ما أقسى أن تومض شاشة هاتفك عند الفجر فتنعي الحروف فلذة كبدك.
ما أصعب أن تكون العصا التي تتوكأ عليها تنكسر فجأة فتمضي بك الحياة محدودب الظهر.
ما أظلم الدنيا في عينيك والصباح يشرق بلون السخام فيمتد الليل الذي لا صبح له.
لقد أنهى الشيخ إبراهيم بن سعيد بن ناصر السيابي واجبا اجتماعيا في شاذون برفقة والده ، وبدلا من يؤوب إلى فراشه استأذن أباه ليرمس مع أصحابه في نفعاء.
إلا أن الرمسة طالت والحكايات التي بدأت مع نابتة المكان امتدت ليبقى في أيدي الصحاب العطر وفي الأسماع “القفشات”.
وبعد أن ودع الشيخ أصحابه وأسرج جمل الليل باتجاه بيته ووالده ووسادته كان يسرع كما لم يسرع من قبل ليسابق نفسه ، وترجل من صهوة الحياة قبل أشبار من البيت لتتبعثر حكايات وقفشات وضحكات الرمسة التي لن تتكرر .
وبينما أسرته نائمة تصحو على فاجعة وميض الهواتف ولم يكن كالوميض ، ولتسابق أعينها أحرف الرسائل السوادء التي لم تكن كالرسائل.
ورغم أن الموت هو درب الأحياء والدنيا قنطرة الآخرة إلا أن الفقد موجع إذا لم تسبقه الإستعدادات وتتهيأ له المقدمات وتتأهل لتقبله النفوس كالمرض أو الكهولة ، فالشيخ إبراهيم السيابي لم يكن يتشكى من آلام ولا أثقلته السنون.
كان في ربيع العمر الأخضر ، وكان ما يزال يكبر مع أبيه ، ويتسامى بحلم أبيه ويفرع طوله ليكون عصا أبيه.
إلا أن الأب لاحظ على الإبن بعض الأمارات في اليومين الماضيين فكان يراه على غير عادته وكأنه يودُّ التخلص من شرانق بعض الأشياء.
وكان يتابع ابنه بقلق وهو يمر على الربوع وبريق عينيه ينشر الوشائج مع أمكنة وكأنها توشك أن تتفلَّت ، ومع عرى توشكُ أن تنفصمْ.
وكان يراه وهو يضع ابتساماته كآخر وشم جميل في تفاصيل التفاصيل.
لقد ارتبط الشيخ ابراهيم بنفعاء الآباء والأجداد حيث آل مسيَّب يعمرون زمنها ولذلك اختار أن تكون ليلة العمر في نفعاء فيغمض عينيه على آخر نخلة تحركها الريح وهي تنفض خشاش موسم آفل.
ومع انفضاض سامر آخر ليلة غادر الشيخ نفعاء ضاحكا وهو لا يعلم أن تلك الضحكة ستكون أحدُّ نَصْلِ يغمده في قلب أبيه.
وترك نفعاء ليؤوب إلى بيته في الخوض وبريق عينيه يرفد مصابيح السيارات دون أن يعرف أن ذلك البريق سيشرب ضوء عيني أبيه المكلوم.
وفي بلدة الجفنين بين نفعاء والخوض أطبق أقسى جفنين على الشيخ إبراهبم السيابي لتتحرق كل الأجفان على رحيل زين الشباب.
وحين مددتُ يدي لأصافح الشيخ الموجوع في سبلة العزاء تلعثمتْ الشفاه.
وما زلت وأنا أكتب هذه السطور أتساءل ما إذا كنتُ صافحته وواسيته !
وما إذا كنت سألت الله للفقيد حسن الخاتمة ولذويه الصبر.
لقد صافحتُ الكثيرين الذين ضاقت بهم السبلة دون تدقيق مني في الوجوه.
وتحدثت مع كثيرين فتاهت الكلمات.
وحين أتوازن لأرثي الشيخ إبراهيم بن سعيد بن ناصر بن سعيد السيابي فإنني أستذكر اللحظة المؤلمة التي تومض بها الهواتف فيخونني الرثاء.
وأستحضر النذير الذي يسابق في الإبلاغ ليقتل المبلَّغين فتعصيني الأبجدية.
فما أقسى على المرء أن تنكسر عصاه ليعيش العمر محدودب الظهر.
حمود بن سالم السيابي
نفعاء في الحادي والثلاثين من أكتوبر ٢٠١٩ م.
#عاشق_عمان