يواجه الفضاء الرَّقمي في نسخته العربيَّة تحوُّلات خطيرة، كنتاج لتراكمات فكريَّة وسياسيَّة ودينيَّة باتتْ تمسُّ جوهر الفكر والأخلاق والهُوِيَّة، إذ أصبحت منصَّات التواصل الاجتماعي ميدانًا لصراعٍ حاد ونزال مستميت تتقاطع فيه الأيديولوجيَّات والسياسات، وتواجه فيه القِيَم والثوابت موجات من التَّنَمُّر والتحريض والكراهية. ولعلَّ المشهد الَّذي نتناوله في مقالنا باتَ يعكس حجم المآسي الَّتي ارتبطت بظاهرة التَّنَمُّر الفكري وتداعياتها السلبيَّة على سلامة العقيدة والمبدأ ومنظور الوحدة العربيَّة والإسلاميَّة، حيثُ ينطلق من حدثين رئيسين هما كالآتي:
الحدث الأول تمثَّل في تصريح معالي السَّيد بدر بن حمد البوسعيدي الموقَّر وزير خارجيَّة سلطنة عُمان خلال مؤتمر حوار المنامة بمملكة البحرين، حين أشار في معرض كلمة سلطنة عُمان في المؤتمر بوضوح إلى أنَّ «إسرائيل ـ وليس إيران ـ هي المصدر الرئيس لغياب الأمن في المنطقة من خلال أعمالها العدوانيَّة وسياساتها التصعيديَّة».. هذا التصريح الَّذي أبداه معاليه في خِطاب موسَّع له والمبني على قراءة واقعيَّة لخريطة التوتُّرات الإقليميَّة، أثار حفيظة الكيانات المتصهينة الَّتي اعتادت أن تُحرِّف الكلمة وتُهاجم الحقيقة. أمَّا الحدث الثاني فتمثَّل في تهنئة سماحة الشيخ العلامة أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام لسلطنة عُمان لفوز المسلم «زهران ممداني» بمنصب عمدة نيويورك في الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة، حيثُ جاء في خِطاب سماحته «.. وإذ نتطلع إلى عهد جديد يزدهر فيه الإسلام في الغرب، وتستجيب له جماهير الأُمم؛ فإنَّنا نوصي أخانا زهران ممداني أن يحرص على إبداء الوجه المشرق للإسلام، والعاقبة للتقوى».
هاتان الواقعتان أظهرتا بكُلِّ وضوح الوجه الآخر للتَّنَمُّر السياسي والدِّيني في الفضاء الرَّقمي في نسخته العربيَّة، إذ انطلقت فيه منصَّات التجييش الإلكترونيَّة تهاجم وتستخف وتستميت في الردِّ بأُسلوب يعكس حالة من النقص والانهزاميَّة لدى أولئك الَّذين فقدوا ضمائرهم الإنسانيَّة وأخلاقهم الدِّينيَّة؛ فإنَّ المتأمل في مشهد الهجوم الإلكتروني الَّذي وجِّه لهذيْنِ الموقفيْنِ يدرك حجم الحقد والكراهيَّة الَّتي يحملها المتصهينون والانبطاحيون لكلمة الحقِّ، وصلابة الموقف ونزاهة الهدف، ولكُلِّ رمز مخلِص يسعى إلى السلام والوحدة. حتَّى تحوَّل بعض أبناء الأُمَّة في تفاهة ردودهم وسقوط أقنعتهم المزيَّفة إلى أدوات بأيدي أعدائها، يهاجمون دِينهم ويشتمون رموز الأُمَّة ومناصري قضاياها بأبشع الألفاظ، وأقذر الوصف، في استباحة للأعراض وكذب وتدليس على الخصوصيَّة. وممَّا يؤسف له أن تظهر هذه الممارسات الهجوميَّة والسلوكيَّات الشائنة مِمَّن يظهرون في عباءة الدّعاة والإفتاء، ومِمَّن يتصدرون صفحات الإعلام وشاشات الفضائيَّات وغيرهم من الكتَّاب والصحفيين وأساتذة الجامعات. والأغرب في الأمر أن يتمَّ ذلك على مرأى ومسمع من مؤسَّسات الإعلام والتعليم والسياسة والدِّين، دون ردعٍ أو موقفٍ حازم يضع حدًّا لهذا السقوط الأخلاقي الَّذي يُهدِّد تماسك الأُمَّة ووحدتها.
لقد تحوَّلت المنصَّات الاجتماعيَّة الَّتي يُفترض أن تكُونَ فضاءً كونيًّا للحوار وتبادل الخبرات وبناء المشتركات الإنسانيَّة، إلى ساحات للفوضى الفكريَّة والابتذال القِيَمي. فمع أنَّ الأصل في هذه المنصَّات وغيرها أنَّها فرصة يحلِّق من خلالها الإنسان العربي، بل والوعي العربي والإسلامي في فضاءات مفتوحة لتقوية مساحات التواصل والتعاون والتكامل، وفَهْم أعمق لأحداث العالم والمنطقة على بصيرة من الأمر ونهج من الرشاد، والتفكير في مشتركات أوسع في مواجهة التحدِّيات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والإنسانيَّة والوقوف على المعطيات، وإنتاج الحلول، وتوفير البدائل المبتكرة للكثير من الأحداث الَّتي تهمُّ شعوب الأُمَّة وشبابها، إلَّا أنَّها وجِّهت ـ ومع الأسف الشديد ـ في غير أهدافها، وضاعت في غير مساراتها، وتخلَّت عن التزاماتها، حتَّى أصبحت عبئًا يُهدِّد الإنسان ودِينه وأخلاقه ووطنه بما تسبَّبه سُوء استخدامها في نشر الإشاعات وتزييف الوعي، وأسهم غياب الضوابط في المنصَّات الاجتماعيَّة في تأجيج ظاهرة «التَّنَمُّر السياسي والدِّيني» لِيتغذَّى على ثقافة الكذب والافتراء والتجييش. واستباحة القِيَم الأخلاقيَّة والدِّينيَّة تحت مبرِّر حُريَّة الرأي والرأي الآخر، لتتحول بعض المواقع والحسابات الإخباريَّة إلى منصَّات للابتزاز والتحريض وإثارة النّعرات المذهبيَّة.
وعكست ردود أفعال هؤلاء المتصهينين ـ كأصدَق تعبير لوصفهم ـ على هذيْنِ الحدثيْنِ أزمة وعي وانحدار في منظومة القِيَم؛ إذ بدلًا من أن تتحول إلى دعم هذه المواقف باعتبارها فرصة لتأكيد مبادئ الوحدة والتسامح، استُخدمت كذريعة لتصفية الحسابات والتقوُّل على المذاهب والنُّهج السياسيَّة؛ لِتمارسَ المنصَّات الرَّقميَّة دَوْرها «حرب بالوكالة» توجَّه ضدَّ الدِّين والأخلاق والتعايش، حتَّى فقدَتْ هذه الفضاءات بوصلة الحوار، وتحوَّلت إلى مساحة مفتوحة للصراع والنزال يقودها دعاة التطرف والتحريض، مستغلِّين هشاشة الوعي لدى بعض الشباب لتغذيتهم بأفكار عدوانيَّة، تزرع الشَّك في قِيَمهم وأخلاقهم، وأدَّت بِدَوْرها منصَّة «X» تحديدًا دَوْرًا خطيرًا في تضخيم هذه الظواهر، حيثُ أصبحت فضاءات للشتائم والمزايدات والمغالطات، فبدلًا من أن تكُونَ مساحة للحوار المسؤول، تحوَّلت إلى ساحة للتنابز بالألقاب، وتشويه السمعة في انحراف أخلاقي يفتقر للأدب والحكمة.
إنَّ حجم السقوط الفكري والأخلاقي الَّذي تعكسه هذه المنصَّات يبرز غياب ثقافة الحوار البنَّاء وتراجع الوعي السياسي لدى المواطن العربي، وغياب المنهجيَّة والتحليل المتوازن، إذ أصبحت ردوده مبنيَّة على الولاءات العاطفيَّة والانفعالات الآنيَّة، ولم يَعُدْ في أغلب الأحيان نقاشًا هادئًا هادفًا يُعزِّز تبادلًا للأفكار وحضور البَيّنَة، بل تحوَّل إلى صراخ وهمْز ولمْز وسِباب، تُمارس فيها كُلُّ أنواع التشويه والإقصاء، لِيجدَ التجييش الإلكتروني المنظَّم والحسابات الوهميَّة في هذه المنصَّات فرصتها للتأثير على النسيج الاجتماعي للمُجتمعات مستهدفًة فئة الشباب الَّذين يُشكِّلون الطاقة المستقبليَّة للأُمَّة، ما يخلق فجوة فكريَّة وأخلاقيَّة خطيرة تضع التعليم ومؤسَّسات الإعلام والأُسرة والمسجد أمام مسؤوليَّة تطوير أدواته ومراجعة مناهجه وضبط برامجه وأنشطته وإعادة بناء سياسات نوعيَّة وواقعيَّة في طريقة تدريس القِيَم وتوفير برامج محاكاة فعليَّة لها، وتعزيز ثقافة الحوار والاختلاف الراقي في بيئة التعليم والتعلم وتمكين الشباب من أدوات التفكير النقدي والنقاش المسؤول، فمن خلال جودة التعليم والتدريب وبناء المهارات والقدرات، وإنتاج القدوات والنماذج يُمكِن بناء جيل يدرك قِيمة الكلمة ويعرف حدود النقد وأدب الحوار، جيل يوازن بَيْنَ الحُريَّة والمسؤوليَّة، ويستشعر أنَّ الكلمة أمانة ومسؤوليَّة.
عليه، فإنَّ ما يجري في الفضاء الرَّقمي في نسخته العربيَّة يستدعي وقفة صادقة لإصلاح المسار، فالتَّنَمُّر السياسي والدِّيني ليس مجرَّد انفعالٍ وقتي وحالة مزاجيَّة اندفاعيَّة يقوم بها أشخاص غير واقعيين أو لا يحملون المعرفة والعلم والمنهج، بل منهم العلماء والمفكرون وصنَّاع القرار وطلبة العِلم..إلخ، وهو مؤشر على أزمة قِيَم وهُوِيَّة تعصف بمستقبل الأُمَّة إن لم يتمَّ تداركها، ولم يَعُدِ التَّنَمُّر مجرَّد حالة خاصَّة في العالم الافتراضي، بل أصبح تهديدًا واقعيًّا لقِيَم المُجتمعات وهُوِيَّتها الدِّينيَّة والإنسانيَّة. فإنَّ ارتفاع حالة التَّنَمُّر في المنصَّات الاجتماعيَّة قد يكُونُ جزء منها مرتبطًا إلى حدٍّ كبير بأحداث «طوفان الأقصى»، وما كشفته «غزَّة الفاضحة» من زيف الأقنعة، ما يضع قادة الأُمَّة وعلماءها ومفكِّريها أمام مسؤوليَّة تاريخيَّة لإيجاد آليَّات ضبطيَّة فاعلة تُعيد للفضاء الرَّقمي العربي توازنه الأخلاقي والإنساني، وأصبح من الأهميَّة بمكان بناء ميثاق أخلاقي عربي للمنصَّات الرَّقميَّة، يقوم على تأصيل قِيَم العدل والحقِّ والمساواة، ويضمن احترام الخصوصيَّات الدِّينيَّة والثقافيَّة للشعوب. كما يستدعي بناء أُطر تشريعيَّة واضحة واستراتيجيَّات عربيَّة مشتركة لإعادة الاعتبار للمشترك الإنساني الَّذي يجمع أبناء الأُمَّة.
إنَّ نهج أبناء عُمان ومواقفهم الحكيمة ومبادئهم السامية وأخلاقهم الرفيعة وسام شرف وفخر لكُلِّ الشرفاء في العالم، يتسامون فوق صيحات الخلاف، ويعلون فوق دنايا الانبطاح وعار التصهين، والإنسان العُماني بشخصيَّته المتزنة في أفكارها وحواراتها ونقاشاتها وتحليلاتها وفي نصرته لمبادئ الأُمَّة وقضاياها المصيريَّة، وقراءتهم لأحداث المنطقة نماذج مضيئة للسلام والحوار والتنمية، لِتظلَّ أخلاقيَّات أبناء عُمان خيوطًا ممتدَّة وموردًا ثريًّا يصنع لهم قوَّة في اتصالهم وعلاقتهم مع العالم الخارجي، فعمروا الأرض بتواضعهم وعفوهم وصفحهم وإحسانهم، وهي نهضة عُمان المتجدِّدة الَّتي انطلقت من هذا النهج المتزن، والمتسامح، والمتعاطف مع شعوب الأرض جميعها، المُحبِّ للسلام والمؤصِّل لحُسن الجوار، فبهذه الأخلاق العالية انتفض العُمانيون، حتَّى بنوا للإنسانيَّة مَجدًا عظيمًا وحضارة عريقة، وأصبح لهم في قلوب الإنسانيَّة شأن وموقع ومكانة.
د. رجب بن علي العويسي

