في إجازته الإسبوعية يحب أن يكون متواجدا في حديقة المنزل من الصباح الباكر، يقلم الأشجار ويرويها من ماء البئر الموجودة لديهم، ينصت لأنغام الطيور، ونشاط حركتها الدائم، وعملها المستميت في جلب طعامها وطعام صغارها، يتنفس بنسائم الصباح الندية، ويمشق أنفه بروائح الأزهار وأريجها الجذاب، يهيئ جلسته المعتادة لتناول وجبة الإفطار وإرتشاف كوب من الشاي.
تلامس أطراف أنامله الجريدة الصباحية اليومية، ينظر إلى أعلى الصفحة الأولى، تلتقط عيناه تاريخ هذا اليوم، يحمله موكب الخيال إلى ذكريات عزيزة وأيام لن تعود، بصماتها ستظل عالقة لا تفارق الحقيقة، ولا تطمسها الشهور والأيام، داعبت خياله، واستذكرت أيامه، تذكر أيام شبابه وفتوته، كان ينام متأخرا عندما تتكالب عليه الواجبات، وتحاصره ذروة أيام الإمتحانات، لم يستطع مقاومة عينية حين يداهمها النعاس، يتراخى جسمه في نفس المكان الذي يذاكر فيه دروسه، تأتي هي لتربت على كتفه، بكل حنان وخفة ودلال، تسانده برقة يدها المتعبة، ترافقه إلى فراشه ، تطمئن عليه وتقرأ عليه أذكار النوم، تطفئ الأنوار، تتجه إلى سجادتها التي تنتظرها مع هدوء الليل، وسكون الأهل إلى مخادعهم، تصلي الليل في ظلمات الليل الحالك، تسجد لله في خوف وتضرع، خاشعة لربها مبتهلة، ذارفة الدموع، مبللة الخدين، تستقطع ساعات قليلة من ليلها ونهارها للراحة والنوم، ليستقوى جسدها المجهد حتى يتمكن من مواصلة العمل ورعاية البيت ومن يسكنه، قبل سماع صوت آذان الفجر، تهرع لتحضير عجينة الخبز، تتركها بعضا من الوقت لكي تتخمر، تحضر نفسها لصلاة الفجر، تطبع قبلة على خد أطفالها لتوقضهم من النوم لصلاة الفجر، تبث في أجسادهم النشاط والحيوية، ثم تسوقها أرجلها إلى المطبخ، خابزة ارغفة الإفطار، تحرق أصابع يدها، وهي تحرك العجينة على موقد الطبخ، يهاجم الدخان بشرة وجهها، ويعكر صفوا بصرها، تواصل عملها في إعداد الطعام والشاي وقهوة الضيوف، تجلس مع أولادها لتناول طعام الإفطار قبل ذهابهم إلى المدرسة، ترتب الأسرة التى لا تزال مكومة في غرف أطفالها، وتكنس البيت بكل حب ونشاط، ثم تنظف الملابس وإعدادها ليوم قادم جديد، تتجه مع قافلة نساء القرية لجلب مياه الشرب من مسافة تبعد حوالي إثنين كيلومتر عن الحي، تتسلى مع صويحباتها بالأخبار والنكت المحمسة والمشجعة لمواصلة العمل وإنجاز المهام، ومع ساعات الظهيرة وبعد إنتهاء صلاة الظهر، تكون قد دنت ساعة إعداد وجبة الغداء، تتجه إلى مطبخها البدائي لإشعال النار، وتحضير مستلزمات الطبخ، ومع قدوم الجميع، تكون المائدة بين يديهم لتناول الطعام وتبادل الحديث، غير أن الإبتسامة لا تفارق محياها، والتعب لم يكسر من معنوياتها، وحبها للعطاء لا يزال ثورانه لم يهدأ ولم يستكين، ينتهي الجميع من تناول الطعام، تلملم هي الأواني بعد مغادرة الجميع للمكان، مشاعر الحب والمسؤولية تدفعها لإستكمال يومها بالعمل في المطبخ وفناء الدار واستقبال الضيوف، وإعداد قهوة المساء، ثم النزوح لإستجلاب مزيد من مياه الشرب وخاصة في الصيف عندما يزداد لفيح الحرارة، وزيادة طلب الجسم للمياه، ثم الإستعداد لتحضير وجبة العشاء وما تليها من أعمال لتصل إلى حوالي التاسعة من الليل، وقد اعتلا كاهلها التعب والأرق ، وانهك قدميها طول الوقوف والمشي في الطرقات، وبدأت يديها تبطئان في غسل الأواني ووضعها في الرفوف العلوية من المطبخ، عيناها لم تساعدها في السهر ومواصلة الحديث مع من يعيشون حولها، يتراخى جسدها المحمل بالمسؤوليات الجسام، أتذكر هذا التاريخ واليوم الذي رحلت فيه الوالدة إلى مثواها الأخير، لم تشكو يوما لأحد من ضجر او ملل او تعب، كانت صابرة مجاهدة مضحية، لأجل أطفالها وبيتها، برغم الإمكانيات المحدودة في يومها، بعد رحيلها شعرنا بمدى أهمية و جودها، فهي روح العائلة وقلبها النابض الرصين، وحبلها المتين في تماسكها وترابطها الوتين ، المليئ بالحب والود والعطاء.
إنها الأم التي تعطي بدون مقابل، وحبها الذي لا تطفؤه تعاقب الشهور والأيام.
حمد بن سعود الرمضاني
أبو سلطان
#عاشق_عمان