعل السيادة وظيفة مشتركة بين الوحي والعقل والمصلحة.
فالدكتور محمد سليم العوا على سبيل المثال يرى أن السيادة في الدولة الإسلامية الحديثة يمكن فهمها على أنها سيادة للشرع في المقاصد لا في النصوص الجزئية، بحيث يُحتكم إلى روح الشريعة في تحقيق العدل والحرية والكرامة، أما الشيخ يوسف القرضاوي فيعتبر أن السيادة لله بمعنى المرجعية العليا، لكن ممارستها تقع في يد الأمة التي تختار من يعبر عنها ويجتهد في تطبيقها وفق الظروف المتغيرة، وفي الاتجاه ذاته، يرى راشد الغنوشي أن مفهوم السيادة يمكن إعادة بنائه ليكون سيادة مشتركة: السيادة لله من حيث المصدر، وللأمة من حيث الممارسة، وللقانون من حيث الضبط، وهو بذلك يدمج بين الأصالة والمعاصرة في رؤية فلسفية متوازنة.
وهذا يقود إلى أن إعادة تعريف مفهوم السيادة في ضوء مقاصد الشريعة تتطلب تجاوز الفهم الحرفي للنصوص، نحو قراءة فلسفية تنطلق من غاية التشريع لا من شكله، فالمقاصد الكبرى للشريعة تهدف إلى تحقيق مصلحة الإنسان وصون كرامته وحريته، ولا يمكن أن يتحقق ذلك في دولة يحتكر فيها الحاكم السلطة باسم الدين، ولا في نظام يهمش المرجعية الأخلاقية باسم الحرية، لذلك فإن الفقه الدستوري الإسلامي مدعو إلى إعادة بناء مفهوم السيادة باعتباره مبدأً أخلاقياً يوازن بين سلطان النص وسلطان العقل الجمعي، ويجعل من الدولة أداة لخدمة الإنسان لا لاحتكاره أو استعباده.
ومن الأمثلة التاريخية التي يمكن أن تُستحضر في هذا السياق، ما وقع في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أوقف تطبيق حد السرقة عام الرمادة، لأن مقصود الشريعة في حفظ النفس والمصلحة العامة كان أولى من تطبيق النص في ظرف المجاعة، هذا الموقف يجسد فلسفة السيادة المقاصدية، إذ لم يكن عمر يتجاوز النص بل يفعّله في ضوء علّته وغايته، وكذلك في عهد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، حين أكد أن البيعة عقد رضائي لا إكراه فيه، وأن الناس هم الذين يختارون الإمام، فهذان المثالان يبرزان أن السيادة في الإسلام لم تكن سلطة فوقية بل مسؤولية جماعية قائمة على المصلحة والعدل.
وفي الفكر الفلسفي الحديث، يمكن قراءة مفهوم السيادة المقاصدية باعتباره نوعاً من “العقلانية الأخلاقية” التي تقيم توازناً بين الحرية والنظام، بين القيم الدينية والمجتمعية، فالسيادة في هذا التصور ليست تملكاً بل تكليف، وليست سلطة مغلقة بل أمانة مفتوحة للنقاش والاجتهاد، وهذا يقترب من تصور الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس حين تحدث عن “الشرعية التواصلية” التي تقوم على الحوار المجتمعي المستمر لتوليد المعايير، وهو ما يمكن أن نجد له نظيراً في فكرة الشورى الإسلامية التي تجعل الأمة طرفاً فاعلاً في صياغة قراراتها ومؤسساتها.
وضمن هذا الإطار، يمكن القول إن السيادة في ضوء مقاصد الشريعة تصبح مشروعاً إنسانياً جماعياً يحقق معنى الاستخلاف، فالله سبحانه وتعالى جعل الإنسان خليفة في الأرض لا ليستبد بالسلطة، بل ليعمرها بالعدل والإحسان، والسيادة بهذا المعنى ليست امتيازاً بل مسؤولية تستمد مشروعيتها من تحقيق المقاصد، لا من الشعارات ولا من الأيديولوجيات، لذلك، فكل نظام سياسي أو دستوري في العالم الإسلامي ينبغي أن يُقاس بمدى تحقيقه لتلك المقاصد، لا بمجرد مدى التزامه بالنصوص الشكلية أو الادعاء بالمرجعية الدينية.
ومن هنا تظهر أهمية الفقه الدستوري الإسلامي في عصرنا، ليس كبديل عن الدساتير الوضعية فحسب، بل كإطار فلسفي لتصحيح علاقة الإنسان بالسلطة، فالمجتمعات الإسلامية اليوم تعاني من أزمات سياسية وفكرية تتمثل في غياب العدالة والمشاركة وضعف الوعي الدستوري، وهذه الأزمات لا يمكن تجاوزها إلا من خلال بناء وعي جديد يجعل السيادة مقيدة بالمقاصد لا بالأهواء، ويعيد إلى المجتمع ثقته في أن القيم الدينية يمكن أن تكون أساسًا لحرية حقيقية لا لقيد جديد.
بالإضافة إلى ذلك، إن التوعية المجتمعية بهذا التصور المقاصدي للسيادة أمر حاسم في نهضة الأمة، فحين يفهم الناس أن الشريعة الإسلامية جاءت لتحررهم لا لتستعبدهم، وأن السيادة لله تعني سيادة القيم لا الأفراد، فإنهم يصبحون شركاء حقيقيين في إدارة الدولة وصون كرامتها، وإن الخطر الأكبر الذي يواجه المجتمعات المسلمة ليس في غياب النصوص بل في غياب الفهم المقاصدي الذي يربط النص بالواقع، ولذلك ينبغي على المفكرين والفقهاء أن يوجهوا خطابهم نحو ترسيخ ثقافة السيادة الأخلاقية، التي تجعل من كل فرد مسؤولاً عن المصلحة العامة، وتربط الحرية بالواجب والحق بالعدل.
ومن الناحية القانونية، أرى أن إعادة تعريف السيادة في ضوء مقاصد الشريعة هو المدخل الأنجع لتطوير النظم الدستورية في الدول الإسلامية، فالسيادة في المفهوم التقليدي للدولة الحديثة أدت إلى تغول السلطة التنفيذية وتهميش الأمة، بينما السيادة المقاصدية تجعل الأمة مصدر الشرعية، لكنها تلزمها بضوابط أخلاقية تمنع الاستبداد الجماعي، هذا التصور يمكن ترجمته في النصوص الدستورية عبر تأكيد أن الشريعة مصدر للقيم والمبادئ العامة، وأن التشريع لا يكون مشروعاً إلا إذا التزم بروح المقاصد، مع فتح باب الاجتهاد التشريعي أمام المؤسسات المنتخبة، كما يمكن أن ينعكس ذلك على القضاء الدستوري الذي يُناط به تفسير النصوص وفق مقاصد الشريعة لا وفق تفسير جامد أو موروث تاريخي، وبذلك يتحول النظام الدستوري من مجرد وثيقة قانونية إلى منظومة قيمية متكاملة.
وإن هذا الاتجاه لا يعني تديين الدولة ولا علمنة الشريعة، بل إقامة توازن عقلاني بين المرجعية الإلهية والسيادة الشعبية، بما يحقق المقصد الأسمى: كرامة الإنسان، فالدولة التي تستلهم مقاصد الشريعة لا تُقصي أحداً، ولا تحتكر الحقيقة، بل تبني شرعيتها على خدمة الناس وحماية مصالحهم، وفي زمن العولمة، حين تتقاطع السيادات وتضعف الحدود، يصبح هذا التصور أكثر وضوحاً، لأنه يعيد السيادة إلى معناها الأخلاقي الإنساني قبل أن تكون مجرد سلطة سياسية.
بالتالي إن تبني هذا الفهم في الخطاب العام يسهم في توعية المجتمع بأن الشريعة ليست خصماً للديمقراطية، بل يمكن أن تكون ضابطها القيمي، فالمقاصد الكبرى للشريعة هي ذاتها التي تنادي بها الدساتير الحديثة: الحرية، العدالة، المساواة، وصيانة الكرامة، الفرق أن الشريعة تمنحها أساساً روحياً وأخلاقياً يمنع انحرافها نحو العبثية أو المادية المطلقة، ومن ثم، فإن نشر الوعي الفقهي المقاصدي هو مهمة فكرية وثقافية لا تخص الفقهاء وحدهم، بل تشمل المربين والإعلاميين والمثقفين، حتى تصبح ثقافة السيادة المقاصدية جزءاً من وعي الأمة بذاتها وهويتها.
وخلاصة القول، إن السيادة في الفقه الدستوري الإسلامي ليست مسألة سلطة بل مسألة غاية، وليست صراعاً بين الحاكم والمحكوم بل عقداً أخلاقياً بين الإنسان وربه، ويمكن القول إن إعادة تعريفها في ضوء مقاصد الشريعة يفتح أفقاً فلسفياً جديداً لفهم الدولة الحديثة بوصفها مؤسسة لتحقيق الخير العام لا مجرد جهاز للسيطرة، وحين تستعيد الأمة هذا الوعي، فإنها لن تبحث عن الشرعية في الخارج، بل في ضميرها القيمي المستمد من الوحي والعقل معاً، فهكذا فقط يمكن أن تُبنى دولة العدل، حيث تكون السيادة للحق، والسلطة للأمة، والمقاصد ميزاناً لكل حكم وتشريع.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان
مستشار قانوني – الكويت.

