أقفُ أمام الشباك الثالث للحجرة النبوية الشريفة لأزجي الفاروق ابن الخطاب السلام ، وأتزلزل في حصباء خضراء بني دفاع لأقرئ فاروق عمان سالم بن راشد السلام.
جاء الفاروقان إلى تاريخنا لينهضا بإرث من سبقهما فغرس أبو لؤلؤة المجوسي خنجره الحاقدة في صدر ابن الخطاب ثأراً لهدم إيوان كسرى ، وبَيَّتَ أبو بسرة “سطين التويلي” أمراً بليل فَصوَّبَ رصاصاته الغادرة ليغيِّرَ مجرى التاريخ.
وما تزال الدماء الزكية لابن الخطاب تثعبُ في محراب النبي الأكرم رغم توالي القرون ، ولم تجفف الشمس دماء الرضي الخروصي على حصباء عندام ولا غسلها المطر طوال مائة عام.
ورغم تباعد الموضعين مكاناً وزماناً إلا أن الدماء لها نفس الأريج فالخنجرَ المجوسية والبندقية الضالة ضربتا من قوسٍ واحدة.
وكانت ردة فعل الشهيدين ابن الخطاب والرضي الخروصي تجاه الخنجر والبندقية واحدة ، فقد حمد عمر الفاروق الله أن جعل الخنجر الغائرة في بدنه الشريف لرجلٍ لم يسجدْ لله سجدة واحدة ، والتفَتَ الفاروقُ الخروصي المُوشَّى بأرفع أوسمة الإستشهاد إلى أبي بسرة ليقول له :”أرحْتَني وأشْقيتَ نفسك”.
وحين وصلتُ خضراء بني دفاع رفقة صحبة طيبة من الإخوة والأبناء ، كانت البلدة في مقيلها تستريح ، وأبواب البيوت مؤصدة والدروب تتثاءب إلا منْ فارِّينَ من أمْرٍ أو مستعجلينَ الخطى إلى بيوتهم لأمْر.
وكانت الأسئلة تغُصُّ في حلوقنا “أنسأل عن بيت الإمام سالم ؟ أم عن ضريح الإمام سالم” ؟ فَسَاءَلْنا وادي عندام عن بيت الفاروق الخروصي ، فالشهداء لا يموتون.
أشار لنا طفل دون العاشرة إلى أكمةٍ من أكمات الفردوس تتفيأ سمرة عند السفح فقال إنه هناك، فمشينا نجرُّ مائة عام من الغصص على حصباء تتفصَّد غيظاً وغضباً.
هذا هو بيت الشهيد الخروصي إذن … وها أنذا أتخير المكان الصحيح لأقرئ الإمام السلام.
أفتحُ كفيَّ متجهاً للقبلة فتتعامد الأضواء.
وأرفعُ عينيَّ إلى الشمس فتتهجُّدُ الأهدابُ وهي تسترحمها :حنانيكِ يا أخْتَ يُوشَعْ.
وأسرِّحُ الطرف في “عندام” وقد قامت قيامته.
وتأخذني المخيَّلةُ إلى محراب سيد الخلق فتتلاقى دماء الفاروقين ، فذاك منذ تقلده إمارة المؤمنين لحين استشهاده في المحراب وطيبة الطيبة ومن خلفها كل حواضر الإسلام تنحني جباهها لعدله ، وهذا منذ البيعة في تنوف سنة ١٣٣١ للهجرة وإلى أن اصطبغ”عندام” بدمه الشريف سنة ١٣٣٨ للهجرة والعدل أساس دولته وعنوان مسيرته وتاريخه.
أقتربُ من الرأس الشريف لعمر ابن الخطاب لأزْجي السلام فيغطي رجل الأمن شباك الحجرة النبوية بجسمه وبزته العسكرية وأنجمه وسلطاته فيزيحني بحجة الإفساح للوادي الجارف من البشر الذين شدُّوا الرحال لسيد الخلق وصاحبيه.
وأقترب من الرأس الشريف لسالم بن راشد فلا أجد رجلَ أمنٍ يحجب عني مكان الزيارة بل أجد النسيمَ يأخذني لشاهدِ القبرِ فأتحسَّسه ، ويصطحبني النورُ لجبينِ الإمامِ فأقبِّله.
ويقودني العطرُ لبيته فأشمُّ زمناً لم أعشه بل قرأته ناصعاً في تحفة الأعيان والعنوان عن تاريخ عمان ونهضة الأعيان وقصائد أبي مسلم والمُرِّ والسالمي ابن شيخان.
وأجلس على جدول روضة الفاروق الخروصي لأسْردَ إسلامَ عمرٍ وهجرةَ عمر وفتوحاتِ عمر ورحمةَ عمر وعدلَ عمر.
وعند كل عنوان في السيرة العمرية ، أستفتحه بأبي عبدالله ابن الخطاب ، وأختتمه بأبي عبدالله سالم الخروصي رغم أن الرضي ابن الخطاب كان إماماً للأمة كلها ، والرضي الخروصي مجرد إمامٍ لجزءٍ من عمان .
وكما تتركُ الوقفةُ أمام الشباك الثالث في الحجرة النبوية شوقاً للتكرار ، تراود النفس العودة لشدِّ الرِّحال إلى خضراء بني دفَّاع حيث يُسجَّى خيرُ الرجال.
وبينما أخت يوشع توشك أن ترتمي في غدر نخيل الضفة الأخرى لعندام ، عاودتُ استرحامها “بحنانيك” رغم أن المسجَّى في زعفران المكان له بواكيه من الغمام وأسراب الطير ، ورفيف أجنحة الملائكة التي تحول بينه ولهب الشمس.
وقبل أن أبارحَ الروضة السالمية تذكرتُ مرثية أبي مسلم ففتَّشْتُ في هيميانِ الإمام لأتلوها بين يديه كما تلاها غيري طوال مائة عام:
“مولاي أبشرْ لن تزال مجيدا
حفظ الإلهُ مقامك المحمودا
إقبالُ دهرك بالبشائر مؤذن
تزجي جدوداً أشرقتْ وسعودا
نظرتْ إليكَ من السعادةِ عينها
فارفعْ يديْكَ لتشْكرَ المعبودا
وعدٌ تحققه المشيئةُ قد أتى ولسوفَ تعرفُ ذلك الموعودا
قَرُبَ الزمانُ وأشرقتْ أيامُهُ
ليس الزمانُ بما أقولُ بعيدا
سترى العجائبَ مسرعاتٍ ترتمى تحيي جهاراً ميتاً مفقودا
فخذِ الإشارةَ من لسانٍ صادقٍ
حتى تشاهدَ يومَكَ المشهودا
ولقد أتيتُكَ قبلها بإشارتي
وأظنُّ أنك تذكر المعهودا
أبدى الزمانُ بما يكنُّ ضميرُهُ
وترى زمانا بعد ذاك جديدا
أخليفةَ الرحمنِ أيقنْ بالقضا
ليس القضاء بحيلةٍ مردودا
يا من أضلَّ بعيرُهُ بمضيعةِ
أبشرْ وجدتُ بعيرَكَ المنشودا”
حمود بن سالم السيابي
مسقط في السادس من فبراير ٢٠١٩
#عاشق_عمان