تنطلق قراءتنا للموضوع أعلاه من فرضيَّة أنَّ تعزيز كفاءة الأداء المؤسَّسي وصناعة القرار الاستراتيجي في المؤسَّسات بحاجة إلى مركز وطني متخصص لبناء الاستراتيجيَّات وإنتاج الفكر الاستراتيجي المتكامل في مختلف جوانب التَّنمية الوطنيَّة، وأنَّ ما يحصل اليوم من بعض الإخفاقات في مسألة القرار المؤسَّسي الَّذي قد لا يشخِّص الواقع ولا يصنع الأثر أو تبعاته القادمة؛ إنَّما هو نتاج لغياب هذا النَّوع من الفكر الاستراتيجي لصناعة العقل المؤسَّسي أو بالأحرى غياب الموجِّهات الدَّاعمة للمؤسَّسات في هذا الشَّأن، ولذلك تتَّجه المسألة إلى الاجتهاديَّة والعمل الفردي لتظهر النتائج غير مرضية في أحايين كثيرة.
في دول العالم المتقدم والسَّاعي للتطوير والتَّجديد يلحظ اهتمامًا كبيرًا بالبحث العلمي والدِّراسات الاستراتيجيَّة التَّشخيصيَّة والتَّطويريَّة والتَّتبعيَّة والتَّأصيليَّة وغيرها، هذا الاهتمام ناتج عن قناعة أكيدة بأهميَّة البحث العلمي في بناء المُجتمع وتطوره، وقناعة أكيدة بِدَوْر الدِّراسات الاستراتيجيَّة في مجالات الحياة المختلفة في رسم سياسات التَّطوير وتوجُّهات التَّنمية وتوجيه مسار العمل المؤسَّسي، بل وأهميَّة ذلك في صناعة القرار الاستراتيجي، هذا الاهتمام بِدَوْر مراكز الفكر الاستراتيجي والدِّراسات الاستراتيجيَّة كان له أثره الإيجابي في منظومة العمل الوطني، ويُسهم بشكلٍ كبير في رفد التَّنمية وبرامجها بكُلِّ الأحداث والبيانات والإحصاءات والحقائق والممارسات والأفكار والتَّفاعلات التَّي تحصل في ميدان العمل الوطني بكُلِّ تجلِّياته وتفاعلاته وبمختلف مستوياته، ممَّا كان له أثره الواضح أيضًا في بناء روح وطنيَّة في العمل المؤسَّسي، وقوَّة في القرار الاستراتيجي، واتفاق على كُلِّ التَّوجهات التَّي تسعى القيادة السياسيَّة في تلك الدول على بنائها، هذا الموضوع ـ بلا شك ـ يُعنينا نحن في سلطنة عُمان بشكلٍ كبير، ولدَيْنا فرص متاحة يُمكِن أن نستغلَّها في تحقيق هذا الحلم أو هذه الأفكار.
إنَّ أُولى هذه الفرص هي الإرادة السَّامية لمولانا حضرة صاحب الجلالة السُّلطان المُعظَّم واهتمام جلالته بالبحث العلمي والفكر الاستراتيجي في إطار تحقيق مستهدفات رؤية عُمان 2040، ولدَيْنا قناعة على مختلف مستويات العمل الوطني بأنَّ البحث العلمي هو أساس نجاح العمل الوطني، وأنَّ الدِّراسات الاستراتيجيَّة بمختلف أنواعها ومستوياتها وفصولها تُشكِّل في رؤية القيادة العُمانيَّة الحكيمة رصيد الوطن في بناء منجزاته والمحافظة على حقائق الإنجاز التَّي تحققت، والتَّي يُمكِن أن تُشكِّلَ فرصة نبني عليها ونعززها بقوَّة الدَّعم (دعم القرار، ودعم المال، ودعم الكفاءات) في سبيل صناعة العقل الاستراتيجي الوطني وتعظيم القِيمة المضافة للفكر الخلَّاق والخبرات والتَّجارب الاستراتيجيَّة بالمؤسَّسة، وأفضل الممارسات الرَّائدة النَّاتجة عن تفاعل الخبرات والتَّجارب والتَّوجُّهات والنَّماذج العمليَّة والقِيَميَّة التَّي تتكونُ منها ذاكرة المؤسَّسة، وتُشكِّل رصيدًا فكريًّا وعمليًّا يرسم مسارات وخطوط الإنتاج فيها، بحيثُ تمتلك المؤسَّسات خلالها مسارات استراتيجيَّة في إدارة طبيعة الظروف والمستجدات الحاصلة في عملها، وضبط العمليَّات الداخليَّة التَّخطيطيَّة والتَّنظيميَّة والتَّقييميَّة ومنظومة الموارد البشريَّة بما يعزِّز من جودة الأداء وتنويع الخيارات وبدائل المعالجة، وترقية مستوى الشَّراكات لِتصبحَ أكثر إنتاجيَّة، وتعزيز التَّكامل وتجسير فجوة السِّياسات والممارسات، وتوفير نماذج أداء وممارسات عمل نوعيَّة متوازنة، قادرة على ربط منجز المؤسَّسة بطموحات المستهدفين، وتوظيف عمليَّات التَّشخيص والمتابعة والتَّحليل والمقارنات، في رصد أفضل الممارسات الرَّائدة النَّاتجة عن تفاعل الخبرات والتَّجارب والنَّماذج العمليَّة والقِيَميَّة التَّي تتكونُ منها ذاكرة المؤسَّسة، وتحويل الابتكاريَّة في الممارسة وأدوات العمل وآليَّاته إلى استراتيجيَّات مستديمة تظهر في قوَّة المنافسة والكفاءة الأدائيَّة الداخليَّة والخارجيَّة في الكادر البشري وثقافة إدارة المؤسَّسة وصناعة القرار فيها، وتوظيف الخبرات المؤسَّسيَّة والممارسات المجيدة، في بناء اتِّجاهات إيجابيَّة ترقى بأنماط العمل، وتُسهم في تعزيز الكفاءة في المهام الإداريَّة، وتفعيل إدارة نُظُم المعلومات والمؤشِّرات من خلال تحليل نتائج الإحصاءات والبيانات وتيسيرها، وتعظيم القِيَمة الاستثماريَّة لها في المؤسَّسة.
هذا الطُّموح يضع المؤسَّسات أمام تحوُّل جديد في طبيعة الممارسة وطريقة أداء الخدمة ومنهجيَّة التَّعامل مع التَّوقعات المتجدِّدة، وهو المدخل الَّذي يُمكِن لمنظومة الجهاز الإداري للدَّولة ومؤسَّسات المُجتمع الأهلي الفاعلة والمؤسَّسات الخاصَّة ومؤسَّسات التَّعليم والجامعات، أن تعمل على استدراكه في ظلِّ بيئة مؤسَّسيَّة محفِّزة وهياكل تنظيميَّة مَرِنة، ومنظومة قرارات استراتيجيَّة منتِجة، بما يُقدِّم لها فرص قراءة التَّطوير من زوايا مختلفة، وآليَّات تتفاعل مع الواقع وترتبط به وتتماشى مع قواعده، فتقلِّل من مسألة الاجتهاد وتباعد الأهداف وتضارب التَّوجُّهات، فإنَّ التَّحدي المالي مثلًا الَّذي تواجهه منظومة العمل الوطني يجعل منه محطَّة نهوض لصناعة البدائل والابتكاريَّة فيها واستثمار الفرص، وإيجاد مداخل استثماريَّة تبدأ من تعزيز دَوْر الرأسمال الاجتماعي والمعرفي البشري في إدارة برامج التَّطوير وتفعيل فرص البحث في مواردها، وإدارة ذاتيَّة لخبراتها وتجاربها وجوانب التَّميز في أدائها، وما يرتبط بذلك من فرص التَّقارب والشَّراكة والتَّناغم في الوصول للغايات الوطنيَّة العليا، وتكامل محتوى الخِطاب المؤسَّسي في توظيف البيئات الرَّقميَّة والتَّقنيَّة والإعلام والموارد والتَّقدير المُجتمعي بشكلٍ يَضْمن تحقيق معادلة التَّوازن بَيْنَ مسارات التَّسويق للمنجز المؤسَّسي والمهنيَّة في طريقة تقديم عمليَّاته ونواتجه للمستفيدين واستيعابهم لهذه الإجراءات وتفاعلهم معه.
إنَّ أهميَّة إيجاد إطار وطني يؤسِّس لبناء مركز وطني متخصِّص للفكر الاستراتيجي الدَّاعم، للمؤسَّسات في عملها، سواء كان على مستوى المؤسَّسات أو على المستوى الوطني (مظلَّة مؤسَّسيَّة عليا لصناعة العقل الاستراتيجي تحتوي هذه الجهود وتقرؤها وتُعِيد إنتاجها بطريقة استثنائيَّة عَبْرَ جهد علمي متخصص ودقيق يدخل في العُمق المؤسَّسي ويُقيم ما بَيْنَ السطور ويستشرف نواتجه في توجُّهاتها القادمة) تحظى بالاستقلاليَّة والصلاحيَّات وقوَّة التَّشريعات الدَّاعمة لعملها، أحد الحلول الممكنة التَّي تَضْمن إدارة مسارات التَّطوير وبناءها وفْقَ محكَّات واضحة وأدوات مقنَّنة وآليَّات محكمة ونهج عالمي، وهو الطَّريق لوضع العقل الاستراتيجي (القِيمة النَّوعيَّة لمتلازمة الخبرة والتَّجربة والمهارة والقدوات والنماذج) بمؤسَّسات الدَّولة المختلفة في موقعه الفاعل في هياكل المؤسَّسة وتقسيماتها التَّنظيميَّة وقربه من القرار المؤسَّسي، وبالتَّالي تكوين قاعدة بيانات بالخبرات والتَّجارب والممارسات النوعيَّة بالمؤسَّسات والاستثمار فيها والتَّحليل النَّوعي لها، بما يقدِّم للمؤسَّسة فرصًا أكبر لقراءة التَّطوير من زوايا مختلفة. فإنَّ نجاح هذا الدَوْر منوط بحجم الصلاحيَّات والثقل والدَّعم والمساندة التَّي يحظى بها المركز، ومدى القناعة بما يقوم به في سبيل تحقيق أهدافه. هذا ـ بلا شك ـ يأخذ في الحسبان جوانب أخرى كوجود خطَّة عمل، بل ومستوى أو نوعيَّة وطبيعة القضايا والموضوعات التَّي يدرسها ومدى أولويَّتها في استراتيجيَّة الحكومة بشكلٍ عام وتحقيق برامج التَّنمية الوطنيَّة، ومستوى الشموليَّة والعُمق والتَّحليل والتَّرابط والاستشراف المستقبلي فيما ينتج عن المركز من دراسات وبحوث تتسم بالرصانة والدقَّة والجودة والفاعليَّة، ونوعيَّة الكفاءات والخبرات والقدرات التَّي تتوافر بالمركز ومستويات الدَّعم والمساندة والحوافز المقدَّمة لها، وتعزيز كفاءة القِطاع الخاصِّ في معالجة التَّحدِّيات المرتبطة بالتَّسريح والتَّشغيل واستدامة الوظائف ووظائف المستقبل، ومعطيات التَّحوُّل المؤسَّسي والتَّحوُّل الرَّقمي والذَّكاء الاصطناعي وصناعة الفرص وتحليل احتياجات السُّوق الوطني.
أخيرًا، فإنَّ قدرة مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة على ضمان حضور العقل الاستراتيجي في الفعل والقرار المؤسَّسي، والشعور المشترك بأهميَّة التَّكامل في التَّوجُّهات وأنماط العمل الاحترافيَّة، يستدعي الاستمرار في خطِّ سَير المراجعة للسياسات والبرامج، وإعادة النَّظر في تقسيمات المؤسَّسات ودمج بعضها وتقييم نشاط الآخر وإعادة صياغة بعض المهام والاختصاصات بشكلٍ يحدِّد موطن القوَّة وجوانب الخلل، رغم أنَّ ما تحقَّق من إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدَّولة قد يكُونُ حقَّق بعض هذا المسار إلَّا أنَّ ما هو موجود أيضًا ما زال بحاجة إلى مراجعة وتصحيح للمسار، ولكن أن يتمَّ هذه المرَّة وفْقَ مسار آخر قائم على البحث الاستراتيجي والقرار الاستراتيجي المشخّص للحالة والَّذي يحدِّد بوصلة العمل ومسار التَّوجُّه ويعطي صورة واقعيَّة عمليَّة منجزة حالمة تفاعليَّة تستشرف المستقبل في معالجة إشكاليَّة التَّرهل وتداخل الاختصاصات وازدواجيَّة المهام، مسار جديد يقوده الفكر الاستراتيجي عَبْرَ مؤسَّسة وطنيَّة متخصِّصة للدِّراسات الاستراتيجيَّة وصناعة القرار لدَيْها الصلاحيَّات والاستقلاليَّة الإداريَّة والماليَّة وقوَّة القرار صناعته واتِّخاذه، بحيثُ تُعِيد النَّظر في الممارسات التَّي تتجافى مع متطلبات العقل الاستراتيجي الوطني لتظلَّ خلاله المؤسَّسات في عمليَّة تطوير دائم، ومثار نقاش مستمر لإنجازاتها، وطريقة تعاملها مع توقُّعات المواطن وطموحاته ووفائها بمبادراتها.
د. رجب بن علي العويسي

