تُشير إحصائيَّات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أنَّ إجمالي الزيارات لعيادات الأمراض النفسيَّة في مؤسَّسات وزارة الصحَّة لعام 2024 بلغت (106.890) ألف زيارة، مقارنة بــ(76.265) ألف زيارة في عام 2020، وقد جاءت ثلاث محافظات في مقدمة الأعلى زيارة: شمال الباطنة (29,890)، مسقط (23,485)، ظفار (14,859). كما تبَيِّن الإحصائيَّات أنَّ ما نسبته (52.2%) من الحالات الجديدة للأمراض النفسيَّة هم في الفئة العمريَّة (19-59) سنة؛ أي من طلبة الجامعات ومؤسَّسات التعليم العالي، منهم (58.2%) ذكور في عام 2024م. وأنَّ (32%) من الحالات الجديدة للأمراض النَّفْسيَّة هُمْ في الفئة العمريَّة (0-18) سنة من طلبة المدارس، مِنْهم (21%) ذكور.
وتطالعنا المنصَّات الاجتماعيَّة مؤخرًا بنتائج دراسة نفذتها جامعة السُّلطان قابوس، أشارت إلى أنَّ أكثر من ثلث طلبة الجامعة بَيْنَ 1 سبتمبر و20 نوفمبر 2023 عانوا من أعراض الاكتئاب، خصوصًا الإناث. ورغم عدم الاطلاع التفصيلي على منهجيَّة الدراسة وأدواتها وعيّنتها، ومدى اكتمالها وقدرتها على تشخيص الحالة النفسيَّة بدقة، إلَّا أنَّ مقارنتها بتلك الإحصائيَّات تعطي مؤشرًا تراكميًّا على أنَّ المُشْكلة النفسيَّة حاضرة أيضًا لدى طلبة التعليم العالي. وهذا يعكس أنَّ النظام التعليمي ـ المدرسي والعالي ـ لا يزال يفتقر إلى الأدوات القادرة على تشخيص السلوك والمتغيرات النفسيَّة الَّتي يواجهها الطلبة أو حمايتهم من الهواجس والضغوط والصدمات.
ومع الإقرار بأنَّ التعليم ليس السبب الوحيد في تنامي ظاهرة الأمراض النفسيَّة في مُجتمع الطلبة، إلَّا أنَّ العوامل الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والصحيَّة والفكريَّة والوالديَّة والبيئيَّة، إضافة إلى الخطاب المؤسَّسي والاجتماعي، وضعف فرص الترفيه وتراجع الثقة الذاتيَّة والقلق من المستقبل، كُلّها مؤثرات تسهم في تفاقم الحالة النفسيَّة للطلبة.
وحتَّى لا نتشعب في الأمر فإنَّ حديثنا سيقتصر على البُعد التعليمي بالدرجة الأولى والعوامل التعليميَّة الداخليَّة والخارجيَّة الَّتي أسهمت في نُمو الأمراض النفسيَّة أو الحد منها، وذلك على النَّحْوِ الآتي:
أولًا: الجانب التعليمي بوصفه عاملًا مؤثرًا في الحالة النفسيَّة للطلبة
لم تَعُدِ الأمراض النفسيَّة بَيْنَ الطلبة حالة طارئة، بل نتاج تراكمات تمسُّ جوهر التعليم والممارسة التعليميَّة. وتتعدد المسببات بَيْنَ ما يرتبط بالطلبة أنفسهم، والنظام التعليمي، والمعلِّمين، والأكاديميين، وبيئة العمل، والفرص المتاحة، وتكافؤ الفرص، وأساليب التدريس، والاختبارات، والأنشطة، والاستقلاليَّة، والأنظمة والقوانين. وتتعلق أيضًا باستشراف المستقبل ومسارات التخصص وفرص العمل.
وأصبحت قدرة المدارس والجامعات على خلق جاهزيَّة نفسيَّة للطلبة مرهونة بتطوير أدوات تشخيص السلوك النفسي وتوفير مقاييس للرصد والتحليل وقراءة الشخصيَّة وتقليل الاضطرابات والقلق. ويتطلب ذلك خطابًا تعليميًّا مؤثرًا وممكنات مهاريَّة ونفسيَّة وقياديَّة يمتلكها المعلِّمون والأكاديميون، بحيثُ يأخذ البُعد النفسي مكانه في طرائق التدريس وفلسفة التعليم.
يدخل الطالب المدرسة أو الجامعة فيجد بيئة بشريَّة تتواصل بلغة مؤثرة، تدير الانفعالات، وتستوعب الاحتياجات النفسيَّة المتغيرة، وتمنح كُلَّ طالب نصيبه من الرعاية والاهتمام. هذه البيئة تعزز الإرادة والقدرة على التكيُّف، وتقلل من الانسحاب والمواجهة غير الضروريَّة، وتبدّد الأوهام السلبيَّة، وتخفِّض القلق. الأمر الَّذي من شأنه أن يقوي من روح الإرادة والتحمل والتقبل للواقع والتعايش معه ويقلِّل من حالة الانسحاب والمواجهة، وإزالة كافة الأوهام والتكهنات السلبيَّة الَّتي يتلقاها الطالب من أقرانه وأصدقائه وأُسرته بِدُونِ إدراك لعواقبها وضررها، وبما يسهم في خفض درجة القلق النفسي لدَيْه.
ثانيًا: ضعف التشخيص النفسي في المؤسَّسات التعليميَّة
الصورة النمطيَّة غير المتزنة الَّتي يقدِّمها التعليم اليوم تؤكد أنَّ تشخيص المرض النفسي يمثِّل التحدِّي الأكبر. ويُشبه ذلك قصور المؤسَّسات الصحيَّة أحيانًا في التشخيص والوضوح. فالمؤسَّسات التعليميَّة ـ شأنها شأن الصحيَّة ـ لا تمتلك أدوات دقيقة لقياس السلوك التعليمي أو مدى نجاحه من عدمه، أو معرفة رأي الطلبة فيه. بل ترتبط العمليَّة التعليميَّة بالقرارات والأوامر، فيما يُترك الطالب في موقع المنفذ لا المشارك، فمسألة صناعة الشخصيَّة والمساهمة في اتخاذ القرار، وتقرير ما يريد أن يتعلمه الطالب وما يبدع فيه أو يقترب من ميوله فهذا أمر لا دخل للطلبة فيه فمثلًا: المناهج تُفرض على الطلبة، والأنشطة الصفيَّة غالبًا تكليفات تزيد العبء، لا أدوات للتفكير والإبداع أو بناء شخصيَّة قياديَّة. كما يغيب التنوع في المسارات التعليميَّة، وحق الطالب في اختيار ما يتناسب مع قدراته وميوله واحتياجاته. ولم تستطع المدارس والجامعات تلبية هذا التنوع بما يُحقق العدالة التعليميَّة، الأمر الَّذي أسهم في خلق فجوة بَيْنَ أحلام الطلبة وواقع التعليم.
ثالثًا: الانعزاليَّة وتأثير العالم الافتراضي
أصبح الطالب اليوم أكثر انعزالًا، وأقل مشاركة في الأنشطة والفعاليَّات واللجان والبرامج، فمعظم وقته يقضيه في عالم شخصي مغلق عَبْرَ الهاتف النقال، منعزل متقوقع على نفسه، فالطالب لا يريد أن يخرج من الدائرة المصغرة والضيقة الَّتي يعيشها ـ وبشكلٍ خاص طلبة التعليم الجامعي والعالي ـ ولم تَعُد المكتبة أو الحوار أو التفاعل الاجتماعي جزءًا من يومه. ومن هنا يُطرح السؤال: كيف يُمكِن للتعليم إخراج الطلبة من التقوقع في الذَّات إلى الواقع الاجتماعي؟ كيف نُعيد بناء العلاقات مع الأُسرة والجيران والمُجتمع والمسجد والأرحام؟ إنَّ توفير بيئات وأنشطة وحياة مدرسيَّة وجامعيَّة جاذبة أصبح ضرورة لتأهيل الطلبة نفسيًّا واجتماعيًّاـ وتوفير كُلِّ الممكنات الَّتي يستطيع من خلالها الخروج من عالمه الذَّاتي المغلق إلى عالم آخر يتعايش فيه مع أقرانه وأُسرته وزملائه بشكلٍ صحِّي متوازن.
رابعًا: دَوْر الأسرة وتأثير نمط التربية (هشاشة التنشئة ودلال التربية والحساسيَّة المفرطة)
أدَّت الأُسرة دَوْرًا كبيرًا ـ عن قصد أو غير قصد ـ في ترسيخ الاتكاليَّة. فالتكاليف والضغوط الماليَّة الكبيرة، والمبالغ الَّتي تتكلفها بعض الأُسر في تلبية رغبات الأبناء، والمنافسة الاجتماعيَّة، أدَّت إلى خلق شخصيَّة اتكاليَّة ترى أنَّ الخدمة حق مكتسب، أصَّلت في الطلبة ثقافة الاعتماد على الآخرين، فتوفر الاحتياجات الكاملة، وأُسلوب تقديم الخدمة للطالب وطريقة تعامله معها وكأنَّها استحقاق واجب له يقدِّمه له أبواه حتَّى مع بلوغه سنِّ الرشد ودخوله الحرم الجامعي، صنعت شخصًا اتكاليًّا لا يعتمد على نفسه وينتظر مَن يخدمه، وقد تجاوز الأمر ذلك إلى أنَّ وليّ الأمر أصبح يدافع عن الطالب ويقف موقف المدافع السلبي حتَّى مع المساءلة القانونيَّة في الأخطاء الَّتي يرتكبها، ما أضعف قدرته على تحمل المسؤوليَّة، وجعله عاجزًا عن مواجهة المواقف دون تدخل الأهل. هذا النمط أنتج طالبًا غير قادر على التخطيط للمستقبل، ضعيف المهارات، قليل المشاركة في الأنشطة، فاقدًا لمبادرات ما بعد الدوام، لا يملك بصمة أو حضورًا اجتماعيًّا أو تطوعيًّا، وهو ما أسهم بِدَوْره في زيادة القلق والاكتئاب.
خامسًا: المسار المهني والرغبات غير الواقعيَّة
الخيارات المتاحة المحدودة في التخصُّصات، والمسار القسري الَّذي يفرض على كثير من الطلبة وبخاصة طلبة المدارس، والتوقعات غير الواقعيَّة الَّتي تتأثر بالمنصَّات الاجتماعيَّة وموضة الشهرة والمروِّجين والصورة الأخرى الورديَّة الَّتي تكونت لدى (طلبة الجامعات) حَوْلَ حياة هؤلاء في حصولهم على المال بِدُونِ جهد وتعب أو مذاكرة وبذل الجهد فهو يحصل على حياة يوميَّة هانئة وهادئة بِدُونِ الحاجة إلى تعليم، جعلت الطالب يعيش فجوة بَيْنَ الحلم والواقع. فهو يرى مَن يتصدرون المشاهد يحصلون على المال بلا جهد، ويرى في المقابل أفواج الخريجين، باحثين عن عمل بلا وظائف، فيشعر بالإحباط والخوف من مستقبل مبهم، ما يزيد من الاضطرابات النفسيَّة.
أخيرًا، تقع على مؤسَّسات التعليم مسؤوليَّة تبنِّي أُطر واضحة لتعزيز الكفاية النفسيَّة (الاحتواء والارتواء، وبناء الصحَّة النفسيَّة) وتقنين السلوك التعليمي وتحويله إلى قِيمة مضافة. ويتحقق ذلك عَبْرَ تكثيف التوعية المنتجة، وربط الأنظمة واللوائح بجودة الحياة المدرسيَّة والجامعيَّة، وتجسيد المواد الواردة في قانوني التعليم المدرسي والتعليم العالي ذات العلاقة بالبُعد النفْسي في بناء استراتيجيَّات عمل يوميَّة تجسِّد القِيمة المضافة للسلوك النفْسي ترفع من تأثيراته في حياة الطلبة، وبالتَّالي بناء شعور إيجابي لدى الطالب عن تجربته وظروف تعلّمه، وتهيئته للسيناريوهات المتغيرة، وتمكينه من امتلاك حصانة ذاتيَّة تتعامل مع الضغوط والانفعالات والتراكمات النفسيَّة الَّتي قد تحصل في مُجتمع الطلبة وفْقَ أدوات واضحة وخطَّة عمل محكمة، وتعزيز هذه الحصانة ضد الصدمات النفسيَّة والمعكرات اليوميَّة والمزاجيَّة للحياة وقدرته على المواجهة، وأدَّى ضعف الحصانة النفسيَّة لدى الطلبة إلى انسحابهم السريع من المواجهة، واعتمادهم على الأصدقاء في المنصَّات بدلًا من البحث عن حلول واقعيَّة. ما أصَّل فيه ضعف التفكير الجدّي في أدوات وبدائل أخرى يستعين بها على مواجهة التحدِّي، وانعدام الثقة، وضعف التجربة، وغياب القدرة على اتخاذ القرار.
د. رجب بن علي العويسي

