بعد حرب 1973 ، نشرت صحيفة ” الجمهورية ” سلسلة مقالات نقلاً من سجلات القوات المسلحة ، ومن بينها وتحت عنوان : ” كمين خلف مواقع العدو ” قامت بتسجيل أحد الكمائن التي قامت بها وحدات الصاعقة المصرية خلف الخطوط …
وجاء في المقال : ” تحركت القوة خلف خطوط العدو ، وقام المقاتل ” معصوم ” قائد الوحدة بتوزيع الألغام ونشر القوات … ثم اشتبك الكمين وتمكن بنجاح من تدمير دبابات العدو … ” …………
التاريخ المسروق :
هذه هي الحكاية باختصار .. بضع سطور في إحدي صفحات الجريدة ، ربما مر عليها القراء مرور الكرام ، حيث كانت الصفحات آنذاك مرصعة بقصص البطولة والفداء ، ولكنها كانت تمثل لي شخصياً أهمية خاصة ، لذلك حرصت علي نزع هذه الصفحة والإحتفاظ بها بين أوراقي ، وكنت خلال هذه الفترة لا أزال أتنفس رائحة البارود وأسمع أصوات الإنفجارات وصراخ التوجع وشهقات الموت ، وأري النيران تلتهم الجماد والأحياء ، ولكنني كنت أيضاً أتذكر بحزن دفتري الذي كنت أسجل فيه يومياتي وخواطري وقراءاتي في الجبهة، وكنت قد تركته في دولابي بمؤخرة الكتيبة قبل أن نتحرك للأمام ، إلا أن العدو تمكن من سرقته عندما نجح في إختراق قناة السويس أثناء عملية الثغرة ، حيث تسلل إلي مواقعنا الخلفية والتي كنا قد غادرناها منذ بداية العمليات …
لقد سرقوا جزءاً من تاريخي الشخصي ، وربما وجدوا في الكلمات التي كتبتها سراً من أهم أسرار مصر في العصر الحديث ، سر إرادة هذا الشعب وقراره الحاسم في التخلص من آثار الهزيمة وتحقيق النصر …
……………
لقد اعتبرت أن مقال الجمهورية عن ” كمين الصاعقة ” هو صفحة جديدة من تاريخي وتاريخ الأمة ، في بداية دفتر جديد تمتلئ صفحاته بالإنتصارات ، دون أن نسمح لأحد بأن يسرقها منا مرة أخري .. وامتلأ الدفتر بالفعل بصفحات عديدة سطرت فيها خواطر ومشاعر وأحداث ، لكنني اليوم وجدت بي رغبة في العودة للصفحة الأولي ، فأعدت قراءة مقال الجمهورية واجتاحتني مشاعر وذكريات طاغية ، صرفتني عن قراءة باقي الصفحات …
كأنني اكتشف فجأة أن المقال كان جد مختصر ، وأنني لم انتبه لذلك لأن ما ركزت عليه هو إسمي ( المقاتل معصوم ) ، حيث لم يرد فيه غير هذا الأسم ، شعرت بالأسي حين تبين لي أن المقال اكتفي بذكر القائد وأغفل أسماء الرجال ، الأبطال الحقيقيين الذين اقتحموا دبابات العدو بصدورهم العارية ، كم كنت أنانياً عندما طويت هذا المقال دون أن أكتشف هذه الحقيقة ، ان النصر لم يتحقق في النهاية إلا بسواعد هؤلاء الرجال ودماءهم الذكية .
ورغم أنني علي مر السنوات الماضية كتبت أكثر من مرة عن رجالي الشهداء والأحياء منهم ، إلا أنني أشعر الآن بأن مقال الجمهورية المذكور في حاجة لإعادة صياغة ، وأن دفتري في حاجة لإعادة تصحيح منذ صفحته الأولي ، فمن الصحيح أن إحدي أهم خصائص الجيش المصري في هذه الحرب كانت أن الضباط كانوا يتقدمون وهم يشيرون لقواتهـــــــم : ” أتبـــعوني ” ، إلا أنه من الصحيح أيضاً أن مئات الآلاف من الجنود المصريين كانوا يتدافعون بكل جرأة وشجاعة لدرجة أن قادة العدو كانوا يصرخون في أجهزة اللاسلكي وهم يستنجدون : ” أننا نقتلهم ويتقدمون .. نلقي عليهم بالحمم ويتقدمون .. يسقطون و ينهضون ويتقدمون .. انهم في كل مكان يتقدمون ” …
أمر القتال :
تلقيت مهمتي بعد ظهر يوم 17 أكتوبر 1973 في مركز القيادة المتقدم للجيش الثالث ، وهي باختصار إعداد كمين لدبابات العدو شرق الطريق العرضي المواجهه للخط الأمامي للواء السابع مشاه ، وكانت مهمتي هي تأمين وحدة صاعقة أخري ستتوجه مساء نفس اليوم للإغارة وتدمير موقع مدفعية للعدو كان يسبب إزعاجاً لقواتنا ، ونظراً لوجود تجمع للدبابات المعادية بالقرب من موقع المدفعية ، كان من المتوقع أن تنقض علي قوة الإغارة بعد تنفيذ مهمتها ، لذلك فقد كان دور وحدتي هو إعداد الكمين وإنتظار الدبابات التي سيتم دفعها والتعامل معها بهدف تدميرها أو علي الأقل تعطيل وصولها لوحدة الصاعقة الأخري .
وأثناء إستلامي للمهمة علي الخريطة طلبت من القائد أن يسمح لي بضم جماعة معاونة من سرية المهندسين العسكريين ، وذلك للإستعانة بهم في نشر بعض الألغام في مكان الكمين ، موضحاً أنه إذا كان المتوقع هو هجوم 7 دبابات ، وحيث أن معي فردين فقط مزودين بسلاح مضاد بالدبابات ( آر بي جي ) ، وحيث أنه بالحساب العسكري يمكن لإثنين أر بي جي تدمير دبابة واحدة أثناء الإشتباك ، فأنني أريد أن استعين بهذه العدد الإضافي من سرية المهندسين العسكريين ، وذكر لي قائدي أنه من الصعب توفير أي معاونة في ذلك الوقت ، وأثناء المناقشة كان هناك أحد كبار القادة الذين لم أكن أعرفهم يجلس في ركن من الحجرة ، وفوجئت به يقول لي بصرامة : ” هل أنت خائف يا حضرة الضابط ؟ ” ، والتفت إليه مكشراً – كما ينبغي لمقاتل الصاعقة – وأنا أطلب منه عدم التدخل ، وكاد الأمر أن يتطور لولا أن قائد الصاعقة احتجزني بصدره وهو يهمس في أذني بإسم هذا القائد الكبير ، ثم جذبني خارج الحجرة كي نستكمل مناقشة المهمة ..
في واقع الأمر كنت أريد أن أستفيد بالمعاونة الهندسية لأنني كنت قد حصلت علي دورة تدريبية في أعمال الهندسة العسكرية ويمكنني تعظيم إمكانيات وحدتي الصغيرة بإضافة بعض الألغام إلي الكمين ، قال لي قائدي : ربما لا يتم دفع الدبابات الإسرائيلية أساساً ، ولا تحتاج للإشتباك .. وعلي أي حال أنت مطلوب منك مجرد تعطيل الدبابات ، وبمجرد أن تشتبك معهم سوف ينسحبون .. لقد اعتدنا علي ذلك منذ بداية الحرب … لم يكن قائدي يعرف آنذاك أنني متشوق ليس فقط لمعركة تعطيلية وإنما لمعركة أدمر فيها أكبر عدد من دبابات العدو .. في النهاية وافق علي إقتراح آخر لي بأن يسمح لي ولأفراد وحدتي بأن يحمل كل واحد منا لغماً ، رغم تحذيره بأن الحمل سوف يكون ثقيلاً علينا ، خاصة وأننا سوف نقطع حوالي 15 كم سيراً علي الأقدام في أرض يحتلها العدو …
عدت بسرعة لأفراد وحدتي قبل أن تغرب الشمس ، وجلسنا في شكل حلقة دائرية حيث شرحت لهم علي الخريطة المهمة الجديدة ، ورسمت لهم فوق الرمل صورة للكمين كما أتصوره والأماكن التي سوف نوزع فيها الألغام بحيث تتكامل مع توزيع أفراد الكمين ، وكانت الخطة تعتمد علي دفن الألغام في شكل قوس يتقاطع مع قوس الكمين ، بحيث تكون بدايته عند نقطة إقتراب الدبابات ، ونهايته بمحازاة الطريق الذي قد تتراجع عليه الدبابات بعد الإشتباك ، واتفقت معهم علي أننا لن نطلق طلقة واحدة حتي ينفجر اللغم الأول في الدبابة الأولي .. ثم طلبت منهم إعداد أسلحتهم ومعداتهم بالإضافة لصرف لغم لكل واحد منهم ، علي أساس أننا سنبدأ في التحرك من خلال الخط الأمامي لقواتنا بعد آخر ضوء ..
وخلال الوقت المتاح قبل التحرك وجدت بي رغبة لكتابة بعض سطور لأمي ، فنزعت ورقة صغيرة وكتبت فيها بلسان شهيد أطلب من أمي ألا تحزن ، وأنني قد حققت وعدي ، وأنها يجب أن تفخر بذلك لأننا ” أحياء عند ربهم يرزقون ” …
والحقيقة أنني لم أكن أتخيل أننا سنعود أحياء من هذه المهمة ، فهي في عمق دفاعات العدو ، وحتي لو نجح الكمين فأننا لن نبتعد كثيراً عن مطاردتهم لنا خاصة وأننا سنقطع أكثر من خمسة عشر كيلو متر علي الأقدام ..
سلمت الورقة التي كتبتها إلي أحد زملائي ( الملازم محمود ) الذي عانقني بقوة ( قال لي بعد الحرب أنه لم يتصور أنه سيراني مرة أخري ) ، ثم اجتمعت مع أفراد وحدتي بضع دقائق حيث أعدنا التأكيد علي الخطة والذخيرة مع ضبط البوصلات ، وفي نقطة الإلتقاء المتفق عليها حضر أحد ضباط إستطلاع اللواء السابع كي يصحبنا إلي نقطة البداية في الخط الأمامي للواء .. وفي الظلام كنا نمر بمواقع قواتنا المتحفزة ، ويطلبون منا كلمة السر في خشونة ، حتي عبرنا الحد الأمامي لهذه القوات ، وأصبحنا في المنطقة الحرام ما بينها وبين قوات العدو …
خلف الخطوط :
أخذنا التشكيل القتالي الخاص بالتحرك خلف خطوط العدو ، وكنت في الأمام وإلي جواري حامل الرشاش الجندي ” مصطفي ” ، وفي المؤخرة كان رقيب الفصيلة ( الشهيد محمد عبد العزيز رضوان ) ، بينما كان الجندي محمد عبد الفتاح والجندي مصطفي الحادي ( أستشهد في معركة أخري ) يحملان قاذفين مضادين للدبابات ، ويسير إلي خلفهما الجندي / جابر يواقيم إلي جوار الجندي / سمير ، ثم يتحرك علي يمين التشكيل العريف / صلاح ( استشهد في معركة أخري ) ، وفي أقصي اليسار وبشكل سهم مقلوب كان يتحرك الرقيب / متري غطاس ومعه الجنديان / محمد عباس و فاروق ( استشهد في معركة أخري ) لتأمين الجانب الأيسر ، والعمل كقاعدة نيران لتأمين الدوارية إذا اكشفنا العدو واشتبك معنا ، بحيث يمكن لباقي الوحدة المناورة والإلتفاف للإنقضاض علي العدو ..
كان خط الأفق أمامنا يمتلئ ببعض الطلقات المضيئة ، كما كنا نسمع أصوات انفجارات واشتباكات علي البعد ، لا أتذكر أنني كنت أفكر في أي شيئ سوي أن كل حواسي وجوارحي كانت متحفزة ، ولكنني أذكر أن متري أصدر الصوت التحذيري المتفق عليه ، فتوقفت الداورية وكأنها مجموعة من الأصنام ، بينما تحرك الجندي فاروق في أتجاهي ثم همس بأن هناك صوت محرك علي يسارهم ، فنظرت حيث يشير وأشرت لباقي الوحدة بالإنبطاح علي الأرض والتأهب ، فأخذ كل منهم وضعه القتالي ، بينما أسرعت إلي المكان الذي كان متري يرقد فيه ، وألقيت نفسي إلي جواره وأرهفت السمع ، وكان هناك بالفعل صوت محرك خلف تبة علي مسافة حوالي 500 متر من مكاننا ، كانت إحدي سيارات العدو المجنزرة ، وبدت وقتها صيداً ثميناً حيث لم ألاحظ أي عناصر أخري للعدو ، ويبدو أنها كانت تقوم بعملية إستطلاع ، وفكرت أن اقوم بالهجوم عليها ، إلا أنني تذكرت مهمتنا الأصلية ، وتذكرت رفيقي الذي سيقوم بالهجوم علي موقع المدفعية ويعتمد علينا لتأمينه من هجوم الدبابات ، فتراجعت عن فكرتي ، وظلننا ساكنين كالصخر بينما السيارة المجنزرة تدور في المنطقة المحيطة بنا وكأنها تبحث عنا ، ومر الوقت كالدهر حيث كنت قلقاً من وصولنا متأخرين إلي موقع الكمين بعد أن تكون وحدتنا قد نفذت الإغارة واندفعت إليها الدبابات .. وأثناء ذلك زحف الرقيب ( الشهيد ) محمد عبد العزيز حتي أصبح إلي جواري ، وهمس لي وهو يشير إلي المجنزرة قائلاً : ” فرصة يا أفندم ” .. ودون أن أشرح له ما كنت أفكر فيه ، طلبت منه أن يعود لموقعه ، ولا أنسي نظرة الحسرة في عينيه لضياع هذه الفرصة …
وبعد وقت ثقيل اختفت المجنزرة في اتجاه الشرق ، وأصدرت أوامري بمتابعة التحرك وبخطوات أسرع حتي نعوض الزمن الذي اضعناه ، وكنت كلما سمعت أصوات انفجارات قريبة أتصور بهلع أن وحدتنا الأخري تقوم بتنفيذ الهجوم وأننا تأخرنا في الوصول ..
رغم ذلك وصلنا إلي موقع الكمين في الوقت المحدد ، وبدأنا علي الفور في دفن الألغام في القوس المتفق عليه ، وقد شعرنا بالراحة للتخلص من وزن الألغام الثقيل ، ثم انتشرنا لنتوزع في الأماكن المحددة لكل فرد بدقة طبقاً لطبيعة الأرض ، وكان موقع الكمين مثالياً حيث تحصره من اتجاه الشرق بعض الكثبان الرملية التي يستحيل للدبابات المرور منها ، بينما انتشرنا في شكل قوس في اتجاه الغرب والجنوب الغربي بفاصل يترواح ما بين أربعة إلي خمسة أمتار فيما بيننا وفقاً لطبيعة الأرض وإمكانية تحقيق الرؤية المتبادلة ..
كان موقع مدفعية العدو المستهدف بهجوم وحدة الصاعقة الأخري يبعد عن موقع الكمين بحوالي 7 كيلومترات في اتجاه الجنوب ، ورغم هذه المسافة أمكننا أن نري ونسمع بوضوح صوت الإنفجارات والطلقات التي تصاعدت في هذا الموقع أثناء أنقضاض الصاعقة المصرية عليه ، وكانت مفاجأة عندما هتف الجندي مصطفي الحادي : ” الله أكبر ” ، بالمخالفة لتعليماتي المشددة بالصمت والسكون الكامل ، لقد شعرت وقتها أن سيناء كلها قد سمعت صوته ، وأن موقع الكمين قد تم كشفه ، ورغم غضبي الشديد إلا أنني كنت سعيداً وأنا أنظر إلي ألسنة اللهب التي تتصاعد من الموقع الإسرائيلي ، والإنفجارات المتوالية التي لحقت بذخيرته التي كانت تتصاعد في السماء كالألعاب النارية في كل اتجاه ، لقد نجحت الإغارة وبقي الآن دورنا ..
الإشتباك والنصر :
كانت التعليمات أن أستمر في نصب الكمين بعد انتهاء الإغارة ولمدة نصف ساعة ، فإذا لم تندفع دبابات العدو فيجب أن أبدأ في الإنسحاب فوراً حتي نتفادي أن يطلع النهار علينا ونحن لا نزال خلف خطوط العدو ..
ومر الوقت ثقيلاً دون أن أي يظهر أي نشاط للعدو ، لدرجة أنني تصورت أننا لم نكن في الموقع الصحيح ، ومرت النصف ساعة ثم عشرة دقائق أخري وليس حولنا سوي السكون المطبق ، وبدأ جنودي يتململون في مواقعهم ، ولكنني قررت أن أنتظر لبضع دقائق أخري ، وأنا أشعر بالندم لعدم إصطيادنا للمجنزرة التي صادفناها في طريقنا ، وكنت علي وشك أن أصدر تعليمات إخلاء مكان الكمين عندما سمعنا صوت جنازير دبابات تقترب ، فحبسنا أنفاسنا حتي شاهدنا شبح دبابة ضخم يندفع في أقصي شمال الكمين ، وتمنيت ألا يتهور محمد عبد الفتاح ويطلق قذيفته المضادة للدروع قبل أصطدامها باللغم الأول ، كانت الدبابة تقترب بسرعة وهي تطلق رشاشها النصف بوصة في جميع الإتجاهات ، كانت تبدو مخيفة وصوت محركها يهدر بقوة ، وفجأة أنفجر اللغم تحت جنزيرها الأيمن ، وارتجت الدبابة بشدة ومالت علي جانبها الأيمن إلا أنها استمرت تضرب برشاش النصف بوصة بالإضافة إلي مدفعها الذي أطلق قذيفتين علي الأقل في أتجاه الكثبان الرملية ( التي لم نكن فيها ) ، قبل أن يصوب محمد عبد الفتاح بدقة ويدمرها بطلقة واحدة من الأر بي جي ..
هتفنا جميعاً : ” الله أكبر ” ، في حين لا حظت أندفاع دبابة أخري من يسار الدبابة المدمرة وكانت تتجه إلي الكمين مباشرة وهي تقصف بالرشاش وبقذائفها ، وكانت الشظايا تتناثر خلفنا وفيما بيننا كالجحيم ، بينما كنا نصب عليها كل الأسلحة المتوفرة لدينا ، رأيت مصطفي الحادي يصوب قذيفة آر بي جي لم تؤثر فيها ، بينما كان محمد عبد العزيز قد خرج من حفرته مهرولاً في اتجاه الدبابة وهو يرمي عليها قنبلة مضادة للدبابات ، إلا أن كل ذلك لم يؤثر فيها ، بينما تبعتها دبابة أخري توقفت إلي جوار الدبابة المحترقة وهي ترمي بدورها في اتجاهنا ولكن بشكل غير دقيق ، ثم جاء دور اللغم الثاني حين حاولت الدبابة الأولي أن تعدل من وضعها للخلف قليلاً ، وأمالت مدفعها لأسفل ، وكانت في مواجهتي مباشرة ، وفي هذه اللحظة انفجر اللغم بينما كانت القذيفة الثانية لمصطفي الحادي ترتطم بأسفل برج الدبابة الذي طار مع انفجار هائل أدي إلي تطاير الرمال والصخور في وجوهنا ، كانت هناك دبابة رابعة قد زحفت ووقفت علي مقربة من الدبابة الثالثة وهما يرميان بكل قوة في اتجاه الكمين ، إلا أنهما بعد انفجار الدبابة الثانية ، تراجعا فجأة إلي الخلف ليصطدما بحد قوس الألغام الشرقي وينفجرا حيث شاهدت بعض أطقهما تفر تحت وطأة طلقاتنا التي أستمرت بلا توقف …
سمعنا أصوات جنازير أخري تبتعد ، ثم بدأت بعض قذائف المدفعية تسقط حول مكان الكمين ، فأصدرت أمر الإنسحاب ، واتجهنا جميعاً بأقصي سرعة إلي منطقة التجمع المتفق عليها ، ولدهشتي لم تكن هناك أي خسائر في وحدتي ، سوي إصابة بسيطة بذراع الجندي محمد تم التعامل معها ، ثم بدأنا علي الفور في أتخاذ تشكيل القتال للعودة إلي خطوطنا …
وصلنا قرب الحد الأمامي لقواتنا عند مطلع الفجر ، وكان الضباب كثيفاً ، والأرهاق قد حل بنا جميعاً ، ولكننا كنا نشعر بسعادة غامرة ، لقد نفذنا المهمة علي أتم وجه ، وها نحن نعود جميعاً سالمين ، وبدأ الجنود يتحدثون بلا رهبة ويضحكون وهم يتذكرون المواقف المختلفة أثناء المعركة ، بينما كنت أعنف الجندي مصطفي علي الصيحة التي أطلقها قبل بداية الكمين ، وفجأة وجدنا سيل من الطلقات ينهمر علينا من اتجاه الحد الأمامي لقواتنا ، فانطرحنا جميعاً فوق الرمال ، وبدأنا ننادي كي يتم التعرف علينا بلا جدوي لأن أتجاه الريح كان يحمل صوتنا بعيداً ، بينما استمرت طلقات الأسلحة الصغيرة التي لحقت بها قذائف الهاون فيما بعد تنهال علينا ، وشعرت وقتها بالمرارة حيث لم نمت أثناء مهمتنا ، وسوف نموت بنيران صديقة !! ..
وفجأة توقفت النيران ، ثم لاحظت أن جنودي ينهضون من أماكنهم ، فصرخت فيهم بالبقاء منبطحين ، إلا أنني أدركت ما حدث ، فقد كان الجندي / محمد عبد الفتاح قد تفتق ذهنه عن نزع سترته ثم رفع فانلته البيضاء فوق سلاحه لأعلي وكأنه يطلب التسليم ، ولذلك توقفت نيران قواتنا ، وقبل أن نصل إليهم اندفعت إلينا سيارة جيب بها ملازم أول وبعض جنود ، وتبادلنا بعض الكلمات الخشنة قبل أن يتضح الموقف بشكل كامل … ولدهشتي مرة أخري لم يصب أي فرد في وحدتي بخدش …
عدت إلي الموقع الخلفي حيث وجدت الملازم محمود يأخذني في عناقه ، وسألته عن مصير وحدة الصاعقة الأخري ، فأفادني بأنها أتمت مهمتها بنجاح وعادت إلا أنها خسرت أربعة شهداء وبها بعض المصابين … ثم وضع محمود يده في جيبه وأخرج الرسالة التي كنت قد تركتها معه كي يسلمها لأمي .. قال لي مبتسماً : ” أنا لست ساع بريد !! .. سلم رسائلك بنفسك ” ( ولا تزال هذه الرسالة معي حتي الآن !! ) …
لقد خضت مع هؤلاء الرجال قبل ذلك وبعد ذلك العديد من المعارك ، وكانوا الأوفياء الأنقياء دائماً ، استشهد منهم من استشهد ، وأصيب من أصيب ، ولا تزال ذكراهم معي لم تفارقني ، بورك هذا الجيل العظيم ، وبوركت يا أرض مصر النبيلة التي تلدين مثل هؤلاء الرجال ..
السفير معصوم مرزوق – مصر
مساعد وزير الخارجية الأسبق