يطرح مرتكز رؤية «عُمان 2040» نَحْوَ (مُجتمع إنسانه مبدع معتز بهُوِيَّته، مبتكر ومنافس عالميًّا، ينعم بحياة كريمة ورفاه) مواصفات نوعيَّة لمواطن عُمان المستقبل، الَّذي يقع على عاتقه تنفيذ أولويَّات الرؤية وبلوغ مستهدفاتها، وضمان امتلاكه المهارات والقدرات والاستعدادات والقِيَم والثوابت الَّتي تُمكِّنه من قيادة الرؤية نَحْوَ برِّ الأمان. وفي المقابل، يتعين أن يتَّجه محتوى الرؤية بكُلِّ تفاصيله وأجندته إلى المواطن، عَبْرَ توفير احتياجاته وتحقيق الرفاه والعيش الكريم له؛ ممَّا يعني الحدَّ من المشتِّتات الفكريَّة والظواهر السلبيَّة الَّتي قد تؤثِّر في نضج الفكر التنموي للمواطن، وفي مستوى المهنيَّة والاحترافيَّة في قراءته لأبعاد التنمية الوطنيَّة والتَّوَجُّهات المُتجدِّدة الَّتي حملتها رؤية «عُمان 2040». فالصورة الذهنيَّة الَّتي يُسقطها المواطن على مجريات العمل الوطني والتَّوَجُّهات الحكوميَّة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والإداريَّة تحتاج إلى مواطن يمتلك رصيدًا من الدوافع والمحفِّزات، وثروة من التفاؤل والإيجابيَّة؛ باعتبارهما معادلة القوَّة في بلوغ الأهداف وتحقيق المستهدفات.
إنَّ إيجابيَّة المواطن تُمثِّل مساحة من التوازن بَيْنَ واقعه وطموحاته، وهي ناتجة عن تناغم عدد من العوامل الشخصيَّة والاجتماعيَّة والمؤسَّسيَّة والوطنيَّة، الَّتي تنعكس على بنائه الفكري، فتؤصل فيه دافعيَّة العطاء والالتزام، وتبني في داخله صدق التَّوَجُّه وحسَّ الوطن، وتُعزِّز فيه فرص التغيير. وبذلك يصبح مساندًا للتنمية، متفاعلًا معها، قادرًا على التكيُّف مع ظروفها، مستوعبًا لأنماط التجديد والتطور فيها، مقتنعًا بأهميَّة التفكير الجمعي مع القِطاعات والمؤسَّسات، في تَبنِّي أُطُر واستراتيجيَّات عمل داعمة قادرة على صناعة الفارق في مجالات التشغيل والتوظيف وإعادة هندسة الوظائف والتطوير وبناء القدرات وترسيخ القِيَم، والمحافظة على المنجز وحُسن استغلال الثروات، والالتزام بالقانون، والإخلاص في أداء المهام، واستشعار الحسِّ الوطني في كُلِّ مواقف العمل والمسؤوليَّة.
وعليه، فإنَّ حضور هذه الصورة النموذج لدى مواطن التنمية سيجعل منها محطَّة لإعادة إنتاج الواقع برؤية أكثر واقعيَّة واستشرافيَّة وطموحًا، بحيثُ تتماهى قناعاته مع مستهدفات الرؤية، الَّتي تتجسَّد في مساحات التغيير في عاداته وممارساته ومنطلقات تفكيره وطريقة تعبيره، ممَّا يتطلب منه عُمقًا في التفكير، وسُموًّا في الفكرة، ونُموًّا في المهارة، وابتكاريَّة في الأدوات والآليَّات، وتنوعًا في أساليب العمل، وفَهْمًا أعمق لمتطلبات الدَّوْر واحترام المسؤوليَّات. كما يتطلب الأمر تكامل الجهود المؤسَّسيَّة وتقاسم المسؤوليَّات، وتوافر أنظمة عمل مؤسَّسيَّة ورقميَّة أكثر انسيابيَّة ومرونة، قادرة على تعميق نمط التفاعل المشترك مع المواطن، وإتاحة الفرص له للاستفادة من مقدراتها ومواردها، واستيعاب أنماط التجديد وعمليَّات التغيير، والاقتناع بأهميَّة البحث عن أُطُر واستراتيجيَّات خلَّاقة قادرة على الصمود أمام التحدِّيات والعقبات، وعندها تصبح التنمية الوطنيَّة لدَيْه مسار حياة ومنهج عمل والتزامًا أخلاقيًّا وأمانة وطنيَّة ووسيلة لبناء مُجتمعه وتطوير ممارساته.
وإذا كانت الإيجابيَّة منظومة من القناعات والأفكار المتفائلة الَّتي يحملها المواطن نَحْوَ نفسه والآخر، وتدفعه نَحْوَ التغيير الإيجابي والتفاعل مع الواقع بروح العطاء والحُب والإخلاص، فإنَّ بناءها وترسيخها في حياة المواطن يرتبط بجملة من الموجِّهات الَّتي تسعى إلى تعزيز هذه الصورة وتقوية رصيدها. ومع التأكيد على أهميَّة الوعي والثقافة الشخصيَّة للمواطن بوصفهما مدخلات أساسيَّة في قراءة التغيير وقَبوله، فإنَّهما مرحلة متقدِّمة في متلازمة الشعور الإيجابي والتمكين الذَّاتي والقناعة الداخليَّة، الَّتي تضع المواطن أمام مسؤوليَّة القيام بِدَوْر أكثر فاعليَّة في محيطه الاجتماعي والوطني، وتحويل مسؤوليَّاته وواجباته وطموحاته إلى برنامج عمل وطني وإنساني، يمارسه في ظل التزام مهني وتوافق نفْسي وفكري مع كُلِّ المعطيات والمتغيِّرات الَّتي تُشكِّل واقعه الاجتماعي. وعندما يجد الوعي والثقافة المتزنة موقعهما في سلوك المواطنين على اختلاف فئاتهم ومستوياتهم الفكريَّة والتعليميَّة والمعيشيَّة، فإنَّهما تؤسِّسان في داخله حسَّ المواطنة وروح المنافسة وسَبق التضحية والمبادرة والعمل التطوعي، وتصنعان فرصًا مُتجدِّدة لتعميق الاستفادة من المنجز الوطني، بما ينعكس على جاهزيَّته وتفاعله مع أيِّ مشروع وطني يراد له أن يكُونَ حاضرًا فيه، فيوجِّه نشاطه وقدراته لدعم هذه الجهود، ويشارك بفعاليَّة في نقل صورتها الحقيقيَّة إلى الأسرة والمُجتمع والأصدقاء، وإلى المُقِيمِين والزوار أيضًا، لِيكُونَ قدوة في ترقية هذه الموارد والاستثمار فيها والمحافظة عليها.
غير أنَّ صناعة هذا الوعي تتطلب ضمانات أخرى تقوم بها مؤسَّسات التأثير والاحتواء والبناء والقرار في حياة المواطن، سواء ما يتعلق منها بِدَوْر الإعلام وقدرته على التعبير عن صوت المواطن ونقل همومه لقِطاعات الدولة، أو كذلك مؤسَّسات الحماية الاجتماعيَّة والعمل والتنمية الاجتماعيَّة والثقافة والاقتصاد والتعليم والبحث العلمي وغيرها في الإجابة على التساؤلات الَّتي يفرضها واقعه وظروفه بكُلِّ شفافيَّة واحترافيَّة، سواء في قضايا التوظيف والتشغيل والباحثين عن عمل والمسرَّحِين من القِطاع الخاص، أو في الملفات المرتبطة بقانون الحماية الاجتماعيَّة وقانون العمل، إلى جانب القضايا الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الَّتي تؤرق المواطن، مثل ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، أو قضايا المخدرات والجريمة. ويتطلب ذلك حوارًا اجتماعيًّا وتواصلًا فكريًّا قادرًا على انتزاع الخوف من المواطن وتقريب الصورة له وتعزيز ثقته، عَبْرَ تقديم مسار حواري وتعليمي وإعلامي وتواصلي متنوع وواقعي يحمل همومه وطموحاته، ويستفيد من أفكاره، ويقدِّم حلولًا واقعيَّة، يُغنيه عن اللجوء إلى المصادر غير الرسميَّة أو غير الموثوقة، وإلى الإشاعات الَّتي تضجُّ بها المنصَّات الاجتماعيَّة.
إنَّ تكامل الجهود الوطنيَّة في احتواء المواطن والوقوف على احتياجاته ووضعه في سلَّم الأولويَّات وتعظيم حضوره واستشعار عظمة الدَّوْر الَّذي يقوم به وإيجابيَّة الخِطاب الوطني الموجّه للمواطن سوف يعمل على إزالة القلق والخوف من المواطن، ومنحه الثقة وإشراكه في صناعة المستقبل، والوقوف على احتياجاته وتوقُّعاته من الجهد الحكومي في إطار من الذَّوق وإدارة المشاعر، بحيثُ يتَّسم التَّوَجُّه نَحْوَ المواطن بالتكامل، وتصبح الصورة النموذجيَّة للمواطن في المستقبل نتاج قناعة وطنيَّة تضع الرأسمال البشري العُماني في الأولويَّة. ويتجلى ذلك في جودة التعليم وقدرته على غرس القِيَم وتنمية القدرات والمهارات، وفي دَوْر القِطاع الخاص ومؤسَّسات الأعمال في إتاحة الفرص للمواطن الباحث عن عمل ووقف مسلسل التسريح القسري، وتوطين الوظائف وتوصين الصناعات وفتح آفاق العمل الواسعة للمواطن، وتبسيط الإجراءات، وتقديم الدعم له لممارسة اقتصاديَّة قادرة على صناعة الفارق، وتطوير حضوره في ريادة الأعمال والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة. كما تأتي كفاءة التشريع ومرونته والتصاقه بالواقع وقدرته على فتح آفاق أوسع للحياة، بوصفه الضامن لحقوق المواطن والمُحقِّق لطموحاته، وفق مبادئ الحقِّ والعدل والمساواة، ممَّا يعزز في نفس المواطن الشعور بالأمان النفسي والوظيفي والاجتماعي والاستقرار الفكري والأُسري، حافزًا له نَحْوَ الإنتاجيَّة ودافعًا للرضا والطمأنينة، ومؤسَّسًا لنمطٍ من القَبول الطوعي لأحكامه. وعندما يشعر المواطن بأنَّ حقَّه محفوظ، وطموحاته مقدرة فإنَّه يقبل على أداء مسؤوليَّاته برغبة وشغف ومسؤوليَّة.
وتبقى الثقة الإطار الجامع للكفاءة الوطنيَّة، الَّذي يعزز فيها القوَّة في الأداء والتمكين في استغلال الفرص؛ فالثقة بقدرات المواطن تعني فرصًا أكبر للحوار مع أفكاره واهتماماته وإنتاجه وابتكاره ومبادراته، وتشجيعه على التعلم المستمر والإنتاجيَّة واستخدام قدراته العليا ومهاراته التقنيَّة والناعمة، وترسيخ قِيَم المسؤوليَّة وروح الاتزان والإيجابيَّة وثقافة الانتظار الهادئ في التعامل مع الواقع، فيعيش المواطن شعورًا بقِيمته كمشارك في التنمية وداعم لاستراتيجيَّات التطوير، معَبِّرًا عن انتمائه لها واعترافه بإنجازاتها. الأمر الَّذي يعزز فيه روح المبادرة لدَيْه، ويُقبل على مسؤوليَّاته بمهنيَّة عالية، ملتزمًا بتحقيق سقف أعلى من التوقُّعات. إنَّ بناء شخصيَّة المواطن الإيجابي، وتحويل الإيجابيَّة إلى سلوك يعيش منجزات الوطن ويتعايش مع تطلُّعاته، يتطلب إعادة هيكلة للبيئة الَّتي نشأ فيها، وللعادات والموجِّهات الَّتي تربَّى عليها في الأُسرة والمدرسة والجامعة ومواقع العمل، وللقوانين والتشريعات الَّتي تضبط مساره وتبرز دَوْره. ويَجِبُ أن يعرف المواطن بوضوح موقع دَوْره في التطوير والإصلاح، وكيفيَّة مساهمته في مواجهة التحدِّيات الاقتصاديَّة والقِيَميَّة وتحدِّيات الأمن الاجتماعي وغيرها. كما يحتاج الأمر إلى تحديد موقع المواطن في البرامج الاقتصاديَّة لرؤية «عُمان 2040»، وما الَّذي يراد له، وما موقعه في مسارات الاستدامة والتنويع الاقتصادي، عَبْرَ ما تقدِّمه الدَّولة من تمكين ودعم وريادة وتبسيط للإجراءات ورفع مستوى الحوافز، وتوفير بيئة عمل ناضجة وآمنة، واحتواء للمواطن رائد الأعمال والباحث عن عمل والموظف، وتمكينه من فرص النجاح، وتأكيد أنَّ ما يُقدَّم من إصلاحات اقتصاديَّة واجتماعيَّة يعزز الاستثمار، ويساند المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة في مواجهة التعثر والملاحقات القانونيَّة. وتتضافر مع ذلك جهود تعزيز برامج الحماية، وترسيخ الهُوِيَّة والمواطنة، وتحديث مفاهيمها بما ينسجم مع الواقع، وتعزيز الاعتراف بالمنجز الوطني وقِيمته الجماليَّة والذوقيَّة في حياة المواطن.
د. رجب بن علي العويسي

