يعيش الشيخ أبو ناصر فى إحدى المناطق الجبلية، حيث السكينة والهدوء، الطبيعة القاسية بجبالها الشامخة، وطرقها الوعرة، واوديتها المتعرجة، أشجار البرية تنتشر على سفوحفها الجبلية، وأشجار النخيل تشكل عقدا ممتدا أسفل الوادي، تتوحد البيوت في تصميمها الخارجي، الكساء الحجري الصلب يختصر الألوان، تحاكي الطبيعة في مظهرها ومخبأها، تقاوم هجمات الطقس وتقلبات المناخ خلال الفصول المختلفة.
بيت الشيخ أبو ناصر يقع على طرف القرية، يطل بشرفته على مجرى الوادي، والمراعي الخضراء المنتشرة على سفوف الجبال المقابلة، القرية لم تلوثها يد المدنية، ولم يكتسحها ضجيج المصانع، ولم يزاحمها تكدس المرور، زيارة واحدة للقرية تكشف لك كنوزا من عبق التاريخ، هدوئها يدخل السكينة والطمأنينة في نفسية مرتاديها، هواؤها عبيرا شافيا من صداع المدينة ودواء ناجعا ينفض غبار أسابيع من الضجيج والإرهاق والضغوط النفسية وإرهاصات المدن.
إنه موعد إجازة ناصر وأخوه أحمد، اللذان يعملان في المدينة بعيدا عن المكان الذي ترعرعا في كنفه، اعتادا قضاء إجازتهما في القرية لما تتمتع به من عادات وتقاليد لازالت متأصلة في أبنائها، والإستمتاع بجلسات المساء وتناول القهوة الجماعية لأهل القرية في بيت والدهما، كما ترتبط إجازتهما بموسم المغامرة لجني عسل النحل من الكهوف وقمم الجبال المجاورة.
بعد يومين من وصولهما للقرية، والجلوس مع العائلة والأهل والإصدقاء، تولى أخوهم الأصغر سنا علي الذي يعيش مع والده بتجهيز الرحلة المرتقبة لجني العسل، من حبال وغذاء وماء وغيرها من لوازم لإنجاز المهمة، والتي قد تستغرق منهم ثلاثة أيام نظرا لوعورة المنطقة وخطورتها، في صباح اليوم المحدد للرحلة، بدأ المسير بالنزوح إلى بطن الوادي، عابرين المياه المتدفقة على أسطح الحجارة، صوتها الرنان يخترق مسامعهم، ويدغدغ أوتار قلوبهم، ينظرون من حولهم قطيع الأغنام والمواشي في مرعاها، تلعب وتلهو، تدوس على البساط الأخضر، تتغذى على أوراق الشجر، تروي ضمأها من نبع المياه الصافية الرقراقة، وبعد قطعهم لمسافة ساعتين من الوقت، عليهم الإتجاه إلى الجهة الأخرى المقابلة، والمرور صعودا، سالكين المنحدرات السحيقة، والممرات الضيقة، متجاوزين بعض السدود و الحواجز الحجرية التي تعترض طريقهم وتبطئ مسيرهم، عليهم أن يصلوا إلى المكان المناسب قبل المساء لأخذ قسط من الراحة وتناول الطعام، ثم البدء بالعمل لإستخراج خلايا النحل من مكمنها، ربما قد يحتاج ذلك القليل من الجهد وتحمل الألم، ولكن هناك من الخلايا التي تحتاج إلى إستخدام الحبال للوصول إلى مكان أختبائها، وإلى قوة وصبر وتحمل للأخطار، ومع غروب الشمس انتهت مهمتهم لهذا اليوم، وأوجدوا لأنفسهم مأوى آمنا للراحة و المبيت ، ومع شروق اليوم التالى، استكملوا عملهم في البحث عن مخابيئ العسل، فكان يوما رغم صعوبته مكللا بجمع كمية وافرة من خلايا العسل، ولكن الوقت يضايقهم والشمس تأذن بالمغيب، وغسق الغروب أسدل ردائه، عليهم مواصلة البحث لأقرب مكان يستأنسون فيه مبيتهم، وخصوصا بعد يوم متعب وشاق. نزلوا في فتحة مغارة غير عميقة، أنزلوا أمتعتهم، وجلبوا أشواك الأشجار وعيدانه لعمل سياج يحميهم من الكلاب الضالة والسباع المفترسة، ومع حلول ظلام الليل الحالك، سمعوا أصوات تزحف نحوهم، ومع مرور كل ثانية من الوقت يقترب الصوت نحوهم، وما هي إلا دقائق معدودة، إلا ومجموعة من الكلاب الضالة تحيط بهم من كل جانب، محاولة الوصول إليهم، وأمام هذا الموقف المرعب والمكان النائي عن الأنظار والموحش بخلوه من السكان، تنتفض افعى سامة من وكرها، تلسع ناصر في قدمه، ثم تختفي وراء الظلام الدامس، اشعلوا النار للبحث عنها، وجدوا مغارة ضيقة، حاولوا إغلاقها بشكل محكم بالحجارة، للإطمئنان على أنفسهم من عدم عودتها مرة ثانية، وفي نفس الوقت كان لطف الله ووجود السياج الشوكي، دفع الكلاب للتقهقر والرجوع بخفي حنين دون تحقيق مرادها، والوصول إلى مبتغاها، أسرع على وأحمد بمحاولة إنتزاع السم من قدم أخيهم بالطريقة التقليدية، وعمل بعض الإسعافات الاولية وتطهير الجرح بشكل يساعده لإستكمال المسير، شد أعلى القدم برباط وثيق، لإيقاف بقايا أي سم قد يتسرب إلى أعلى جسمه، ثم مددوه لاخذ قسط من الراحة ليتقوى به ليوم جديد. في الصباح الباكر عليهم العودة إلى القرية، والعودة تتطلب منهم أن يسلكوا مسارا شبه راسي في بعض أجزائه، ومائلا في معظم الأحيان، بعدها إتباع طريق الوادي ومن ثم الإنتقال إلى الضفة الأخرى وصولا إلى قريتهم، نظرا لأن الطريق الأول وعر، ومساره خطير، ومسافة قطعه يحتاح إلى وقت أطول بكثير. تحرك الأخوة الثلاثة إلى نهاية المسار الأفقي للجبل، وإنزال أخيهم ناصر يحتاج إلى مساندتهم لأن الألم بدأ يأخذ مكانا في جسده، ويبطء من حركته، وينهك قواه، ربطوا الحبال على خصورهم، يشد بعضهم بعضا، وتركوا أخاهم ناصر في الوسط، حتى لا تبتعد أعينهم عنه، يتحركوا بشكل بطيئ وبحذر كبير. وصلوا أسفل الوادي، وعليهم أخذ قسط من الراحة قبل مواصلة المسير، لكن السماء بدأت تتلبد بالغيوم، هنا أقترح أحمد على أخيه علي بأن ياخذ ما استطاع من خلايا النحل ويتقدم في المسير لطلب المساعدة من اهل القريه، حتى لا يدركهم الغروب بسبب حالة أخيهم، على أن يبقى أحمد مجاورا لأخيه ناصر، مواصلا السير نحو القرية، في هذه اللحظات بدأت السماء بالمطر، شاقا علي طريقه بمجرى الوادي، يخوض المياه، ولايوجد طريقا آخر بديل يمكن السير فيه. ومع اقترابه من القرية ازداد المطر في قوته وغزارته، يصعد علي تاركا الوادي خلفه، يتسلق مسار القرية، شلالات المياه تدفق بين الأزقة، ومنحدرات مجاري الجبال، يخرج الناس من المسجد بعد إداء فريضة صلاة العصر، ارجل أحمد تتثاقل عن المسير، يساعده اهل القرية، يشير إلى أسفل الوادي، إلحقوا بإخواني، إنهم في بطن الوادي، الجميع يهرع لنجدتهم، بمجرد وصولهم عند حافة مجرى الوادي، فإذا بالمياه قد غطت مجراه، ومن الصعوبة المخاطرة بإختراق الوادي، وقف الجميع في ترقب ينتظرون تحت وابل المطر. أحمد يحاول جاهدا لإيجاد مكان آمن له ولأخيه، يتجه إلى الجانب المرتفع قليلا من الوادي، ولكن غزارة الأمطار و إرتفاع منسوب الوادي يجبرهم للصعود إلى إحدى الأشجار المعمرة، يوثق نفسه وأخيه بالحبل المتواجد لديهم خوفا من شدة وسرعة جريان المياه وزيادة منسوبها، ومع مرور الوقت، بدأ ناصر يفقد وعيه، جسده يرتجف من البرودة، ويداه تخذلانه من الصمود على ركن الشجرة، يسقط على المياه، ولكن الحبال تنقذه من الإنجراف، يقفز أحمد لمساندته ورفع رأسه وإنقاذه من الغرق، تستمر المعاناة لعدة ساعات من الوقت، حتى بدأ الظلام يخيم عليهم، ولكن في هذه اللحظات أنخفض منسوب الوادي، واستطاع أهل القرية الوصول إليهم، بعد أن فقدوا الأمل ببقائهم أحياء، ولكن حسن التصرف وسرعة البديهة، ولطف الله بهم قادهم للنجاة.
حمد بن سعود الرمضاني
أبو سلطان
#عاشق_عمان