إن الحديث عن الأحوال الشخصية في السياق العربي والإسلامي ليس مجرد بحث في قواعد قانونية تنظم الروابط الأسرية، بل هو نقاش عميق يلامس جذور النظام الاجتماعي ويعيد طرح الأسئلة الكبرى المتعلقة بمصادر التشريع، وحدود الاجتهاد، وإمكانية المواءمة بين الثوابت الشرعية ومتغيرات الواقع. ولأن الأحوال الشخصية تشكل الركن الأكثر التصاقاً بالحياة اليومية للناس، فقد كان من الطبيعي أن تتداخل فيها المرجعية الدينية مع احتياجات المجتمع، وأن تتنوع فيها اجتهادات المذاهب، وأن تتباين فيها القوانين الوضعية من دولة إلى أخرى، رغم اشتراكها جميعاً في الانتماء إلى الفقه الإسلامي.
وبهذا يصبح التأصيل القانوني والشرعي لمسائل الأحوال الشخصية ضرورة، ليس فقط لفهم النصوص، بل لفهم العلاقة بين النص والواقع، ولإدراك مدى صلاحية تلك الأحكام لكل زمان ومكان، أو حاجتها إلى تحديث منضبط بما يحقق مقاصد الشريعة ويحفظ استقرار المجتمع.
كما أن الشريعة الإسلامية في أصلها وضعت قواعد عامة تحفظ الأسرة وتضبط العلاقات بين أفرادها، من زواج وطلاق ونسب وميراث وولاية ونفقة وغيرها، وكان الهدف المركزي هو حماية الكيان الاجتماعي وضمان العدالة، فالقرآن الكريم وضع أصولاً جامعة، قال تبارك وتعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً” (الروم 21)، وهذه الآية تعكس فلسفة التشريع الأسري في الإسلام الذي لا يقوم على مجرد التعاقد القانوني، بل على السكن والمودة والرحمة، وعندما تناول القرآن الكريم مسائل الخلاف والنزاع، وضع قواعد تحفظ الحقوق وتمنع التعسف، كما في قوله تبارك وتعالى: “فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ” (البقرة 229)، وهو مبدأ قانوني بالغ الأهمية، لأن مناط الأحوال الشخصية في التشريع الإسلامي يقوم على تحقيق المعروف ونبذ الضرر، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: “لا ضرر ولا ضرار”. ومع ذلك فقد ترك القرآن الكريم مساحة واسعة للاجتهاد، لأن التفاصيل الدقيقة لا يمكن أن تُقنن في نص واحد، فكان دور الفقهاء عبر التاريخ أن يضعوا أحكاماً تفصيلية استنبطوها من مقاصد الشريعة وأصولها، فظهر المذهب الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي والجعفري وغيرها، ولكل منها اجتهادات مختلفة في مسائل كالطلاق بالثلاث، والخلع، والوصية الواجبة، والإرث بين الجد والإخوة، وثبوت النسب بالطرق العلمية الحديثة، والنفقة، والحضانة، وسن الزواج، وغيرها.
ومع تطور المجتمعات العربية والإسلامية، وجدت السلطات التشريعية نفسها أمام ضرورة تحويل تلك الاجتهادات الفقهية إلى قوانين مكتوبة تراعى فيها متطلبات العصر، ومن هنا بدأ التقنين، فظهرت قوانين للأحوال الشخصية في مصر، ثم في سوريا والأردن والكويت والبحرين وتونس والمغرب وغيرها، ورغم أن معظمها اعتمد على الفقه الإسلامي، إلا أنها أخذت من كل مذهب ما رأت أنه أنسب لحاجات المجتمع، وهنا تتجلى الطبيعة الاجتهادية للقانون العربي، فقانون الأحوال الشخصية الكويتي على سبيل المثال استفاد من الفقه الحنفي في مسائل عديدة، لكنه أخذ بآراء مالكية وشافعية في مسائل الحضانة والولاية والوصية، مما يعكس مرونة الشريعة الإسلامية وقدرتها على استيعاب التعدد، غير أن هذه المرونة في التطبيق ليست دائماً محل اتفاق، إذ يرى بعض المفكرين أن الأخذ من مذاهب متعددة دون إطار مقاصدي قد يؤدي إلى اضطراب مفاهيمي، بينما يرى آخرون أن هذا التعدد ضرورة لإيجاد حلول تتناسب مع واقع متغير.
ويبرز هنا سؤال أساسي: هل أحكام الأحوال الشخصية ثابتة أم قابلة للتعديل؟
الإجابة هي أن النظر في النصوص الشرعية يظهر أن الثوابت محدودة، وأن القطعيات في هذا الباب قليلة، بينما المتغيرات كثيرة، فالقرآن الكريم حسم مسائل الإرث بنصوص قطعية، وحسم عدة المطلقة، وحدد بعض مبادئ الزواج، لكنه لم يحدد سناً للزواج، ولم يحصر طرق الإثبات، ولم يضع نظاماً محدداً للحضانة، ولم يفصل في شروط الطلاق أو تفاصيل الولاية، بل ترك ذلك للاجتهاد. ولأن الاجتهاد يتغير بتغير الزمان والمكان، كانت القاعدة الأصولية المشهورة: “لا يُنكر تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان”، وهذا ما اعتمد عليه الفقهاء الكبار، ومنهم ابن القيم الذي رأى أن الأحكام المبنية على العادة تتغير بتغيرها، وهنا يلتقي الفكر الإسلامي الحديث مع قواعد القانون الوضعي في فكرة مرونة التشريع، فالقانون الوضعي يرى أن الأحوال الشخصية يجب أن تخضع للتطور الاجتماعي، وأن القانون يعيش زمنه وليس زمناً سابقاً، وهذا الطرح يتشابك مع آراء مفكرين عرب معاصرين كابن عاشور ومحمد عبده وعلال الفاسي ومحمد عمارة، مع حفظ الألقاب، الذين أكدوا أن مقاصد الشريعة تتجدد وأن النصوص الجزئية ينبغي أن تُفهم بأفق زمني واسع، وليس بقراءة جامدة.
ومن أبرز المسائل التي تكشف هذا التداخل مسألة سن الزواج، ففي الفقه القديم لم يكن هناك سن محددة، لأن البيئة الاجتماعية كانت مختلفة، أما اليوم، فقد وضعت معظم القوانين العربية سناً لا يقل عن 18 عاماً، مراعاة لمصلحة الفتاة ولعدم استغلال القاصرين، وهو ما فعله قانون الأحوال الشخصية الكويتي الذي منع توثيق الزواج لمن هم دون السن القانونية إلا في حالات نادرة وتحت إشراف قضائي، هذا التغيير لا يعارض الشريعة لأن النص لم يحدد سناً محدداً، بل ترك الأمر لولي الأمر، وقد استدل بعض الفقهاء بعموم قوله تبارك وتعالى: “وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ” (النساء 6)، معتبرين أن بلوغ النكاح ليس مجرد البلوغ الجسدي، بل القدرة على تحمل المسؤولية، مما يفتح الباب لاجتهاد تشريعي واسع، وهنا تظهر قدرة الشريعة على مراعاة مصلحة الإنسان، وهي قيمة تتفق مع الفكر القانوني الوضعي الذي يضع حماية القاصر في مقدمة أولوياته.
أما مسألة الحضانة، فهي أيضاً نموذج للاجتهاد المتغير، فالمذاهب الإسلامية اختلفت اختلافاً واسعاً، فمنهم من يقدم الأم مطلقاً، ومنهم من يقدم الأب، ومنهم من يجعل مصلحة الطفل هي الحاكمة، وفي العصر الحديث، أخذت معظم القوانين بمبدأ “مصلحة المحضون”، وهو مفهوم قانوني وجد أصله في الفقه الإسلامي وإن لم يكن مصوغاً بهذه العبارة، وهذا ما يظهر كذلك في قانون الأحوال الشخصية الكويتي الذي قدم الأم ثم الأم من جهة الأم ثم الأب، لكنه أعطى القاضي سلطة تغير الترتيب إذا اقتضت مصلحة الطفل، وهذا التوجه قريب من الفكر القانوني الغربي، خصوصاً المدارس الاجتماعية في القانون التي تعطي الأولوية لحقوق الطفل واستقراره النفسي، ومن هنا يتبين أن التشريع الإسلامي ليس معزولاً عن الروح الإنسانية العامة، بل يشترك مع الفقه الإنساني في غايات كبرى، وإن اختلفت المناهج.
ومسألة الطلاق بدورها تكشف عن إشكال أوسع، فالفقه الإسلامي منح للرجل حق الطلاق باعتباره مسؤولاً عن الأسرة، لكنه ضبطه بضوابط شرعية منها منع التعسف، وإيقاع الطلاق في الطهر الذي لم يمس فيه الزوج، واعتبار الطلاق الثلاث في جلسة واحدة طلقة واحدة عند كثير من الفقهاء، وهو قول أخذت به قوانين عربية كثيرة، ومنها الكويت، ومع ذلك، يرى بعض المفكرين العرب أن الطلاق ينبغي أن يكون بيد القضاء لتقليل حالات التعسف، وهو ما طرحه الإمام محمد عبده في تفسيره وبعض تلامذته، مستندين إلى مقاصد الشريعة الإسلامية في منع الضرر، وإلى قوله تبارك وتعالى: “وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا” (النساء 35)، معتبرين أن التفريق لا يكون تلقائياً، بل بعد إجراءات تحكيم، هذا الرأي يقترب من الفكر الغربي الذي يجعل الطلاق عقداً قانونياً لا يتم إلا أمام المحكمة، لكنه لا يعكس بالضرورة مخالفة للشريعة، لأن الشريعة نفسها لم تمنع تدخل القضاء، بل إن القضاء في تاريخ المسلمين تدخل في التفريق للضرر والخلع وفسخ النكاح.
وهنا تظهر مقارنة مهمة بين الفكر الإسلامي والغربي في الأحوال الشخصية، فبينما يقوم التشريع الغربي على العقد المدني المحض، يقوم التشريع الإسلامي على عقد له طبيعة دينية وروحية وقانونية في وقت واحد، ويقوم على مبدأ المسؤولية لا المساواة المطلقة، وهذا الاختلاف أثار جدلاً طويلاً بين مفكرين عرب وإسلاميين؛ فالمفكرين الغربيين يرون أن الأسرة رابطة قانونية قابلة للتعديل مثل أي عقد آخر، بينما يؤكد المفكرون المسلمون أن الأسرة ليست عقداً مادياً بل مؤسسة تقوم على قيم، وبالرغم من هذا الاختلاف، إلا أن الفكرين يلتقيان في ضرورة حماية الحقوق وتوفير ضمانات عادلة للزوجين والأطفال، وهنا تبرز أهمية التجديد المقاصدي الذي طرحه الطاهر بن عاشور، الذي اعتبر أن العبرة ليست بالنصوص الجزئية بل بالمقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية، ومنها حفظ الأسرة والنسل والعقل والمال والكرامة، وهذا الفكر يفتح الباب أمام تطوير القوانين بما يناسب العصر دون أن يمس الثوابت.
وقد أولى مفكرون عرب معاصرون كعبد المتعال الصعيدي ومحمد عمارة وعلال الفاسي عناية خاصة بهذا الموضوع، مؤكدين أن الشريعة الإسلامية ليست جامدة، وأن الاجتهاد واجب، وأن الفقه يجب أن يعاد بناؤه بما يتوافق مع المقاصد، وفي المقابل، يرى بعض المفكرين الغربيين كدوركايم أن الأسرة تتغير وفق التطور الاجتماعي، وأن القانون يجب أن يواكب هذا التطور دون اعتبار ديني، غير أن الواقع العربي يبين أن تجاهل المرجعية الشرعية يؤدي إلى اضطراب اجتماعي وفكري، لأن المجتمع يستمد منظومته القيمية من الإسلام. وبالتالي، فإن الإصلاح القانوني يجب أن يكون داخل الإطار الإسلامي، وليس بالاستنساخ من التجربة الغربية.
ومسألة الثبوت العلمي للنسب مثال آخر على التفاعل بين الشريعة والعلم، فقد كان إثبات النسب قديماً يعتمد على الفراش والإقرار والشهادة، بينما اليوم أصبح التحليل الجيني دقيقاً وقادراً على الحسم، وقد اختلف الفقهاء المعاصرون: فبعضهم يراه وسيلة معتبرة لإثبات النسب، بينما يرفض آخرون اعتباره وسيلة لنفي النسب مراعاة لمقاصد الشرع في الستر، ومع ذلك أخذت العديد من القوانين العربية، ومنها قانون الأحوال الشخصية الكويتي، بالتحليل الجيني في إثبات النسب في حالات محددة، مما يعكس قدرة الفقه على استيعاب التطور العلمي، وهذا التطور يتوافق مع مقاصد القرآن الكريم في تحقيق العدل ورفع الحرج، لقوله تبارك وتعالى: “يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ” (البقرة 185)، وقوله: “مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ” (الحج 78).
ومن القضايا المثارة كذلك حقوق المرأة، فقد منحتها الشريعة الإسلامية مكانة مهمة في الزواج والطلاق والميراث، لكن التطبيق الاجتماعي والفقهي في بعض المراحل لم يكن منسجماً مع مبادئ العدالة، ومع بداية التقنين الحديث، ظهر اتجاه يعيد تنظيم دور المرأة داخل الأسرة بما يحترم النصوص الشرعية دون تجاوزها، وعلى سبيل المثال، أتاحت بعض القوانين العربية للمرأة حق اشتراط عدم التعدد، وأقرت حق الخلع، ووسعت من حالات التطليق للضرر، وهو ما انسجم مع رأي جمهور الفقهاء، غير أن الفكر الغربي اتجه إلى مساواة مطلقة في كل شيء، وهو طرح لا تقبله الشريعة لأنها تقوم على توزيع الأدوار والمسؤوليات، وهنا يظهر فارق فلسفي جوهري، لكنه لا يمنع من الاستفادة من التجربة الغربية في تعزيز ضمانات العدالة، دون المساس بأساسيات النظام الأسري الإسلامي.
وعند النظر إلى السؤال الجوهري: هل تصلح أحكام الأحوال الشخصية لكل زمان ومكان؟ نجد أن الإجابة مركبة، فالثوابت القرآنية صالحة لكل زمان، مثل أركان الزواج والمواريث وبعض الأحكام القطعية، لأنها جاءت لحماية مقاصد إنسانية ثابتة، أما ما كان من قبيل المتغيرات كالحضانة وسن الزواج والإجراءات القضائية والولاية وشروط العقد وآليات الطلاق، فهي قابلة للتعديل وفقاً لمصلحة المجتمع بشرط عدم مخالفة النصوص القطعية، وهذا ما أكد عليه عدد من الفقهاء والمصلحين، معتبرين أن التقنين الإسلامي ليس نصاً مقدساً بل هو اجتهاد بشري قابل للمراجعة، وهذا يتوافق مع القاعدة الشرعية: “حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله”، بشرط أن تكون المصلحة حقيقية لا وهمية، ومن هنا يمكن القول إن تحديث قوانين الأحوال الشخصية ضرورة تفرضها تطورات المجتمع، لكن هذا التحديث يجب أن يكون من داخل الشريعة الإسلامية نفسها، لا من خارجها، وأن يعتمد على مقاصد الشرع لا على ضغوط ثقافية أو سياسية.
وفي ضوء ذلك، يظهر أن العلاقة بين الشريعة والقانون في مجال الأحوال الشخصية ليست علاقة صراع، بل علاقة تكامل، فالشريعة تقدم القيم والأصول والمبادئ، والقانون يقدم الآليات والإجراءات التي تحقق تلك القيم، والاجتهاد هو الوسيط الذي يسمح بالتوفيق بين الثابت والمتغير، ومن هنا فإن تطوير قوانين الأحوال الشخصية في العالم العربي يجب ألا يُفهم على أنه خروج عن الشريعة، بل هو تفعيل لمرونتها، وتطبيق لمقاصدها في ظل واقع مختلف عن القرون الماضية، ولعل التجارب الحديثة في بعض الدول العربية التي مزجت بين التراث الفقهي والمفاهيم القانونية الحديثة تمثل نموذجًا يمكن البناء عليه، خصوصًا تلك التي اعتمدت مقاربة مقاصدية منضبطة.
وفي النهاية، فإن البحث في الأحوال الشخصية يكشف عن حقيقة أساسية، وهي أن الشريعة الإسلامية بما تحمل من قيم إنسانية سامية قادرة على مواكبة كل زمان، وأن القانون الوضعي حين يستند إلى تلك القيم يحقق العدالة والاستقرار، وبين الثبات والتجديد مساحة واسعة من الاجتهاد الذي يستطيع أن يعيد التوازن للأسرة العربية والإسلامية، وأن يقدم نموذجاً راقياً في تنظيم العلاقات الأسرية، بعيداً عن التقليد الأعمى للغرب أو الجمود على اجتهاد فقهي قديم، ويبقى الهدف الأسمى هو إقامة نظام أسري يحفظ الحقوق، ويراعي الكرامة الإنسانية، ويحقق المودة والرحمة التي أرادها الله، فهي الأساس الذي لا يتغير مهما تغيرت الأزمنة.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان
مستشار قانوني – الكويت.
