في عالم تتسارع فيه الابتكارات التكنولوجية بوتيرة غير مسبوقة، أصبح الذكاء الاصطناعي من أبرز العوامل المؤثرة في حياة الأفراد والدول على حد سواء، إذ لم يعد هذا المجال مجرد أداة مساعدة، بل تحول إلى نظام قادر على اتخاذ قرارات معقدة، تحليل بيانات ضخمة، والتأثير على سلوك الأفراد عبر خوارزميات دقيقة.
ومع هذا التطور، تبرز تساؤلات قانونية وأخلاقية حول مسؤولية الدولة والمواطن، وحماية الحقوق الفردية، خصوصية البيانات، والتحديات المتعلقة بالعدالة والمساواة، فحين يتم توظيف أنظمة الذكاء الاصطناعي في الأمن، القضاء، أو حتى الخدمات العامة، يظهر خطر الانتهاكات القانونية، سواء من قبل الجهات الحكومية أو الشركات الخاصة، ما يستدعي وضع إطار قانوني واضح يوازن بين الابتكار وحماية الحقوق الأساسية للمواطنين.
كما تعتبر العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والقانون الجنائي من أكثر القضايا تعقيدًا، إذ يمكن للأنظمة الذكية التنبؤ بسلوكيات الأفراد واتخاذ إجراءات قد تصل إلى فرض عقوبات قبل ارتكاب أي مخالفة فعلية، مما يثير جدلاً قانونيًا حول مفهوم النية الإجرامية وحق الفرد في الخصوصية، ففي بعض الدول على سبيل المثال لا الحصر، تم استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات المستخدمين على الإنترنت، بما في ذلك البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي، لتحديد الأفراد المشتبه فيهم، أو تصنيفهم ضمن فئات خطر دون محاكمة عادلة، هذا الاستخدام يتعارض مع المبادئ الأساسية للقانون الجنائي القائم على إثبات الفعل الإجرامي ووجود النية، وليس التنبؤ بها بناءً على بيانات رقمية، ما يستدعي تشريعات متخصصة تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي في السياقات الجنائية وتضع حدودًا واضحة للمراقبة والتنبؤ بالسلوك.
ومن ناحية أخرى، يظهر الذكاء الاصطناعي في الإدارة العامة والخدمات الحكومية، حيث يمكن للأنظمة التحكم في وصول المواطنين إلى الموارد الأساسية، مثل الرعاية الصحية أو الدعم الاجتماعي، اعتمادًا على تحليل البيانات الشخصية. هذه الأنظمة، إذا لم تكن شفافة أو محدودة قانونيًا، قد تؤدي إلى تمييز غير مقصود ضد فئات معينة من المواطنين، وهو انتهاك مباشر لمبادئ المساواة وعدم التمييز المكفولة دستورياً، إضافة إلى ذلك، غياب الشفافية في عمل الذكاء الاصطناعي يجعل من الصعب على الجهات الرقابية أو الأفراد فهم كيفية اتخاذ القرار، ما يضع القانون أمام تحدي مزدوج: حماية الحقوق الأساسية مع الاستفادة من قدرات هذه التكنولوجيا.
من هنا، إن الذكاء الاصطناعي يلعب الذكاء دوراً متزايد الأهمية في إنفاذ القانون والأمن الوطني، إذ تُستخدم أنظمة التعرف على الوجه، وتحليل البيانات الضخمة، والتنبؤ بالمخاطر في مراقبة النشاطات غير القانونية أو حتى النشاطات السياسية والاجتماعية. هنا، تبرز ضرورة وضع ضوابط قانونية صارمة لضمان عدم استغلال هذه الأنظمة في القمع السياسي أو التضييق على الحريات العامة، بحيث يكون هناك فصل واضح بين الاستخدام الأمني لمكافحة الجريمة والاستخدام الذي يهدف إلى السيطرة على التعبير السياسي أو قمع المعارضة، وبدون هذه الضوابط، يتحول الذكاء الاصطناعي إلى أداة للقهر بدلاً من أداة للحماية، ما يخلق بيئة قانونية غامضة تؤدي إلى انتهاكات جسيمة للحقوق المدنية والسياسية.
أما على الصعيد المدني، تبرز تحديات كبيرة فيما يتعلق بمسؤولية الأطراف عن الأضرار الناتجة عن أخطاء الذكاء الاصطناعي. فإذا ارتكب نظام خطأ أدى إلى ضرر لشخص ما، مثل رفض معالجة طلب طبي أو إعطاء توصية مالية خاطئة، يثار سؤال من يتحمل المسؤولية: هل المطور، المشغل، أم المصمم الفردي للنظام؟ هذه التساؤلات تتطلب إطاراً قانونياً واضحاً يحدد المسؤوليات ويضمن تعويض الضحايا بشكل عادل، مع الأخذ في الاعتبار طبيعة التعلم الآلي وصعوبة التنبؤ بالأخطاء.
بالتالي إن الخصوصية وحماية البيانات تشكل محوراً آخر في التحديات القانونية، فالذكاء الاصطناعي يعتمد على تحليل كميات هائلة من البيانات الشخصية التي غالبًا ما تشمل معلومات حساسة مثل الموقع الجغرافي، السلوكيات اليومية، والسجلات الصحية. من دون حماية قانونية فعالة، تصبح هذه البيانات عرضة للاستغلال من قبل الحكومات أو الشركات، سواء لأغراض تجارية أو أمنية، ما يؤدي إلى انتهاك حقوق الإنسان الأساسية، لذلك، يجب أن يتضمن الإطار القانوني آليات صارمة للتحكم في جمع البيانات، وتخزينها، واستخدامها، بما يضمن حق الأفراد في الخصوصية، ويضع عقوبات رادعة على المخالفين.
ومن منظور تشريعي، ثمة حاجة لتبني قوانين متقدمة على غرار القانون الأوروبي لحماية البيانات، مع تعديلها لتتناسب مع خصوصية الأفراد والأمن السيبراني، وفرض قيود على أنظمة الذكاء الاصطناعي في المجالات الحساسة، ويجب أن يشمل القانون إلزامية تقييم المخاطر قبل نشر أي نظام ذكاء اصطناعي، وإجراء مراجعات دورية لضمان عدم حدوث تحيزات أو انتهاكات، إضافة إلى إنشاء هيئات مستقلة لمراقبة تطبيق هذه القوانين.
كما أظهرت التجارب العملية في بعض الدول أن الاستخدام غير المنظم للذكاء الاصطناعي في المراقبة يمكن أن يؤدي إلى نتائج كارثية. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، كشف إدوارد سنودن عن نظام PRISM الذي مكن وكالة الأمن القومي من الوصول إلى بيانات المستخدمين في شركات كبرى مثل Google وMicrosoft وFacebook بدون إذن قضائي مسبق، ما أثار نقاشات واسعة حول التوازن بين الأمن والخصوصية، استجابة لذلك، تم تعديل التشريعات، وفرض قيود على جمع البيانات، وأصبح الحصول على معلومات حساسة يتطلب موافقة قضائية، بالمقابل، في حالات أخرى، عندما تفتقر الرقابة القانونية الفعالة، قد يستخدم الذكاء الاصطناعي للتجسس على المواطنين أو التضييق على المعارضة، ما يبرز أهمية وضع ضوابط قانونية واضحة وشفافة.
وفي السياق المحلي، نجد أن استخدام أنظمة المراقبة الرقمية يشمل مراقبة النشاط على الإنترنت، التواصل عبر الهواتف، وحتى التعرف على الوجه في الأماكن العامة، وقد أثبتت بعض التجارب القضائية أن الاعتماد على هذه الأنظمة في التحقيقات يمكن أن يكون مفيدًا لكشف الجرائم، مثل قضايا الفساد أو المخالفات الإدارية، ولكنه غالباً لا يخلو من أخطاء، ويعرض المواطنين للمراقبة المفرطة. فمثلاً، يمكن للجهات القضائية أو الأمنية استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات التوظيف أو حركة الأفراد، وتحديد الفئات الأكثر نشاطاً سياسياً أو اجتماعياً، ما يطرح تساؤلات حول مدى التزام هذه الأنظمة بالقانون وحقوق الإنسان.
من هنا، يتضح أن التحديات القانونية للذكاء الاصطناعي متعددة الأبعاد، ولا تقتصر على مجال واحد، بل تمتد لتشمل القانون الجنائي، المدني، الإداري، وحقوق الإنسان. التعامل مع هذه التحديات يستلزم مقاربة شاملة تجمع بين التشريع، الرقابة، الشفافية، والمساءلة، لضمان أن تظل التكنولوجيا أداة للتقدم لا أداة للضرر، يعتمد نجاح هذا الإطار القانوني على وعي المجتمع، التزام الجهات التشريعية، وتعاون الخبراء التقنيين مع القانونيين لوضع قواعد واضحة توازن بين الابتكار وحماية الحقوق الأساسية.
في نهاية هذا المقال، إن الذكاء الاصطناعي يمثل ثورة قانونية وتكنولوجية في آن واحد، ويجب أن يتم تنظيمه بطريقة تحمي حقوق الأفراد، وتضع ضوابط واضحة للاستخدام الأمني والمدني، وتفرض مسؤوليات محددة على جميع الأطراف المعنية، لضمان عدم إساءة استخدام هذه القوة التكنولوجية في المستقبل، ولحماية المجتمعات من الانتهاكات المحتملة التي قد تترتب على القرارات الآلية غير الخاضعة للمساءلة، إن المستقبل القانوني للذكاء الاصطناعي يعتمد على إدراك الدولة والمجتمع لطبيعة هذه التحديات، وتهيئة بيئة قانونية عادلة، شفافة، ومسؤولة.
عبد العزيز بدر عبدالله القطان
مستشار قانوني – الكويت
