ربما من مخبوء القدر أن يقوم هذا القلم، رغم تهالك صاحبه تحت وطئة دوامة الحياة القاسية، ليكتب رسالته قبل يوم نزول الناخب العماني للصناديق..قبل يوم فقط من الإيذان بميلاد نسخة جديدة من مجلس الشورى، نعمل جميعا على أن لا يكون هذه المرة خديجا في شيء، بل متكاملا وكاملا في كل شيء.
لقد كان لخطبة الجمعة أمس الأثر البالغ في استثارة هذا القلم وصاحبه، وهما يلقيان السمع لرسالة مغلوطة أريد بها توعية الناخب بسمات عضو مجلس الشورى، فإذا هي ترده في الوعي أميالًا وسنين للوراء، لتنذر – لو ما طبق المصلون الناخبون ذلكم التوجيه– بميلاد نسخة مشوهة من مجلس الشورى، معطلة بتعطل أعضاءها، غير قابلة للإنعاش، تعيش عمان فيها الركود والبرود وتصبر أربع سنوات … تفق برزة.. مجلس شورى بروح مجلس بلدي…يلهث وراء الوحدات الحكومية ورؤساءها، ويشتغلون باليوم، يسحبهم معه، بدل التحضير للغد ورسم آفاقه وما سيكون عليه.
إن الفرق بين عضو المجلسين في الاختصاصات والصلاحيات وفي المهام عموما، هو فرق بين السماء والأرض، والفرق بين سمات المختار وصفاته هنا أو هناك تختلف كليًا، بحيث من صلح للبلدي لا يصلح للشورى عادة، والعكس، إذ كل مجلس يحتاج لميولات فطرية للعضو، وخبرات مكتسبة كأدوات تعينه في مهمته في المجلسين.
إن عضو المجلس البلدي هو ذلكم العضو الذي يعمل على تطوير ولايته بتفعيله الأدوات المتاحة له، والقوانين الماثلة أمامه… دون القدرة على تغييرها.. فميدانه ولايته.. يعيش يوما بيوم فيها، ينتقل بين جنباتها وأهلها، متداخلًا معهم حد التماهي… مثال ذلك متابعته للوزارات وفروعها في الولاية، للشركات وتفعيلها المساهمة المجتمعية وتسخير ذلك لولايته، المساعدة في جمع التبرعات لدعم المشاريع المجتمعية وغيرها، دون أن تكون له القدرة في تغيير قوانين تلك الوحدات أو تحسينها أو إلغائها، فمثله مثل فلج جاري أمام قرية يقوم ساقي الأموال (عضو المجلس البلدي) بتوزيع الماء الموجود على قطعها (مقصوراتها وجلبها) بكفاءة، وصورة تخضر منها الأرض بالمتاح من الماء (جرية الفلج)، دون أن يستطيع زيادة كمية الماء من أمه ( آمة الفلج)…من ذلك فهو مشغول بصورة ميدانية يومية حثيثة، لذلك كانت من أكثر الصفات مطلبا في عضو المجلس البلدي هو أن يكون اجتماعيًا، خدوما، ميدانيا، غير ملول…
أما عضو مجلس الشورى فهو ذلك الذي يكون مشغولًا بمعالجة شريعة الفلج (القوانين والتشريعات والتوجهات الاستراتيجية وما يحتاج ذلك من مساءلة وبحث وتقصي ومحاسبة الخ)، من منبعها ومصدرها، من ذلك فميدان عمله ليست ولايته بل العاصمة مسقط، مركز صنع القرار والتشريعات…كل ذلك أثره عام على مستخدمي الفلج ( عموم الولايات ولو كان الباعث ولايته خاصة)، بزيادة ماء الفلج وكميته (جريته) على المدى البعيد (رفع الرواتب، منع الضرائب، رفع مساهمة الشركات في المجتمع، نسبة التعمين ، نوعيته، ووظائفه، إلخ)، ليعيش الناس في عمان أمنا ورخاء، واقتصادا مستداما، وليتمكن عضو المجلس البلدي من ناحية ولايته من توزيع الماء (نسب المشاركة المجتمعية للشركات مثلا) بصورة أكبر على (جِلب) الولاية، وهذا العمل في دراسة التشريعات، وسنها، والمحاسبة عليها، يتطلب ميزات أعمق لصحابها من نزول الميدان، ورعاية المناسبات، ومتابعة الشركات والوحدات، وانشغاله بها، فهي تتطلب سهرًا على قراءة واقع التشريعات والقوانين، ومستقبلها، وعوائقها، وأثرها قريب المدى وبعيده، يتطلب ركوسا في الفهم، وحكمة في الأمر، وأناة في المعالجة (بارض)، ودهاء في الأخذ، ومداهنة في الموضوع حتى استنقاذه.
إن مهمات كلا المجلسين تفرض نمطًا بعينه لأعضاءها، سيضيع كلا المجلسين في حال تبادل أدوارهما، ووضع كل موضع الآخر، وفي سابق دورات مجلس الشورى دليل، والدورة الثامنة، وهي تنزع أنفاسها الأخيرة اليوم، تكلمنا بلسان فصيح صريح عن صدق ما قدمنا، فمن انتقل الى مجلس الشورى من البلدي إنجازاته – إن وجدت– فخدمية ملموسة، نافس فيها أعضاء المجلس البلدي في ولايته وفي دورته، ولكنه مع ظاهر نفعه لولايته، وصدق خدمته لها، إلا أنه أضر بها وبعمان بفعله وممارسته، إذ عطل عن ولايته وعمان أربع سنوات من التقدم التشريعي والعمل البرلماني، وأضاع فرصا عديدة على الوطن من تحسين تشريعات أو إلغائها أو اقتراح آخر، أو محاسبة مقصر من وحدات الدولة ورؤساءها ( وزراء وغيرهم) مما ساهم في تفاقم بعض المشكلات، أو تأخر بعض الإصلاحات، وليست قضية الباحثين عن عمل، ولا قضايا التعليم والصحة وغيرها عنا ببعيد.
لذلك فعلى الناخب العماني إدراك أثر التبادل بين نمطي عضوي البلدي والشورى، وعدم انتخاب الأعضاء أو إعادة انتخابهم لخدماتهم المجتمعية في الدورات السابقة، أو لحملاتهم الإعلامية التي تعد بذلك، فذلك سم في دسم، أثره الحقيقي أعمق وأضر عليه وعلى مجتمعه، بل هو مهدد أمني لعمان وأهلها، وهل قضية الباحثين عن عمل في كل كيانات العالم إلا قنبلة موقوتة، وهل الغلاء في السلع والضرائب إلا وبال على أهلها، وهل قضايا التعليم والصحة وغيرها إلا قضايا يومية يعانيها المواطن والمقيم، تقض نومه، وتؤرق يومه، فأن تنتخب نمط مجلس بلدي عضوا في الشورى سيضرك في كل ذلك وسيشترك في خلق ضغوطات متوالية عليك بعيدة الأثر عميقته، وإن أنار لك دربًا أمام بيتك، أو أقام لك مطبا (كاسر سرعة)، أو دعم لك فريقك الرياضي، أو رعى لك مناسبة، فانتخابه للشورى –من حيث لا يحتسب ولا نحتسب، ففاقد الشيء لا يعطيه– سرطان ينهش في جسد الأمة، وسيؤدي بها إلى السوء حتمًا، ما استمر الناخب في عدم وعيه أو عدم مبالاته لهذا الخلط وتبعاته.
أخيرا وحتى لا تنتج الدورة التاسعة مجلس شورى مشوهًا، ضره أكبر من نفعه، وحتى يكون المجلس الجديد شريكًا لمجلس الوزراء شراكة كاملة دون نقصان في سن التشريعات والقوانين ومراجعتها، ومساءلة الوحدات الحكومية (الوزارات وغيرها) على تنفيذها وأداءها ومحاسبتها، فإني أدعو الناخب العماني وأحثه على تقوى الله في الوطن، وتقوى الله في ولده ونفسه والإنسان، وتقوى الله في منقلبه يوم يلقاه، فكل نفس بما كسبت رهينة، فلا يحملنَّه هوى قبليٌّ أو مذهبي أو توجهٌ فكري أو خصومة أن يرشح على اعتبار أي منها، كما لا يخلط بين نمطي أعضاء البلدي والشورى، فمن كان خدميا لولايته وهو في الشورى في الدورة الثامنة لا يعاد ترشيحه في التاسعة، لأن نمطه بلدي، ومحله المجلس البلدي، يعاد إليه فهو أكثر مناسبة ونفعًا لبلده فيه، ويبحث عن شخص حكيم –ذكرًا أو أنثى– واعٍ رابطِ الجأش غيرِ مهذار.. أو سليط اللسان.. علاقاته ومصالحه الخارجية منقطعة إلا من عمان، يقدر لعمان ثقافتها وحضارتها وكينونتها، محيطٍ بتجارب الأمم الأخرى البرلمانية، غير منقطع عنها ولا منجرف لها، يعي وزن الكرسي الجالس عليه، ويقدر القبة المظلة له، وينتزع مكانة مجلس الشورى أمام مجلس الوزراء بتفعيله لصلاحياته المقرة من لدن صاحب الجلالة، حفظه الله وأمد في عمره، والإصرار عليها وطلب التشريع الذي يحقق هذا التوازن، فإن لم يجد من قائمة المترشحين أحدا يحقق ذلك، ووجد أنهم يفتقدون للحس البرلماني، وحملتهم الانتخابية مليئة بالوعود الخدمية، فعليه اختيار عدم التصويت لأحد في القائمة، وذخر هذا العضو للمجلس البلدي، لتستعين الجهة المشرفة لتحليل بيانات العزوف عن الانتخاب من القائمة والبحث عن سببه، والعمل على تجسير الهوة للدورات القادمة، بتطوير آلية الانتخاب وطريقته، أو بضخ مزيد من الوعي من خلال برامج معدة لذلك.
إن الوعي بهذه الحقيقة، والعمل على ضوئها، سينتج مجلس شورى فعالًا، مجيدًا، شريكًا وندا لمجلس الوزراء، ويكُون ومجلس الدولة شركاء حقيقيين في بناء عمان جنبا الى جنب مع مجلس الوزراء، شراكة توافق واتفاق أو شراكة مدافعة ومنافحة، مصداقا لقوله سبحانه ” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض“، وليتحقق لعمان المكان الذي تستحق بين الأمم في تجربتها البرلمانية، بالنظر الى حضارتها الإنسانية، وتجربتها الموغلة في القدم.. دامت راية عمان عالية خفاقة.. ودام شعبها مخلصا في انتخابه وكل أموره لها هي وللإنسان فيها دون اعتبارات أخرى… مُشهِدا الله الخالق على صدق نيته وإخلاص سريرته.
عبدالحميد بن حميد بن عبدالله الجامعي
السبت
٢٧ صفر ١٤٤١ هـ
٢٦ اكتوبر ٢٠١٩ م